
انخراط اضطراري: العالم “حائر“ أمام قضية اللاجئين الأفغان
كما وقف العالم مطولًا أمام فتاة النابالم “الفيتنامية” فسيقف طويلًا أيضًا أمام مشاهد من سقطوا من السماء في أفغانستان وهم يتشبثون بعجلات طائرة عسكرية أمريكية كانت على وشك الإقلاع من مطار كابول – سقطوا في محاولتهم للهرب من حكم طالبان التي قررت واشنطن إعادتها للحكم بعد عشرين عامًا، صحيح أن الأعوام قد دارت ولكن بقيت “طالبان” كما هي. من سقطوا هم عنوان المأساة الأفغانية مثلما كانت ” فتاة النابالم” عنوان مأساة فيتنام.
لذلك؛ يبدو السؤال الأكثر منطقية حول تزايد أعداد الفارين من أفغانستان “هو لماذا تتزايد أعداد الفارين من البلد الآسيوي بتلك السرعة؛ وللإجابة تنبغي الإشارة إلى عاملين هما الأبرز: فعلى الرغم من اعتقاد الكثيرين بأن السبب الأساسي يرجع إلى سقوط كابول في يد طالبان والخوف من نير حكمها فإن السبب الأساسي يرجع للعامل الاقتصادي بشكل أكبر.
ذلك أن أفغانستان من الدول التي يعاني فيها المواطن من تردي مستوى المعيشة وانخفاض معدل دخل الفرد الذي لا يتجاوز 2200 دولار خلال عام كامل ولذلك فإن عدد الأفغان الفارين والراغبين في دخول الأراضي التركية وحدها يصل إلى حوالي 1000 مواطن يوميًا.
تركيا.. لا مزيد من اللاجئين
تعد تركيا من أبرز الدول التي يريد الأفغان الفارين الدخول إليها لأنها تسهل لهم بعد ذلك الدخول إلى الأراضي الأوروبية، ولكن في نفس الوقت فإن الأفغان الفارين إلى دول مثل تركيا متخذين إياها معبرًا لدخول الأراضي الأوروبية فوجئوا بتعلية الجدار العازل الذي تبنيه تركيا على طول حدودها مع إيران والذي يعد الأطول في العالم بامتداد يصل إلى حوالي 900 كيلو مترًا.
وقد أنجزت تركيا حتى الآن 243 كيلو مترًا فقط، وقامت بتزويد الجدار بأجهزة استشعار وكاميرات على أحدث طراز لمراقبة وضبط الحدود، وقد بدأت المخاوف التركية بعد 2015 عندما كانت الحرب السورية في أوجها مخلفة زيادة واضحة في أعداد المهاجرين غير الشرعيين.
علاوة على ذلك فقد تم رصد زيادات في هجمات المتمردين الأكراد، ولذلك فإن الهدف من وراء الجدار ليس فقط منع المهاجرين وإنما منع المتمردين من التسبب في أية اضطرابات على الحدود التركية.
وتتخذ تركيا حاليًا هذا الاتجاه بعد سنوات من اتباع سياسة مغايرة انتهجت استقبال اللاجئين الأفغان بشكل كبير حتى وصلت الأعداد إلى 120 ألف مهاجر أفغاني شرعي و300 ألف يقيمون بطريقة غير شرعية؛ وذلك مقابل الحصول على تسهيلات مالية من الأوروبيين، ولكن مع وصول ملايين السوريين إلى الأراضي التركي حتى تجاوزوا 3 مليون لاجئ لم تعد أنقرة مرحبة بالمزيد من اللاجئين تحت أي بند أو إغراءات.
الموقف الإيراني.. صفقة
على جانب آخر يستدل من الموقف الإيراني على أن طهران ترغب في الفترة الحالية في مواءمة أمورها وترك العمل للآخرين، وفي هذا الإطار فإن إيران المثقلة بالعقوبات الاقتصادية من قبل واشنطن ليست على استعداد لتحمل أي ضغوطات أخرى لاسيما إن كانت من اللاجئين الأفغان وهي التي تضم أكبر جالية أفغانية على الإطلاق بعدد لاجئين وصل إلى 3 ملايين في آخر الأرقام المسجلة. وعلى تلك الخلفية بدت السلطات الإيرانية شديدة الترحيب باستكمال تركيا لبناء الجدار العازل.
ومن ناحية أمنية، فإن إيران تتخوف من المعارضين الأكراد المقيمين على الحدود التركية- الإيرانية لأنهم قد يشنون أية هجمات على إيران وهم يقومون بذلك على فترات تبدو متباعدة ولكن طهران ما زالت ترى في وجود الجدار العازل حماية لها من هجمات الأكراد.
ونظرًا للأوضاع الاقتصادية المزعجة التي تعاني منها إيران، فإن وجود الجدار العازل لمسافة طويلة على حدودها مع تركيا سيحميها من تهريب بضائع تقدر بحوالي 2 مليار سنويًا مما يؤثر سلبًا على الاقتصاد الإيراني. وفي هذا الإطار فإن اللاجئين الأفغان الذي ينفذون إلى الداخل الإيراني سيبقون هناك لبعض الوقت قبل أن تتمكن السلطات من التعامل معهم، ومن غير المرجح أن يستطيعوا الدخول إلى الأراضي التركية قبل أو بعد استكمال بناء الجدار العازل.
أما بالنسبة لطريقة تعامل السلطات الإيرانية مع اللاجئين الأفغان الموجودين على أراضيها بالفعل فإنها توظف أداة الترحيل للضغط على أوروبا؛ لأن الأوروبيين الذين زادت طلبات اللجوء إليهم فيما يتعلق باللاجئين الأفغان سيرون في استمرار الاتفاق النووي مع طهران ضمانًا لحماية أركان النظام الإيراني واتقاء لشر طهران في دفع اللاجئين الأفغان إلى الحدود الأوروبية عن طريق تركيا.
صراع الديكة: الموقف الأوروبي
في هذا الإطار استبق الجانب الأوروبي الأحداث بنظرة بدت مستقبلية بعض الشيء نظرًا لخبرته بأزمة اللاجئين منذ أن اندلعت الحرب السورية، فأشارت رئيسة المفوضية الأوروبية ” أورسولا فون دير لاين” إلى أن وجود اتصالات مع حركة طالبان لا يعني بحال من الأحوال أن بروكسل تعترف بها كجهة شرعية، مضيفة أن الدول الأوروبية يجب أن تكون على استعداد لاستقبال موجات من اللاجئين الأفغان وخصوصًا تلك الدول التي شاركت في المهمات في أفغانستان.
ولكن الدول الأوروبية لا تمتلك نفس الموقف من أزمة اللاجئين الأفغان. ومن المضحكات المبكيات هنا أنه في الوقت الذي شرعت فيه تركيا في بناء جدار عازل بينها وبين إيران لمنع اللاجئين الأفغان من الوصول، شرعت اليونان بدورها في بناء جدار عازل بينها وبين تركيا لنفس السبب على مسافة 40 كلم.
فيما اتخذت النمسا موقفًا أكثر تشدد وعدائية فقالت إنها لن تستقبل أي لاجئين من أفغانستان، أما فرنسا فأرادت أن تمسك العصا من المنتصف؛ وفي هذا السياق أشار الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى أن على أوروبا أن تحمي نفسها ولكنها في نفس الوقت ستستقبل الأفغان الأكثر عرضة للخطر.
وفي الجانب الاستباقي، تتخوف أوروبا من هجمات الذئاب المنفردة في إشارة إلى العمليات التي نفذها مقيمون في الدول الأوروبية منتمون أو متأثرون بفكر التنظيمات الإرهابية، وربما هذا هو السبب الأساسي الذي دفعها لحث الدول الأعضاء والمشاركين في المهمات في أفغانستان على استقبال اللاجئين الأفغان.
على جانب آخر تبنت بريطانيا خطة لاستقبال اللاجئين الأفغان وصفتها الصحافة البريطانية بالـ “أسخى في التاريخ” على الرغم من أن عدد اللاجئين الأفغان الذين وعدت الحكومة البريطانية باستقبالهم لا يتجاوز “خمسة آلاف” وليس من المعلوم أين هو موطن السخاء هنا خصوصًا وإذا كانت لندن قد أعادت بالفعل الآلاف من اللاجئين الأفغان إلى بلادهم في الأعوام الماضية، وكما تم تهميش بريطانيا في عملية الخروج يبدو وكأنها اختارت تهميش نفسها فيما يتعلق بقضية اللاجئين.
واشنطن.. هذه نقرة وتلك نقرة
على صعيد آخر، ظهرت واشنطن وكأنها لا تريد استقبال اللوم من أحد، فبعد انسحاب مفزع وسقوط مدوٍ لكابول، سارعت واشنطن لتقول إنها ستستقبل الآلاف من اللاجئين الأفغان ممن ساعدوا الناتو والأمريكيين في مهمتهم “مجهولة المعالم” في أفغانستان، وأضافت أن أعداد من ستستقبلهم قد يصل إلى 20 ألف.
أما الاستراتيجية الأمريكية في استقبال اللاجئين فتعتمد على توسيع نطاق المستفيدين لتشمل من عملوا مع منظمات إعلامية مقرها الولايات المتحدة، ومنظمات غير حكومية، أو على مشاريع مدعومة بتمويل أميركي.
وستسمح الخارجية الأمريكية بدخول مزيد من الأفغان الذين عملوا كمترجمين أو قاموا بأدوار أخرى داعمة لقوات التحالف الذي قادته واشنطن، ولم يستوفوا المتطلبات التي وضعت سابقًا بشأن مدة خدمتهم. حيث تصنف الخارجية الأمريكية اللاجئين الأفغان ضمن ما يعرف بالـ “أولوية 2″ حيث يمثل رقم “2” درجة الاضطهاد في البلد التي أتى اللاجئ منها.
ماذا عن روسيا؟
حسب مصادر وكالة المخابرات المركزية الأميركية فقد أسفر الصراع بأفغانستان عن مقتل نحو 15 ألف روسي وخسائر مادية قدرت بمليارات الدولارات خلال فترة عانى فيها الاتحاد السوفيتي من مشاكل اقتصادية.
وروسيا التي ورثت الاتحاد السوفيتي وهزائمه لن تقبل بالمزيد من الخسائر وهو ما انعكس في التصريحات الروسية التي جاءت صريحة لا تقبل التأويل حول أن موسكو لن تستقبل اللاجئين الأفغان وهو ما أكده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي قال إنه لا يريد ظهور مسلحين في بلاده تحت غطاء كلمة ” لاجئين”.
واستمر في نبرة الرفض عندما عبر عن خطورة قيام بعض الدول الغربية بنقل لاجئين من أفغانستان إلى دول آسيا الوسطى المجاورة، للإقامة فيها خلال فترة معالجة تأشيراتهم إلى الولايات المتحدة وأوروبا. ومن الطبيعي أن تظهر التخوفات الروسية في هذا الصدد لأنها تسمح للمسافرين من تلك الدول في وسط آسيا “جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق ” بالدخول إلى الأراضي الروسية دون الحصول على تأشيرات دخول.وتأسيسًا على ما تقدم؛ فإنه لا يمكننا النظر لقضية اللاجئين بوصفها قضية إنسانية فقط؛ فوجود اللاجئين وإن كان مسألة تستثير قيم الإنسانية بالدرجة الأولى إلا أنها تتداخل مع خيوط الجغرافيا والسياسة والاقتصاد والتاريخ.. وتخلق نوعًا من الصراع الأخلاقي والمسؤولية العالمية المشتركة التي يجب تقاسمها بدلًا من التملص منها. مع الوضع بالاعتبار أن هذه المسؤولية متروكة للتقديرات “الذاتية” للدول في وقتنا الحالي. ومع ازدياد أعداد اللاجئين تظهر الأزمة الحقيقية في نوعية الدول التي تقوم باستقبالهم والتي تشكل في أغلب الأوقات دول متوسطة بل منخفضة الدخل في بعض الأحيان، وما أن يستقر فيها اللاجئ حتى يبحث عن وطن جديد يترك فيه ” معبره” منخفض الدخل خلفه كما ترك وطنه الأم.
باحث أول بالمرصد المصري



