دول المغرب العربي

قرار الرئيس التونسي بتمديد العمل بالتدابير الاستثنائية.. المحفزات وملامح المستقبل

أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد (24 أغسطس) أمرًا رئاسيًا يقضي بالتمديد في التدابير الاستثنائية التي اتخذها (25 يوليو) وفقًا للفصل الـ80 من الدستور، والتي نصت على تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة البرلمانية عن كل أعضائه. ويأتي هذا الأمر الرئاسي بعد نحو شهر من هذه القرارات التي أحدثت تحولًا كبيرًا في المشهد التونسي، وقد شهد هذا الشهر العديد من الأحداث والتطورات المتلاحقة التي قادت إلى تمديد حالة الخطر الداهم والتدابير الاستثنائية.

سياقات ومحفزات

كانت أولويات الرئيس التونسي خلال الشهر المنصرم واضحة في القرارات التي اتخذها خلال هذه المدة، وتمثلت أولى هذه الأولويات في الحفاظ على الاستقرار الأمني وعدم الانزلاق إلى الفوضى التي كانت هدفًا أوليًا للتيارات المناوئة للقرارات التي اتخذها سعيّد في 25 يوليو وخاصة حركة النهضة التي وصف رئيسها ورئيس البرلمان المجمد راشد الغنوشي (30 يوليو) قرارات الرئيس التونسي بالانقلاب قائلًا “إذا لم تستعيد تونس ديمقراطيتها سننزلق نحو الفوضى”.

ولذلك كان عدد كبير من القرارات اللاحقة لقرارات 25 يوليو يتعلق بمعالجة الوضع الأمني، وأبرزها إجراء تغييرات في تسع مناصب كبيرة بوزارة الداخلية (20 أغسطس) تشمل تعيين مديرين جدد لإدارات المخابرات والأمن العمومي ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وهي القرارات التي كشف الرئيس التونسي بعدها (22 أغسطس) عن وجود مخطط لاغتياله من “البعض الذين يدعون أن مرجعيتهم الإسلام”، مما يؤشر على حجم التحديات الأمنية التي تواجهها تونس بعد قرارات الـ25 يوليو.

ووضع الرئيس قيس سعيّد ملفات أخرى ضمن أولوياته خلال الشهر المنصرم، ومنها مكافحة الفساد بعدما أعلن عزمه فتح كافة قضايا الفساد واستعادة الأموال المنهوبة بوصفه رئيس النيابة العمومية وفق قرارات 25 يوليو، ولذلك تم تحريك عد من قضايا الفساد، منها ما يتعلق بحصول أحزاب (النهضة – قلب تونس – عيش تونسي) على تمويلات أجنبية خلال انتخابات 2019.

ولذلك أيضًا أصدر سعيّد قرارًا بإنهاء مهام الكاتب العام لهيئة مكافحة الفساد (20 أغسطس) وهو الذي كلّفته حكومة المشيشي (9 يونيو) بتسيير أعمال الهيئة بعد أن أقالت (7 يونيو) رئيس الهيئة عماد بوخريص في خضم الأزمة بين الرئيس من جهة والحكومة والبرلمان من جهة أخرى، وهو القرار الذي انتقده حينها قيس سعيّد وقال إن “بوخريص” أقيل لأنه “أثار جملة من القضايا وقدم جملة من الإثباتات المتعلقة ببعض الأشخاص، من بينهم الذين تم رفض أدائهم اليمين الدستورية وتعلقت بهم قضايا فساد”.

وبناء على ذلك، فإن ثمّة ملفات أخرى ضرورية يحتاج الرئيس التونسي إلى فترات إضافية لمعالجتها؛ فاتخذ القرار الذي يقضي بتمديد التدابير الاستثنائية وفق الفصل الـ80 من الدستور حتى إشعار آخر، استجابة لعدد من المحفزات، منها:

  • التأييد الشعبي

يمثل التأييد الشعبي الكبير لقرارات 25 يوليو أحد أكبر دوافع ومحفزات اتخاذ الرئيس قيس سعيّد قرار تمديد التدابير الاستثنائية، رغبة من التونسيين في التخلص من المسببات التي أدت إلى سوء أوضاع الدولة التونسية سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وفي مقدمة هذه الأسباب النخبة السياسية التي تحكم منذ عام 2011؛ إذ حمّل الشعب التونسي حركة النهضة فاتورة إخفاقات السنوات العشر الفائتة، ويسعى إلى إزاحتها من المشهد.

وقد عبّر استطلاع الرأي الأخير الذي أجرته مؤسسة “سيجما كونساي” عن هذا التأييد الشعبي الهائل لشخص الرئيس قيس سعيّد وقراراته، فقد بلغت نسبة التأييد لقرارات 25 يوليو 94.4%، وانعكس ذلك في تفاؤلهم بالمستقبل؛ إذ عبّر75.3% من المستطلعة آراؤهم عن تفاؤلهم بالمستقبل في ضوء القرارات الأخيرة. وارتفعت مؤشرات الثقة في شخص الرئيس قيس سعيد إلى 82% مقارنة ب30% في الاستطلاع الذي أُجري شهر يوليو الماضي، وكذلك ارتفعت مؤشرات نوايا التصويت له لو أجريت انتخابات رئاسية جديدة لتصل إلى 91.4% وهو أمر غير مسبوق.

  • تقهقر “النهضة”

أحدثت قرارات 25 يوليو هزة عنيفة في صفوف حركة النهضة، وفاقمت من أزماتها الداخلية التي ظهرت إلى العلن في أكثر من مرة خلال العامين الماضيين، وأهمها مسألة زعامة راشد الغنوشي لها، وتأجيله المستمر لعقد المؤتمر العام الحادي عشر للحركة حتى صدر قرار مجلس شورى الحركة (نوفمبر 2020) بتأجيله إلى أجل غير مسمى. وذلك على خلفية الشقاق الكبير داخل الحركة، والذي ظهر في اللائحة التي قدمها 100 من أعضاء الحركة (سبتمبر 2020) يطالبون فيها الغنوشي بعدم الترشح لرئاسة الحركة، واحترام الفصل 31 من النظام الداخلي الذي ينص على أنه “لا يحق لأي عضو أن يتولى رئاسة الحركة لأكثر من دورتين متتاليتين”.

وعلى وقع قرارات 25 يوليو تفاقمت الأزمة الداخلية لحركة النهضة مع توالي الاستقالات في صفوفها، وصولًا إلى قرار الغنوشي (23 أغسطس) بحل المكتب التنفيذي للحركة؛ في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي، وذلك انعكاسًا للتراجع الحاد في شعبية الحركة بين أوساط التونسيين، وتحميلهم إياها مسؤولية كل ما تعيشه تونس الآن من أزمات، وهو ما أكده أيضًا أعضاء بارزون في الحركة. ويوضح التهاوي المستمر في حدة تصريحات قيادات حركة النهضة منذ قرارات 25 يوليو بدءًا من التهديد بالفوضى وصولًا إلى الدعوة للحوار والاعتراف بالخطأ؛ حجم التردي الذي وصلت إليه حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي الذي حل في المرتبة الأولى في مؤشر الانعدام الكلي للثقة بنسبة 87%.

وكان هذا الوضع الصعب لحركة النهضة الذي لا يختلف كثيرًا عن وضع حلفائها (قلب تونس – ائتلاف الكرامة) وعزلتها على المستوى الشعبي دافعًا كبيرًا لاستمرار الرئيس التونسي في مساره الذي بدأه في 25 يوليو، ورفضه كافة دعوات الحوار التي دعت لها حركة النهضة، واتخاذه بعد ذلك قراره بتمديد التدابير الاستثنائية بصرف النظر عن هذه الدعوات، قائلًا (5 أغسطس) ” لا عودة إلى الوراء، ولا حوار مع الخلايا السرطانية، ولا حوار إلا مع الصادقين”.

  • المواقف الإقليمية والدولية

راهنت حركة النهضة على مواقف القوى الدولية وخاصة الغربية لمواجهة القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد، ولكن المواقف الدولية جاءت كلها في إطار منضبط، وتجنبت وصف قرارات سعيّد بالانقلاب مثلما وصفت وأرادت حركة النهضة. واكتفت بالتأكيد على ضرورة العودة إلى المسار الديمقراطي. 

هذا علاوة على ما تلقّاه الرئيس التونسي من دعم من الدول العربية وخاصة مصر والسعودية والإمارات والجزائر للمسار الذي بدأه لاستعادة الدولة التونسية إلى المسار الصحيح. وقد أعطى مجمل المواقف الإقليمية والدولية الرئيس التونسي مساحة من الحركة للاستمرار في المسار الذي بدأه بقرارات 25 يوليو والانتقال إلى تفكيك المشكلات واحدة تلو الأخرى.

ماذا بعد؟

كان خيار الرئيس قيس سعيّد بتمديد التدابير الاستثنائية متوقعًا بناء على استمرار مسبباتها، بجانب المعطيات السابقة، ولا سيّما بعد تصريحه (20 أغسطس) “كل من يظن أن هناك عودة أو تراجعًا عن القرارات الأخيرة شخص واهم”. ومن ثمّ فإن استمرار التدابير الاستثنائية “حتى إشعار آخر” معبر بشكل واضح عما يعتزم الرئيس التونسي فعله خلال الفترة المقبلة التي تُطبق فيها التدابير الاستثنائية وأهمها تجميد عمل البرلمان، وهي فترة من المتوقع أن تمتد شهورًا، يمكن توقع ملامحها في الآتي:

  • هذه الشهور من المنتظر أن يصدر الرئيس خلالها عددًا من القرارات المهمة التي ستنظم عمل الدولة خلال المرحلة المقبلة، أول هذه القرارات هو تشكيل حكومة جديدة تتولى تسيير أعمال الدولة يغلب عليها الطابعان الاقتصادي والأمني لمعالجة المشكلات التي تواجهها تونس في الوقت الراهن. 
  • ولمّا كان توجه الرئيس التونسي واضحًا بعدم عودة البرلمان بتركيبته الحالية التي يسيطر عليها التحالف البرلماني لحركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة إلى ممارسة اختصاصاته مجددًا، وعبر عن ذلك بقوله (24 أغسطس) “المؤسسات السياسية الموجودة بالشكل الذي كانت تعمل به خطر جاثم على الدولة، البرلمان نفسه خطر على الدولة”؛ فإن الرئيس قد يتجه إلى الإعلان عن تعليق العمل بالدستور، وإصدار ما يمكن تسميته إعلانًا دستوريًا، ومن ثم تزاول الحكومة مهامها دون التقيد بضرورة العرض على البرلمان الذي قد يُعلن حله وفق هذا الإعلان.
  • قد يجمع الرئيس قيس سعيّد السلطتين التنفيذية والتشريعية، ومن ثم إصدار مراسيم قانونية تسير عمل الدولة خلال المرحلة الانتقالية، ومنها القوانين التي تتعلق بمكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة. ويعلن عن تشكيل لجنة لوضع دستور جديد للبلاد، وطرح للاستفتاء العام، وصولًا إلى إصدار قوانين انتخابية جديدة لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة.
  • سيعمل الرئيس التونسي خلال الفترة المقبلة على معالجة الوضع الاقتصادي الصعب بعد تشكيل الحكومة الجديدة، وربما يعمل على استغلال الدعم الدولي له وخاصة الدعم الخليجي الذي عبرت عنه زيارات وزير الخارجية السعودي (30 يوليو) ووزير الدولة السعودي للشؤون الأفريقية (22 أغسطس) ومستشار الرئيس الإماراتي للشؤون الخارجية (22 أغسطس)؛ في معالجة هذا الوضع الاقتصادي وتأجيل قرار اللجوء إلى صندوق النقد الدولي الذي سيحتم على الحكومة التونسية اتخاذ قرارات صعبة على التونسيين.

إجمالًا، يبدو أن الرئيس التونسي قيس سعيّد ماضٍ في المسار الذي اتخذه في 25 يوليو الماضي والمتعلق بتفكيك النظام السياسي الذي قام بعد ثورة 2011 وكان أحد المسببات الأساسية للأزمات التي تعيشها تونس الآن. وهو ما يمكن أن يتسبب في مواقف دولية قد ترفض انفراد الرئيس التونسي بالسلطة خلال المرحلة الانتقالية، وسيفرض على سعيّد إحداث اختراق سريع في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للتونسيين حتى لا يتراجع الدعم الشعبي له ولقراراته. ولا تتلاشى مع هذه الحالة احتمالات التخطيط المضاد لأحداث عنف أو فوضى أمنية أو عمليات إرهابية.

كاتب

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى