دول الخليج العربيالعراق

الاندماج عربيًا… حسابات وآفاق التقارب العراقي الكويتي

شهدت الدبلوماسية العراقية-الخليجية زخمًا غير مسبوق هذا العام، تجسدت أحدث مظاهره في زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى الكويت في 22 أغسطس الجاري، التقى خلالها بدوائر صنع القرار السياسي بدءًا من الأمير نواف الأحمد الجابر الصباح، وولي عهده مشعل الصباح، ورئيس مجلس الوزراء صباح الحمد الصباح، ورئيس مجلس الأمة مرزوق غانم، إلى جانب رئيس غرفة التجارة والصناعة محمد جاسم الصقر. ويعكس مستوى اللقاءات والوفد المرافق إرادة سياسية حقيقية لفتح آفاق تعاونية متعددة المجالات، ويُظهر مستوى الشراكة خلال الفترة المقبلة، إذ ضم الوفد وزراء الخارجية والمالية والداخلية والتخطيط والنفط والتجارة والنقل والزراعة وعددًا من كبار المسؤولين وسفير العراق لدى الكويت المنهل الصافي.

حسابات الكاظمي

تعكس تحركات رئيس الوزراء العراقي على المسرح العربي عمومًا والخليجي خصوصًا تحولات سياسية مهمة يشهدها العراق كجزء من جهوده لحل التوازن الإقليمي الذي شهد طغيانًا إيرانيًا واضحًا أنتج نظامًا طائفيًا ومؤسسات ذات ارتباطات ولائية بدوائر صنع القرار الإيرانية، فضلًا عن محاولة إيجاد دور إقليمي موازن بين الفرقاء السياسيين؛ ومن هنا يُمكن فهم دوافع زيارة الكاظمي إلى الكويت على النحو التالي:

• ترسيخ صورته كرجل دولة: يتطلع الكاظمي لاكتساب قبول إقليمي ودولي بوصفه رجل دولة قادر على جعل العراق رقمًا مهمًا في المعادلة العربية والإقليمية، وتوظيف تلك الصورة لتلبية طموحاته السياسية بمواصلة قيادة السلطة التنفيذية عقب الانتخابات المبكرة المقررة في 10 أكتوبر المقبل، بتكليف من القوى السياسية التي ستفرزها الانتخابات وقبول من القوى الإقليمية والدولية ذات الثقل في المشهد السياسي العرافي، ولعل ذلك أحد المنطلقات الأساسية لتحركات الرجل الخارجية الأخيرة إلى واشنطن وبروكسل وأخيرًا الكويت.   

ويرى السياسي العراقي مثال الالوسي، في تصريحات للوكالة العراقية الوطنية للأنباء، أن الكاظمي يتطلع لدور كويتي في إقناع التيارات التي أعلنت مغادرة السباق الانتخابي بإعادة حساباتها لصالح المشاركة، وبالأخص التيار الصدري اللاعب الأقوى بين الكتل الشيعية وأكبر داعمي الكاظمي، بالنظر إلى العلاقات الجيدة التي تجمع القيادة الكويتية بمقتدى الصدر؛ إذ لعب دورًا إيجابيًا في تحسين العلاقات العراقية العربية مع السعودية والكويت عقب فوز تحالفه في الانتخابات النيابية عام 2018، وهو أحد الداعمين الأساسيين لجهود الكاظمي في بناء علاقات عربية واحتواء النفوذ الإيراني بالبلاد، فضلًا عن احتفاظ الكويت بعلاقات ودية مع بعض التيارات السياسية العراقية رسخها إدراك الأخيرة بمصالح الكويت المشروعة في استقرار العراق.

• تثبيت الاندماج عربيًا: حملت رؤية الكاظمي آفاقًا جديدة للانفتاح على الدول العربية، عبر تطوير صيغة جديدة للسياسة الخارجية جوهرها إيجاد علاقات متوازنة وقوية مع جميع جيرانها العرب بالتوازي مع إيران، تستهدف الانتقال من مسار الدوائر إلى الفضاءات بحيث تشكل فضاءً اقتصاديًا مع الخليج، وإسلاميًا مع إيران وتركيا، وعربيًا مع دول المغرب العربي، وفضاءً أوروبيًا وأمريكيًا وهكذا. والفكاك من ثنائية الولايات المتحدة-إيران إلى إقامة علاقات متوازية ومتوازنة تفضي إلى إضعاف قبضة إيران على السياسة العراقية ومنحه هوية ودورًا إقليميًا أوسع، والتخلص من عقود الفوضى والسيولة الأمنية، خاصة مع وصول التيار الإيراني المتشدد إلى أعلى دوائر صناعة القرار الاستراتيجي متمثلًا في الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، وتصاعد احتمالات العودة إلى الاتفاق النووي المبرم عام 2015 والرفع التدريجي للعقوبات التي فرضتها إدارة ترامب وما يعنيه ذلك من تدفق الأموال على الميليشيات الإيرانية بالعراق وزيادة نفوذ طهران على بغداد.

• إشراك الكويت في الوساطات الإقليمية: يلعب العراق دورًا مهمًا في جلب الفرقاء الجيوسياسيين؛ إيران والسعودية، إلى طاولة المفاوضات والانخراط في عملية دبلوماسية إقليمية تفضي إلى تهدئة حدة الاستقطاب وتحقق له هدفًا استراتيجيًا جوهرة كسر الجمود بين العدوين اللدودين؛ بغية خلق منطقة أكثر هدوءًا، وبالتالي عراق أكثر هدوءًا، وإيجاد مساحة أكبر لبغداد للحركة والمناورة على المسرح العربي. ولمّا كان الدور العراقي ضعيفًا نسبيًا فإنه يحتاج إلى اجتذاب شركاء إقليميين قادرين على ممارسة النفوذ والإقناع، وهنا تبرز الكويت كأحد الفواعل الممكنة لدفع عجلة المصالحة بالنظر إلى علاقاتها الجيدة بالطرفين.

• البحث عن دور إقليمي جديد للعراق وحشد الدعم لقمة بغداد: شغلت قمة دول الجوار المقرر أن تستضيفها بغداد يوم 28 أغسطس الجاري بحضور مصر والسعودية والكريت وقطر والإمارات وإيران وتركيا وباكستان، بالإضافة إلى الولايات المتحدة ودول أوروبية وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، حيزًا كبيرًا خلال مباحثات الكاظمي مع قادة الكويت، حيث يتطلع إلى مشاركة كويتية على أعلى المستويات، ضمن رؤيته للانتقال بالعراق من كونه أحد بؤر الأزمة الإقليمية وبيئة يتنافس فيها اللاعبون الإقليميون والدوليون على النفوذ إلى العمل كمنبر دبلوماسي لدول المنطقة ومركزًا مؤيدًا للاستقرار والوساطة بين مختلف اللاعبين لطرح الرؤى وتبريد الصراعات، وفتح محاور بين دول إقليمية وغربية مؤثرة. 

وقد عبّر الكاظمي عن خصوصية المشاركة الكويتية خلال حوار أجراه مع صحيفة الراي الكويتية، بقوله إن “التباحث مع القيادة السياسية في الكويت في هذه الظروف ضروري جدًا لرسم خريطة طريق إقليمية تحدد بوضوح المتغيرات في المنطقة وطرق التعامل معها. وأن مشاركة الكويت في مؤتمر القمة ستكون إضافة أساسية ومهمة لأن كل المواضيع التي ستبحثها القمة هي هاجس الكويت ورسالتها على مدى عقود، أي حل الخلافات بالطرق السلمية، وإرساء مبادئ التعاون مكان التصادم”.

• تقوية الاقتصاد: يشكل البعد الاقتصادي حافزًا لتحرك الطرفين باتجاه بعضهما البعض، كونه يأتي في قلب موضوعات الاهتمام العراقي للإفلات من القبضة الإيرانية، وأيضًا تراه دول مجلس التعاون أحد أكثر الأدوات فاعلية لإبعاد العراق عن هيمنة طهران. في ظل اقتصاد مزقته الصراعات والفوضى السياسية والأمنية؛ إذ خسرت البلاد ما يقرب من 450 مليار دولار منذ عام 2004، وسجل معدل البطالة 35%، فيما تجاوزت الديون 150 مليار دولار، واحتل مرتبة متراجعة على مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية ليحتل المرتبة 160 من أصل 180 دولة، والإقبال على مرحلة إعادة الإعمار بخطط تتكلف نحو 88 مليار دولار بحسب تقديرات الحكومة العراقية، ثم جاءت جائحة كورونا وما استتبعها من انخفاض أسعار النفط ليفاقهم المشكلات الاقتصادية، لذلك أولى العراق أهمية للخليج في سياسته الخارجية لتوفير مدخلات اقتصادية.

وعليه، وجدت بغداد في الكويت شريكًا محتملًا يمكن أن تحصل شركاته على حصص استثمارية في مجالات البناء والزراعة والطاقة والصناعة والتجارة، بهدف تنويع الشراكات الاقتصادية وخلق فرص عمل وتحقيق تنمية مستدامة ونجاحات اقتصادية تعزز شعبية النظام السياسي ومكانته بين العراقيين. مع الأخذ في الحسبان أن طهران سيظل لها تمايزًا اقتصاديًا في بعض القطاعات والمناطق سيكون من الصعب إقصاؤها منها خاصة أن الميليشيات الإيرانية تحرص على خلق حالة من عدم الأمان للاستثمارات العربية.

وبالمقابل، أظهرت الكويت اهتمامها بالاستثمار في استقرار جارتها الشمالية؛ ففي 2018 استضافت مؤتمر إعادة إعمار العراق الذي تعهد المشاركون فيه بتقديم 30 مليار دولار في شكل قروض أو استثمارات، وكان للكويت حصة كبيرة بحوالي 2 مليار دولار. كما أنها لعبت دورًا حاسمًا في التفاوض على صفقة سبتمبر 2019 بين بغداد وهيئة الربط الكهربائي لدول مجلس التعاون، لنقل 500 ميجاوات/ساعة من الكهرباء إلى ميناء الفاو العراقي عبر الكويت. ومؤخرًا، أعلن صندوق إعمار المناطق المحررة من تنظيم داعش عن تلقي منحة كويتية بقيمة نحو 100 مليون دولار لصالح مشروعات صحية. الكويت أن توترات سياسية على حدودها الشمالية. 

اعتبارات الاهتمام الكويتي بالعراق

شهدت الفترة الأخيرة انفتاحًا عراقيًا ملحوظًا على الدول العربية والخليجية، بعد فترة من الجمود والتوتر التي اعترت العلاقات، عززها الغزو العراقي للكويت عام 1990، والأمريكي للعراق 2003، وصعود حكومة المالكي التابعة لإيران، وظهور تنظيم داعش الإرهابي، وما إلى ذلك من التطورات التي عجلت بالانقسام الطائفي وأحكمت قبضة إيران على المنظومة الأمنية والسياسية والاقتصادية العراقية. لكن السنوات الأخيرة حملت مسببات التقارب مع تصعيد التيارات والشخصيات الأكثر قومية إلى صدارة المؤسسات السياسية والمزاج الشعبي المناهض للهيمنة الإيرانية، وهو ما قوبل بترحيب خليجي دعمه المخاوف من تحولات ديناميكية في ميزان القوى الإقليمية بعد العودة المحتملة للاتفاق النووي الإيراني، والتكلفة الباهظة للأزمة اليمنية. 

ورغم انطلاق دول مجلس التعاون باتجاه العراق لتأمين جبهتها الشمالية، فإن التحركات الكويتية تنطلق بالأساس من اعتبارات ديموغرافية حيث يشكل المكون الشيعي ثلث السكان، فضلًا عن الارتباط الجغرافي. وتهتم الكويت بتخفيف حدة التوترات الطائفية بين السنة والشيعة العراقيين وتحسين الأوضاع الاقتصادية، لتجفيف البيئة المحلية الحاضنة للجماعات الإرهابية؛ إذ دفعت الممارسات الطائفية لحكومة نوري المالكي لاحتضان السُنة لتنظيم داعش بعدما حرمهم من حقوقهم بشكل منهجي. وتخشى الكويت عودة التنظيم مرة أخرى كأحد الفواعل الإرهابية العابرة للحدود مستغلًا تخلي القوات الأمريكية المتمركزة بالعراق عن مهمتها القتالية والاكتفاء بدور استشاري تدريبي لنظيرتها العراقية.

وتتلخص المخاوف الكويتية من الصعود المحتمل لتنظيم داعش، في إثارة النزعات الطائفية واستقطاب المجتمع الكويتي على أسس طائفية، وجعل الشباب السُنة في البلاد أكثر تطرفًا، واستهداف المكون الشيعي على غرار حادثة عام 2015 حينما فجر انتحاري نفسه أثناء صلاة الجمعة بمسجد الإمام الصادق في منطقة الصوابر، مسفرًا عن 28 قتيلاً وأكثر من 200 جريح، والذي كان دافعًا رئيسيًا لاستضافة ودعم قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش بقيادة الولايات المتحدة، ولهذا فإنها تتابع عن كثب التوترات الطائفية في العراق.

وكان للأهمية الجيوسياسية للعراق وانعكاسات أمنه واستقراره السياسي على المنطقة، دافعًا أساسيًا لتجاوز البلدين ذكريات حرب الخليج الثانية المؤملة، وإعادة بناء جسور التواصل الدبلوماسي على مستوى القائم بالأعمال عام 2004، ثم على المستوى السفراء عامي 2008 و2010 من جانب الكويت والعراق على التوالي، وصولًا إلى انفراجة دبلوماسية عكستها سلسلة من الزيارات المتبادلة بين مسؤولي الدوائر السياسية العليا للبلدين، وطرح رؤى مشتركة للتحديات الجيوسياسية القائمة.

ويبدي البلدان جدية لإدارة الملفات العالقة ذات الطبيعة الإشكالية؛ كتسليم رفات الأسرى الكويتيين، وإعادة ما تبقى من الأرشيف الأميري، واستكمال ترسيم الحدود البحرية وتطبيق اتفاقية تنظيم الملاحة البحرية لعام 2013، وتطوير الآبار النفطية المشتركة، وملف دفع التعويضات (سلم العراق الكويت أكثر من 50 مليار دولار ويتبقى 2.4 مليار دولار)، بعيدًا عن مجمل مجريات العلاقات الثنائية، حيث تقرر خلال زيارة الكاظمي الأخيرة تشكيل لجنة سياسية عليا للتفاوض بشأن الملفات العالقة.

وقد وجدت القيادة الكويتية في النخبة السياسية العراقية التي أفرزتها احتجاجات 2019، وتتبنى توجهات ورؤى سياسية للتعامل مع التحديات الأمنية والاقتصادية مغايرة لسابقيها، أرضية ملائمة لمد جسور التواصل، خاصة أن الرئاسات الثلاث إضافة إلى وزير الخارجية تجمعهم روابط شخصية مع مسؤولين كويتيين؛ فرئيس الجمهورية برهم صالح صديق تاريخي للكويت، ورئيس الوزراء لديه علاقات جيدة بدول الجوار ويحظى بقبول خليجي، فيما يمتلك رئيس البرلمان محمد الحلبوسي علاقات شخصية قوية مع نظيره الكويتي مرزوق الغانم. 

ختامًا، تأتي زيارة الكاظمي الخاطفة للكويت ضمن توجه النخبة العراقية الحالية نحو تأسيس علاقات قوية مع المحيط الإقليمي لدعم مصالح البلاد، وتُبرِز احتلال الدائرة الخليجية مكانة متقدمة ضمن دوائر السياسة الخارجية العراقية خلال الفترة المقبلة، حيث إنها الثالثة للكاظمي لدولة خليجية عقب زيارته الأولى للسعودية في 31 مارس الماضي، يليها الإمارات في 4 أبريل، إلى جانب زيارة نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بزيارة إلى بغداد في 24 مارس الماضي. 

ومع ذلك، لا تزال بعض العقبات تعترض مسار إحداث نقلة نوعية في العلاقات؛ فإلى جانب بعض الملفات العالقة التي تعكر صفو العلاقات الثنائية بين الحين والآخر، تعيق التحديات الأمنية الداخلية في العراق والمناخ الطائفي إرساء تعاون اقتصادي فعّال، فضلًا عن مرور الكويت بصعوبات مالية جراء تداعيات جائحة كورونا وتذبذب أسعار النفط، وتصاعد أصوات رافضة لمنح العراق امتيازات مالية قبل تسديد كافة التعويضات المالية المقررة أمميًا بـ 52.4 مليار دولار، يجسدها النائب البرلماني عبد الكريم الكندي. ويظل التنبؤ بمستوى العلاقات مستقبليًا مرهونًا باستجلاء توجهات النخبة السياسية التي ستفرزها الانتخابات العراقية المقبلة.

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى