أفريقيا

الطائفية في إثيوبيا والتداخل الديني والعرقي والسياسي

من غير المستبعد في السياسة الإثيوبية ربط النزاعات الدينية والطائفية من أجل تحقيق أهداف سياسية لدول كبرى، فلم يمنع الانتماء الديني لقومية الأمهرة من مساعدة حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد في عمليته العسكرية للسيطرة على أراضي تيجرانية تشاركها في الديانة المسيحية، فتغرق الدولة الإثيوبية في نزاعات طائفية عرقية عدة.

مما يضعنا أمام مشهد جديد قد تستعيد الكنيسة الأرثوذكسية دورها وسط فتنة طائفية دينية عرقية، وخلاف مع الحكومة. فما هي طبيعة هذا الصراع الطائفي، والمكون الديني في الدولة الإثيوبية، ولماذا تطفو فكرة الكنيسة الأرثوذكسية خاصةً مع الدعم الإسرائيلي لموقف الأرثوذكس الإثيوبيين في دير السلطان بفلسطين، والإدانة الكنسية لهجمات آبي أحمد، والسير نحو سيناريو تفتيت الدولة الإثيوبية أو العودة التيجراينة للحكم، وعلاقة إسرائيل بالديانات في إثيوبيا، وأهدافها المستترة؟ 

الديموجرافيا الدينية الإثيوبية:

تقدر حكومة الولايات المتحدة إجمالي عدد السكان حتى منتصف عام 2019 بنحو 111.5 مليون نسمة، وفي أحدث إحصاء سكاني أجري في عام 2007 قدّر أن 44٪ من السكان ينتمون لكنيسة التوحيد الأرثوذكسية، و 34٪ من المسلمين السنة، و 19٪ ينتمون إلى الجماعات المسيحية الإنجيلية أو البنتاي كما تطلق عليهم الكنيسة الأرثوذكسية، إلا أن هذه التركيبة السكانية قد شهدت تطورًا بزيادة نسبة أتباع الكنيسة الإنجيلية. 

يتمركز أتباع الكنيسة الأرثوذكسية في المناطق الشمالية من إقليمي التيجراي والأمهرة، بينما ينتشر المسلمون في إقليم الأورومو إلى جانب عفار والإقليم الصومالي، ويضم أجزاء من إقليم أوروميا كنائس بروتستانية إلى جانب جامبيلا واماكن من إقليم شعوب الجنوب SNNP، ويمثل 5% من اليهود وممارسي الديانات الأخرى، والمسيحيين الكاثوليك وأعضاء كنيسة يسوع المسيح. 

وتصف الكنيسة الأرثوذكسية نفسها بأنها “جوهر” الهوية الإثيوبية، في محاولة للسيطرة على الهوية الإثيوبية وإضفاء الفكر السياسي على الديني، من خلال السيطرة على الحكم بفرض الهوية الأرثوذكسية، مما جعل الكنيسة ساحة لتدخلات حكومية منذ الائتلاف الحاكم وسيطرة جبهة تحرير التيجراي على الحكم في إثيوبيا، ومع وصول آبي حاول التدخل في فرض التعيينات الحكومية في هيكل الكنيسة، ووصف المحللون الخلافات داخل الكنيسة نتيجة خلافات عرقية تنبع من الأصول التي ينتمي إليها رؤساء الكنيسة سواء لقومية التيجراي أو الأمهرة وهما الإقليمين ذوي الخلافات التاريخية على الأرض والموارد والسيطرة على الحكم. 

تمنع الحكومة الإثيوبية إنشاء الأحزاب على أساس ديني، ولكنها تقوم بتعيين رؤساء الكنيسة على أسس عرقية، وتمنع التعليم الديني في المداس العامة والخاصة ولكنها تسمح للمنظمات الدينية بإنشاء مدارس تابعة لها. 

الخلافات الطائفية والعرقية في الدولة الإثيوبية:

تتسم الخلافات الدينية في الدولة الإثيوبية بأنها خلافات عل أساس عرقي مغلفة بالنزعات الدينية، وتظهر بين الكنيسة الأرثوذكسية وطائفة البروتستانت والمسلمين، وتتحدد الخلافات بينهم من خلال السيطرة على الهوية الإثيوبية وإيجاد مكان لهم، وزيادة أتباع الطوائف والهيمنة الثقافية للكنيسة الأرثوذكسية، وتوسعات الأراضي المملوكة للعرقيات مع تزايد حركات التبشير وخاصة من البرتوستانت، والحفاظ على الوجود.

كان هناك خلافات داخل الكنيسة الأرثوذكسية نفسها منذ تولي آبي الحكم، وبين الطوائف المسيحية الأخرى، ومنها ما حدث عام 2019 والمتعلقة بربط الدين بالسياسة وإحداث نوع من الفتن الطائفية بين أبناء الأقاليم، فقد طالبت قومية الأورومو بدعم من القس كيسيس بيلاي بإنشاء كنيسة أرثوذكسية منفصلة في الإقليم بدعم من القادة السياسيين بالإقليم وعلى رأسهم، ميلكيسا ميدهاجا، رئيس مكتب استخدام الأراضي في أوروميا، وعقدت عدة اجتماعات مع الحكومة الإثيوبية، بحجة أن الأورومو لم يستطع الحصول على الخدمات الكنسية نتيجة صعوبة اللغة وعدم استخدام اللغة الأورومية، ولكن رفضتها الكنيسة.

وهي الخطوة التي وصفها المحللون آنذاك بأنها رغبة في السيطرة السياسية في الإقليم من خلال ربط الدين بالسياسة، وخلق هوية أورومية مغلفة بتعاليم كنسية، جدير بالذكر أنه تقام معظم المراسم الاحتفالية الدينية باللغة الجعزية Ge’ez، ويتم الوعظ الآن في كنيسة التوحيد الأثيوبية باللغات المحلية.

ويبدو أن عام 2019 هو عام الخلافات على أسس دينية وطائفية، فقد نشرت الخارجية الأمريكية تقريرًا يوضح الهجوم الذي استهدف حرق 3 كنائس وتدمير 4 أخرين نتيجة أعمال عنف في منطقة سيداما “شعوب الجنوب” والتي كانت تطالب بالانفصال آنذاك، وفي المقابل قامت مجموعة من الشباب من الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في أماكن متفرقة بمنطقة أمهرة بإحراق المساجد وتخريب الأعمال التجارية المملوكة لمسلمين، تم اعتقال 55 من اتباع الكنيسة على إثرها. 

ويبدو كذلك أن الخلاف ليس بين المسلمين والمسيحيين فقط، بل داخل الطوائف المسيحية ذاتها أيضًا؛ فقد اتهم بعض البروتستانت والمسيحيين الأرثوذكس بعضهم البعض بالهرطقة وبالعمل بنشاط لتحويل أتباعهم من دين إلى آخر، مما زاد من التوتر بينهما، مما أدى إلى إحراق 4 مساجد وكنيسة واحدة في موتا تاون الأمهرية، نظمت على إثره كنيسة التوحيد الإثيوبية احتجاجات في 15 و22 سبتمبر 2020؛ لإدانة الهجمات الموجهة ضد الكنيسة والزعماء الدينين، دون تدخل من الحكومة الإثيوبية التي سمحت للمنظمات الدينية من الحصول على التمويل الأجنبي. 

وهناك أبواق تحاول رفع الكنيسة الأرثوذكسية وربطها بالهوية الإثيوبية وبالتالي طمس كافة الهويات الأخرى من خلال الخطب التي يقوم رجال الدين بعرضها في الكنائس، ونتج عنها تدمير 10 كنائس في فبراير 2019، ردًا على الهجوم على مسجد في الجنوب ذو الأغلبية المسلمة، والتي ينظر إليهم الإثيوبيون في الشمال والوسط بأنهم عنصريون على خلفية حملات الملك “مينيك الثاني” على الجنوب وجعله ذو هوية دينية مسيحية.

ووصلت النزاعات بين الأقليات إلى حد رفع عبارات طائفية تربط بين الديانة والعرق، مثل استخدام عبارات “أنا مسلم وأنت أمهرة”، ووصف لغة الأورومو بلغة المسلمين وتسمية أنفسهم بأنهم “أرسي أورومو أي مسلمي أورومو”، ووصف الأمهرة بالدخلاء “Nftegna” نظرًا لنظرتهم الاستعلائية عقب عمليات الدمج القسري في الجنوب، وتزايدت النزاعات في ديسمبر 2019، في ولاية أمهرة ذات الغالبية المسيحية، والحديث عن قيام متطرفين مسلمين بإحراق الكنائس.

وانتشرت حركات “الإصلاح الديني” والتبشير في إثيوبيا خاصة من البروتستانت، والتي استطاعت أن تدخل كذلك المسلمين في الديانة المسيحية بالمذهب البروتستانتي حيث سمح هيلا سيلاسي بدخول التبشيريين من الولايات المتحدة وألمانيا من أجل خدمات التعليم والصحة وهو ما يفسر تزايد أعداد البروتستانت بحسب تقرير الخارجية الأمريكية. 

الأمهرة والتيجراي أصول دينية واحدة ونزاع مسلح، ودعم الحكومة الإثيوبية لارتكاب إبادة جماعية

الأصول الدينية لقومية الأمهرة لم تمنعها من التدخل في الحرب في إقليم التيجراي، وذلك من أجل السيطرة العرقية الأمهرية على الأراضي التيجرانية التي ترى في جبهة تحرير التيجراي أنها قامت باقتطاع أراضي تابعة لها، مما يوضح أسباب التقسيم داخل الكنيسة الأرثوذكسية نفسها.

وهو الأمر الذي ظهر جليًا في تصريحات رئيس الكنيسة الأرثوذكسية حول ما أسماه “الإبادة الجماعية” التي ترتكبها الحكومة الإثيوبية في التيجراي، ووصفها البعض بأنها تقسيم على أساس عرقي نتيجة مشاركة الأمهرة في النزاع وهم من الأصول الأرثوذكسية، مرجعين ذلك إلى “صمت أبونا ماتياس خلال الشهور الستة الماضية في أعمال عنف أخرى في البلاد”، فيما وصف الأب سيلاسي ميركس، الكاهن في كنيسة القديسة مريم، رسالة البطريرك بأنها تجلب الأمل والوحدة للباحثين عن الحقيقة، وأنه قد تم تجاهل رسالته لمدة ستة أشهر ومُنع من مخاطبة العالم، ومن الجيد أن يسمع العالم أخيرًا رسالته التي تجلب الشعور بالوحدة. 

فقد قامت الحكومة الإثيوبية المدعومة من ميليشيات الأمهرة المسلحة والقوات الإريترية بهحوم على كاتدرائية بمدينة أكسوم واقتحام كنيسة مريم صهيون بالمدينة، والتي أسفرت عن مقتل 750 من اللاجئين بالكنيسة، مما فاقم من الصراع في تيجراي بحسب تقارير؛ فالتصريحات التي وصفها البعض بأنها تقسيم بين التيجراي والأمهرة سبقتها انتهاكات عدة من الحزب الحاكم المعين من حكومة آبي في التيجراي للحد الذي ارتكب فيه الجيش الإثيوبي مذبحة مروعة راح ضحيتها 78 قسيسًا في إقليم التيجراي، هذا إلى جانب النزاع بين الأورومو والأمهرة وقتل المدنيين وخروج المظاهرات الشعبية في الإقليم، وتنظيم المظاهرات من الشتات بالخارج ضد الإبادة الجماعية من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية في التيجراي والأمهرة، وظهرت دعوات ضد ترشح آبي مرة أخرى في الانتخابات التى انعقدت في 5 يونيو. 

الحكومة الفيدرالية وتأثيرها على الكنيسة الإثيوبية

اعتادت الحكومة الإثيوبية التدخل في الشأن الكنسي لكنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية، والتي كانت تحظى بدعم الإمبراطور هيلا سيلاسي، الذي ساهم في نشر الترجمة الأمهرية للكتاب المقدس، ومع سقوطه تم إلغاء الطابع الرسمي للكنيسة باعتبارها كنيسة الدولة، وتم الاستيلاء على الأراضي المملوكة للدولة في ظل الحكم الماركسي، الذي أعدم سرًا ثيوفيلوس بطريرك الكنيسة وأمرت بانتخاب بطريرك جديد، وتوجت آخر رفض السينودس الاعتراف به نتيجة عدم إعلان الحكومة وفاة البطريرك بشكل علني.

وتوضح الدراسات كذلك أنه بعد وفاة البطريرك تيكلا هيمانوت عام 1988 تم البحث عن بطريرك جديد “ذي علاقة أوثق مع النظام” وتم انتخاب عضو في البرلمان الإثيوبي آنذاك. وبعد سقوط الحكم الماركسي عام 1991 ووصول الائتلاف الحاكم تحت قيادة ميلس زيناوي، تنازل الأب ميركوريوس عن رئاسة الكنيسة وتم ترسيم الأب بوليس تحت ضغط من الحكومة والتي أمرت بنفيه للولايات المتحدة، وأعاده آبي احمد عقب توليه الحكم في 2018.

وذهب العديد من الأساقفة أيضًا إلى المنفى وشكلوا سينودسًا بديلًا مع بعض الكنائس الإثيوبية في أمريكا الشمالية وأوروبا التي واصلت دعم شرعيته، وتم دعم الأب بولس في الداخل الإثيوبي حتى توفى عام 2012، وتم انتخاب الأب ماتياس كبطريرك السادس للكنيسة في 2013 عقب تنصيبه في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالإسكندرية التي كانت تدير كنيسة التوحيد الإثيوبية حتى عام 1959.

وهذه هي الحادثة التي فرقت بين سنودس الكنيسة الإثيوبية في الداخل والخارج، والتي أُعيد توحيدها مع تولي آبي أحمد رئاسة الوزراء وأعلنوا نهاية الانقسام الذي دام 26 عامًا، وذلك باعترافها بمشاركة البطاركة الأب موكوريوس البطريرك الرابع مسؤول مهام وظائف الكنيسة الروحية على قدم المساواة في السلطة، والأب ماتياس البطريرك السادس وهو المسؤول إداريًا عن الكنيسة والذي يجيد اللغة الأمهرية والتيجرية والإنجليزية واليونانية والعبرية والعربية.

ويبدو أن جهود رئيس الوزراء آبي أحمد التي دخل بها المجتمع الإثيوبي بفكرة “التوحيد” بين الداخل والشتات الإثيوبي الأكثر تأثيرًا قد ذهبت سدى بمجرد تهديد استمراره في الحكم في حملته لتقويض المعارضة الإثيوبية مع حملته العسكرية في إقليم التيجراي الأقلية الأكثر تأثيرًا وإعلان جبهتي تحرير التيجراي وتحرير الأورومو بأنهما منظمات إرهابية، فيما غض الطرف عن الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها القوات الإثيوبية في إقليم التيجراي بدعم من الأمهرة وإريتريا، وجرائم جيش تحرير الأورومو المسلح المنشق عن جبهة تحرير الأورومو التي وصفها بالإرهابية، هذا إلى جانب الهجمات الطائفية المكثفة بين الطوائف المسيحية وبين المسيحين والمسلمين كما سبق ذكره.

وتظهر التقارير الإعلامية استقبال السفارة الأمريكية رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية عقب تصريحاته عبر الفيديو في أول تعليق له عما يحدث في إقليم التيجراي، ولم يتضح ما إذا كان البطريرك طلب الحماية من الولايات المتحدة ولم تعلق السفارة على ذلك.

فقد نشرت السفارة الأمريكية على موقعها على الفيسبوك إن السفيرة جيتا باسي ناقشت الوضع الإنساني في تيجراي مع البطريرك أبونا ماتياس، ذو الأصول التيجرانية، وجاء اللقاء عقب رسالته المصورة التي تم إصدارها الأسبوع الماضي، وصرح دينيس وأدلى صديق الأب ماتياس ومدير مجموعة جسور الأمل الدولية ومقرها الولايات المتحدة، لوكالة فرانس برس إنه سجل الفيديو في 26 أبريل الماضي خلال رحلة إلى إثيوبيا، ولكن طلب منه البطريرك ألا يفرج عنه حتى يخرج من البلاد، ويعود إلى الولايات المتحدة.

وقد أشار البطريرك في الفيديو إلى محاولاته السابقة للتحدث علانية بشأن الصراع المستمر منذ ستة أشهر ومنعتها الحكومة الإثيوبية، في خطوة قد تعيد للأذهان حملات الاعتقالات ضد رجال الدين والوقوف ضد دورهم ونفي آخرين، والتي اقحمهم آبي في الوضع السياسي للبلاد من قبل مجلس الأديان الإثيوبي – ويتكون من 7 مؤسسات دينية- الذي قام بدعوة من حكومة آبي بمبادرة لتخفيف حدة التوتر بين “حزب الازدهار الإثيوبي وجبهة التحرير الشعبية”، وهو ما رفضته جبهة تحرير تيجراي موضحة رغبتها في ضرورة أن يكون الحديث علنيًا والتحدث مع كافة الأطراف الحزبية والسياسية لضمان تحقيق الديمقراطية واجراء انتخابات نزيهة. 

وترغب هذه المؤسسات الدينية في اختراق المؤسسات الدولية الرسمية لتكريس فكرة الاستحواذ والهيمنة على السلطة، والتي تمثلت في رفض الكنيسة بناء مسجد في مدينة “أكسوم” في التيجراي باعتبارها مكان مسيحي مقدس لاحتوائها على تابوت العهد كما يقوم الأساقف، ويقوم القادة والسياسيين باستغلال الخلافات العرقية للحشد للحصول على مكاسب سياسية من التشرزم، في ظل انشغال آبي أحمد في تفتيت الأحزاب مع غض الطرف عن هذه النزاعات. 

كما يرى البعض أن الكنيسة لها دور سياسي في دعم حركة الأمهرة على حساب الأورومو باعتبارهم المسيطرين على المناصب العليا بالكنائس في أقاليم عديدة ومن بينها الأورومية ونظرًا لاعتناقهم المذهب البروتستانتي والذين ينظرون إلى الأورومو بانها امبراطورية توسعت في حملات المسلمين لنشر الإسلام في إثيوبيا وتصدت لها الكنيسة الأرثوذكسية، والتي شهدت اشتباكات عدة ضد كنائس الأورمو عقب مقتل المطرب الإثيوبي هاشالو هونديسا، وهو ما رفضته الكنيسة واعتبره البعض تأجيج للصراع الديني والعرقي في البلاد في ظل صمت حكومة آبي أحمد والتي انتقدها الاساقفة للحد الذي صرح فيه الأب ماركوس جيربي-ايجزيابهير رئيس كنيسة تواهيدو الأرثوذكسية لوكالة فرانس برس بعد قداس في كاتدرائية “الثالوث الأقدس” في أديس ابابا “الناس يموتون وتدور تساؤلات حول ما إذا كانت الحكومة موجودة أصلًا”.

ومازال الشتات التابع لكنيسة التوحيد الأرثوذكسية في الولايات المتحدة يدعم التيجراي والنازحين من إقليم بني شنقول إثر الصراعات، من خلال تقديم المساعدات المالية للحالات الإنسانية في الإقليم. 

الأهمية العقائدية والسياسية للتيجراي، وما وراء الدعم الإسرائيلي للكنيسة الأرثوذكسية

جاءت تصريحات الأب ماتياس في أول تصريح علني بهدف التنديد بعملية التطهير العرقي من ناحية والانتماء العرقي والديني من ناحية أخرى بين التيجراي والأمهرة، والتعديات التي ارتكبتها القوات الإثيوبية وميلشيا الأمهرة والقوات الاريترية ضد كنيسة مريم صهيون، التي تقع في إقليم التيجراي بمدينة “أكسوم”، والتي يقال إنها تحتوي على تابوت العهد، والذي تكلم عنه الدكتور علي جمعة، بأنه يسمى في التوراة تابوت العهد ويسمى تابوت الآيات وتابوت سليمان وتابوت السكينة طبقًا للتسمية القرآنية له.

وعن أصل هذا التابوت فقيل أنه نزل على آدم، وأنه تابوت أم موسى، أو أن موسى قد صنعه أثناء الخروج من مصر، فهذا التابوت الذي اقر القرآن بوجوده، كان مقدسًا عند اليهود ولما جاء سليمان وضعه في الهيكل، وقيل أن الهيكل كان في القدس وقيل أنه كان خارجها، وهو تابوت مقدس عند اليهود ثم اختفى، موضحًا أن قصص اختفاءه كثيرة جدًا أيضًا، موضحًا أنه وفقًا للسفر الثاني في “المكابيين” وهو أسفار ليست معتمدة في الكتاب المقدس، فإن أرميا قد أخبأ التابوت في كهف معين، وأنه تم اكتشاف مخطوطات البحر الميت التي تشير إلى وجود خريطة لشيء مدفون مقدس، فنشأت نظرية التخبئة للتابوت.

وفي كتاب “العلامة والختم: البحث عن تابوت العهد”، الذي نشره الباحث جرهام هناكوك بصحيفة الايكونوميست عام 1992، أوضح أن بلقيس أنجبت طفلًا من سليمان وطلبت منه أن يحضر لها هذا التابوت، فرفض وصنع لها نسخة طبق الأصل وقام بتخبئة التابوت الأصلي في مدينة أكسوم بكنيسة “مريم صهيون”.

ويمثل “تابوت العهد” لليهود أهمية دينية وسياسية وأن وجوده سيرد لهم مكانتهم وسيطرتهم على العالم، ووفقًا لموقع الأنبا تيكلا هيمانوت، رئيس الكنيسة الأثيوبية الأرثوذكسية الأسبق، أن الغرض المعلن من التابوت هو أن توضع بداخله شهادة خلاص الله: “وتضع في التابوت الشهادة التي أعطيك” (خر 25: 16، تث 10: 5)، والوصايا العشر المحفورة على ألواح من الحجارة داخل التابوت الخشبي التي تشكل الأساس المكتوب لعهد الله مع إسرائيل (خر 34: 28 و29)، وبالتالي يتم الربط بين إعادة التابوت واسترداد الشريعة المفقودة. 

وهو ما يتفق مع الصهيونية المسيحية التي لاقت رواجًا بفعل التبشرين البروتستانت في الولايات المتحدة والكنائس الانجيلية التي تمثل جماعة ضغط” لوبي” اسرائيلي بالولايات المتحدة، حيث يرون أن المسيح سوف يعود ليحكم العالم ألف عام ومن هنا جاءت تسمية الألفية، والتي تتبنى فكرة إعادة اليهود لأرض الميعاد لتحقيق نبوءة الكتاب المقدس، وتختلف تلك النظرة مع الكاثوليكية التقليدية التي ترى أن الحكم الألفي في سفر الرؤيا الإصحاح 20 تنص على أن حكم المسيح بدأ فعلًا مع مجيئه الأول إلى الأرض (الرقم ألف هنا ذو قيمة رمزية) وسينتهي مع مجيئه الثاني عند نهاية العالم، عندما تقوم كل البشرية من الموت فيذهب الأبرار إلى الحياة الأبدية والأشرار للعقاب الأبدي. 

فلا يوجد أي فترة ألفية ما بين عصر الكنيسة ونهاية العالم، وتصف هذه الأفكار بأنها جاءت لأسباب دينية وسياسية لليهود باعتبار أنه بعودة المسيح لحكم العالم سيُعاد بناء هيكل سليمان في القدس، فهم يجعلون بناء دولة إسرائيل وليس “كنيسة العهد الجديد” مركزًا لخطة الله الخلاصية، وهو ما تعارضه الكنيسة الأرثوذكسية في أمريكا على أسسٍ ذات طابع عقائدي، إلا أن بعض رجالات الكنيسة ممن يُعتبرون أرثوذكس تبنوا هذا الرأي. 

وهو ما يضعنا أمام السياسة الإسرائيلية والتي ظهرت في تصريحات سفير إسرائيل السابق بالولايات المتحدة لصحيفة “هآارتس” بضرورة زيادة الدعم للكنائس الإنجيلية في الولايات المتحدة التي اعتبرها مناصرة لإسرائيل أكثر من اليهود ذاتهم، وعودة رؤية ثيودور هرتزل، وذلك باعتبارهم جماعات الضغط الاولى لفكرة أرض الميعاد، وتبني سياسات لدعم الفكر المحافظ في الولاياتت المتحدة والذين كانوا يرون في الرئيس الأمريكي دونالد ترامب محققًا لأهدافهم. 

كما تعتمد كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية وهي ثاني أكبر الكنائس المسيحية الشرقية في العالم أكثر على تعاليم العهد القديم مقارنًة بمثيلاتها، وتدعو أتباعها إلى التمسك ببعض الممارسات التي ما تزال موجودة في الديانة اليهودية، وتتشابه في ذلك مع كنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإريترية.

وبالتالي تعد مدينة أكسوم ذات أهمية تاريخية، والتي تتعرض لعملية محو تراثي باعتبارها احدى مواقع التراث العالمي التابعة للأمم المتحدة من قبل حكومة آبي أحمد دفعت المدنيين لحمايتها، وذات أهمية دينية للمسيحين الأرثوذكس وإسرائيل.

وتتبع كنيسة التوحيد الأرثوذكسية التعاليم اللوثرية أو الإنجيلية كما يفضل مارتن لوثر أن يسميها والمنتشرة في شرق أوروبا والدول الاسكندنافية والولايات المتحدة، والتي ترى في السيد المسيح المخلص الموعود به في العهد القديم فإنهم يؤمنون أنه يجمع بين صفة الألوهية والإنسانية في شخص واحد.

يبدو أن طمع آبي أحمد ذو العقيدة البروتستانية في السلطة قد يسهم في تحقيق النبوءة التي تشير لحدوث نزاع أهلي في إثيوبيا وهو ما يقود إليه بالفعل في أوروميا والأمهرة والتيجراي والنزاع الديني الطائفي والذي امتد للعفر واقليم صوماليا وشعوب الجنوب والذي من شأنه أن يفتت الدولة. 

يلتفت إلى النزاعات الكنسية لتبني فكر بناء الدولة الإسرائيلية، من خلال هجومه الإنساني والتراثي على كنائس التيجراي، وربما جاء ذلك لأسباب سياسية كمحاولة لاخفاء تابوت العهد أو استمرار لمسلسل التحريف التي تنتهجه المسيحية الصهيونية ذات الدعم الإنجيلي، وأن الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية ذو العقيدة الأكثر تقاربًا مع الفكر اليهودي بعكس الكنائس الأرثوذكسية الدولية والشرق الأوسط، قد تبرر دعم إسرائيل لأتباع الكنيسة في القدس في دير السلطان التابع للكنيسة المصرية، لزيادة التأييد لوجودها في القدس على أسس سياسية مغلفة بالعقائدية، عكس الكنيسة المصرية ذات الموقف الواضح من القضية الفلسطينية على مر العصور، وبالتالي تتخوف إسرائيل من نشر الفكر الأرثوذكسي من خلال تعكير فكر الصداقة بين الكنيسة المصرية والإثيوبية والتي استمرت حت عام 1959، وفي محاولة لزيادة أعضاء الفكر البروتستانتي الداعم لفكر الصهيونية المسيحية من ناحية أخرى. 

هذا إلى جانب الادعاءات الإسرائيلية بأن الدولة الإثيوبية مركز مواجهة المشروع الإيراني بحسب السياسة الإسرائيلية التي تحاول فرض سيطرتها على البحر الأحمر ومملكة الجنوب وفقًا للرواية الإسرائيلية، والضغط على الدول المنافسة في المنطقة، وهو ما يظهر تحول إسرائيلي نحو دعم الطوائف الدينية المتمثلة في الكنيسة الأرثوذكسية والتي تؤثر في 36 مليون شخص، ودعم البروتستانت ذوي الفكر الانجيلي لفكرة الخلاص من أجل الوجود الإسرائيلي.

وهو ما يفسر كذلك دعم رئيس المفوضية الإفريقية موسى فقي الإثيوبي الأصل اعتماد إسرائيل كدولة مراقب في الاتحاد الإفريقي، وسط استمرار سياسات آبي التي تدعم فكرة تفتت الفيدرالية، والذي كان سينحدر عن الهدف الذي جاء من أجله مع هجومه على التيجراي وهو الإقليم الذي يضم “تابوت العهد” وهو ما يضعنا أمام أسباب التصعيد الدولي ضد انتهاكات حقوق الإنسان في الإقليم، ولكن ستؤدي سياسته التي قادت لمرحلة تفتيت الدولة الإثيوبية من الحروب الأهلية إلى إمكانية وصول التيجراي المسيحيين والسيطرة على الحكم مرة أخرى لمجابهة المشروع الإيراني بحسب الفكرة الصهيونية لأرض الميعاد والتي تقوم بالتحالف الإسرائيلي مع أديس أبابا، والتي ظهرت سابقًا في اتفاقية “الرمح الثلاثي” بين اسرائيل وتركيا وايران الشاه واثيوبيا، لمواجهة الأمن القومي العربي، المتمثل في سوريا والعراق من ناحية ومصر و السودان من جهة إثيوبيا ناحية أخرى.

رحمة حسن

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى