ليبيا

الاستقطاب المستمر …. ليبيا بين التقدم العسكري والتراجع السياسي

دخلت ليبيا الشهر الجاري في خضم مرحلة جديدة كليًا على كافة المستويات، خاصة فيما يتعلق بالمسارات السياسية والعسكرية. المفارقة هنا تتمثل في أن التقدم الوحيد البارز في هذه المرحلة يتعلق بشكل أساسي بالمسار العسكري، في حين دخل المسار السياسي في سياقات سلبية تؤشر على عدم إمكانية تحقق الهدف الأساسي من خارطة الطريق التي تم إقرارها في جنيف، وهو عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية بحلول الرابع والعشرين من ديسمبر المقبل.

التقدم الذي تم إحرازه فيما يتعلق بالمسار العسكري، واكبه فشل واضح من جانب رئيس الحكومة الحالية عبد الحميد الدبيبة في تحقيق منجزات ملموسة على مستوى الأداء الحكومي، وبدا واضحًا تأثره بالضغوط المستمرة والمتزايدة من جانب المجموعات المسلحة المتواجدة في المنطقة الغربية، والتي -بطبيعة الحال- أصبحت تحت سيطرة أنقرة، عبر الأسلحة والمعدات العسكرية التي تدفقت على غرب ليبيا منذ أواخر العام الماضي وحتى الآن.

اللافت في هذه المرحلة أن اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) أصبحت هذا الشهر هدفًا لهجوم ضاري من جانب بعض الأجسام السياسية و”شبه العسكرية” في غرب البلاد، بسبب بيان مهم أصدرته اللجنة دعت فيه إلى حسم أحد أهم الملفات الداخلية في ليبيا على الإطلاق، ألا وهو ملف “القوات الأجنبية والمرتزقة”.

اللجنة العسكرية المشتركة … مثال للإنجاز وهدف للهجوم

ربما كانت اللجنة العسكرية المشتركة هي المثال الليبي الوحيد في الوقت الحالي على إمكانية تحقيق شيء إيجابي على الأرض في الظروف الحالية، فقد داومت اللجنة المشكّلة من قيادات عسكرية تابعة لكل من القيادة العامة للجيش الليبي ورئاسة الأركان العامة التي تتخذ من طرابلس مقرًا لها على الاجتماع بشكل دوري في مدينة سرت، وحققت عدة خطوات متقدمة بشأن الملفات الميدانية التي تضمنها اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في أكتوبر الماضي، مثل إزالة الألغام الموجودة على الطريق الساحلي بين مدينة سرت وغرب البلاد، وتبادل الأسرى بين شرق وغرب البلاد، إذ تمكنت من تنفيذ عدة عمليات تبادل، كان آخرها هذا الشهر، تم فيها تسلم سبعة عشر عنصرًا مسلحًا كان الجيش الوطني الليبي قد اعتقلهم خلال معارك طرابلس، ويتبعون لقوات “بركان الغضب”.

الإنجاز الأكبر لهذه اللجنة كان الإعلان عن الفتح الكامل للطريق الساحلي الرابط بين شرق وغرب البلاد أواخر الشهر الماضي؛ وجه الإنجاز في هذا التطور لم يتمثل فقط في فتح شريان هو الأهم في عموم البلاد، بل أيضًا في تقديم نموذج حول كيفية التغلب على التناقضات والخلافات الجذرية بين ضفتي البلاد، والتعامل بـ “انضباطية” مع التحديات التي تفرضها هذه المرحلة. 

نجاح اللجنة في التغلب على هذه التناقضات دفعها إلى البدء بشكل فوري في تمهيد الطريق نحو فتح طريق أبو قرين – الجفرة، الذي يعد الطريق الرئيسي في وسط ليبيا. رغم أن فتح الطريق الساحلي قد حاز -من حيث المبدأ- على مباركة كافة الأطراف الليبية، إلا أن بعض الأجسام المسلحة في غرب ليبيا تحسست خطر تصاعد دور هذه اللجنة، وهذا ظهر بشكل واضح من خلال محاولة بعض هذه الأجسام إفشال هذه الخطوة بشكل أو بآخر.

من ضمن هذه المحاولات، قيام بعض المجموعات المسلحة التابعة لميليشيا “الفاروق” المتمركزة في مدينة مصراته، بإغلاق الطريق الساحلي عند نقطة “بوابة الكراريم” شرقي مدينة مصراته، و”بوابة الدافنية” القريبة من التخوم الغربية للمدينة، وطردت هذه المجموعات العناصر التابعة للجنة العسكرية المشتركة، والتي تتولى تأمين الطريق الساحلي ومراقبة تنفيذ الاتفاق الخاص بفتح الطريق. يضاف إلى ذلك تمركز بعد الميليشيات الأخرى على نقاط تفتيش في النطاق الرابط بين شرق مدينة مصراته وغرب مدينة سرت، وهو ما يمثل تهديدًا مستمرًا لحرية حركة المسافرين على الطريق، والأهم انه يمثل تحديًا للقرارات الصادرة عن اللجنة العسكرية المشتركة.

تصاعد الهجوم على اللجنة العسكرية المشتركة عقب بيان مهم أصدرته عقب اجتماعها السابع في مدينة سرت في الرابع عشر من الشهر الجاري، تضمن بعض البنود التي بدا منها أن اللجنة أصبحت تخشى بشكل جدي دخول الوضع الداخلي الليبي في دوامة جديدة من الجمود والتصعيد الميداني، نتيجة استمرار فشل ملتقى الحوار الوطني في التوافق على القاعدة الدستورية الخاصة بالانتخابات المقبلة، وظهور مؤشرات جدية برغبة بعض الأطراف في غرب البلاد في تعديل خارطة الطريق سواء عبر عقد انتخابات تشريعية فقط، أو حتى تأجيل كافة العمليات الانتخابية إلى موعد لاحق، والتركيز على الاستفتاء على مشروع الدستور. 

النقطة الأهم في بيان اللجنة، والتي كانت سببًا في تعرضها لسيل من الهجوم القادم من غرب البلاد، كانت مطالبتها بسرعة تعيين وزير للدفاع، وكذلك إعلانها عن البدء في الإجراءات التحضيرية لإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب من كافة الأراضي الليبية، ومخاطبتها المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، لتجميد كافة الاتفاقيات العسكرية ومذكرات التفاهم الموقعة مع أي دولة. هذه النقطة الأخيرة، والتي تتوافق مع ما تم الاتفاق عليه سابقًا سواء جنيف أو في برلين، أطلقت شرارة هجوم ضاري من المكونات الليبية التي تتوافق مع التوجهات التركية الحالية، بجانب تجاهل واضح من جانب حكومة الدبيبة.

فقد كان واضحًا من بعض الخطوات التي قام بها رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة رغبته في تحجيم دور هذه اللجنة، خاصة حين قام في يونيو الماضي بإعلان إعادة فتح الطريق الساحلي، رغم أن الترتيبات الخاصة بهذا الملف لم تكن مفعلة في هذا التوقيت، وكذلك حين اجتمع أوائل الشهر الجاري مع جزء من اللجنة العسكرية المشتركة، الذي يتبع غربي البلاد، وطالبهم بضرورة التنسيق المسبق معه في القرارات والإجراءات المتخذة من جانبهم. حتى الآن لم تجب حكومة الدبيبة على رسائل اللجنة العسكرية المتعلقة بملف الميليشيات الموجودة في غرب البلاد، خاصة تلك التي تعمل بشكل مستقل عن الأجهزة الحكومية ماليًا وإداريًا، مثل “جهاز دعم الاستقرار” و”الأمن العام” و”قوة الردع الخاصة”.

كذلك لم يرد من حكومة الدبيبة أي رد على مطالبات اللجنة العسكرية المشتركة بشأن تجميد الاتفاقيات العسكرية المبرمة مع دول أخرى، وهذا قد يعد رفضًا ضمنيًا لتناول الحكومة الحالية لهذا الملف، خاصة أنه يتعلق بشكل أساسي بالاتفاقيات العسكرية مع تركيا، وقد بات من نافلة القول ذكر أن كافة المكونات السياسية وشبه العسكرية في غرب البلاد، أصبحت تنظر إلى هذه الاتفاقية على أنها “مسألة حياة أو موت”، وهي نظرة تعززها العلاقات الإيجابية المتصاعدة بين الدبيبة وأنقرة.

لهذا لم يكن مستغربًا شن بعض الأطراف في غرب ليبيا هجومًا شرسًا على اللجنة العسكرية المشتركة وبيانها، منها المجلس الأعلى للدولة، الذي يترأسه خالد المشري، القيادي السابق في حزب “العدالة والبناء” وأحد المقربين من أنقرة، والذي أصدر بيانًا طالب فيه بضرورة التزام اللجنة العسكرية المشتركة باختصاصها و”النأي بنفسها عن الحديث في الشأن السياسي أو الاتفاقيات الدولية المحفوظة”. 

من ضمن الأصوات المهاجمة لهذا البيان كان قائد “غرفة عمليات المشتركة بالمنطقة الغربية” اللواء أسامة الجويلي، حيث أعلن رفضه القاطع مطالبات اللجنة العسكرية المشتركة تجميد الاتفاقيات العسكرية مع تركيا. على الجانب الآخر، أعلنت مجموعة من الأحزاب والحركات السياسية، تأييدها البيان الأخير للجنة العسكرية المشتركة، هي الحزب المدني الديمقراطي، وتحالف القوى الوطنية، والحزب الوطني الوسطي، وتكتل إحياء ليبيا، وتكتل الإرادة الوطنية، والتكتل الوطني للبناء الديمقراطي، والحراك الوطني الليبي، وحزب شباب الغد، وحركة “ليبيا تنتخب رئيسها”، وتيار شباب الوسط، وحركة “من أجل 24 ديسمبر”، والاتحاد النسائي درنة وضواحيها، والشبكة الليبية لدعم وتمكين المرأة.

المشهد الليبي يعود تدريجيًا عامًا إلى الوراء

من الملاحظات الجديرة بالذكر في المشهد الليبي الحالي تقلص التواصل بين المكونات السياسية في شرق وغرب ليبيا بشكل كبير، وذلك بعد أن بدا عقب تشكيل المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة الوطنية، أن انفراجة كبيرة في العلاقات بين هذه المكونات قد باتت متوقعًة.

آخر اللقاءات التي جمعت بين الجانبين كانت لقاء بين اللواء خيري التميمي مدير مكتب قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، والذي يشغل عضوية اللجنة العسكرية المشتركة، مع وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية نجلاء المنقوش، وقد تم خلال هذا اللقاء بحث ملف إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية، وهو ملف كان للمنقوش رأي بارز فيه خلال الفترة الماضية، وإن كانت مواقفها في هذا الصدد باتت أقل “وضوحًا” خلال الآونة الأخيرة.

الاستقطاب الداخلي بين الشرق والغرب بات عنوانًا لهذه المرحلة، فقد بات التواصل بين قيادة الجيش الوطني الليبي وحكومة الدبيبة في أقل مراحله، وأصبح ملف “وزير الدفاع” من الأسباب الرئيسية لتقلص هذا التواصل، حيث اشترط الدبيبة اعتراف المشير حفتر بسلطته كرئيس للوزراء ووزير للدفاع، في حين أعلن المشير حفتر بوضوح أن الجيش الوطني الليبي “لن يخضع إلا لإرادة الشعب عبر سلطة منتخبة”. نتيجة لهذا الاستقطاب، شرع كلا الطرفين في تنفيذ عدة إجراءات على المستوى العسكري، يحاول كلاهما من خلالها تأكيد نفوذه وسيطرته على الوحدات العسكرية التابعة له، وهي إجراءات تنبئ في مجملها بأن كلا الطرفين يستشعران خطورة المرحلة المقبلة.

ففي جانب الجيش الوطني الليبي، تم تكليف الفريق عبد الله الثني برئاسة الإدارة السياسية في الجيش الليبي، وترقية اللواء امراجع العمامي إلى رتبة فريق وتكليفه برئاسة القوات البرية، وترقية اللواء طيار محمد المنفور إلى رتبة فريق وتكليفه برئاسة أركان القوات الجوية، وترقية اللواء مفتاح شقلوف إلى رتبة فريق وتعيينه رئيسًا لأركان قوات حرس الحدود، وتكليف اللواء صالح عبودة قائدًا لإدارة التدريب، واللواء شعيب الصابر رئيسًا لأركان القوات البحرية، وتكليف اللواء رمضان عطية الله البرعصي قائدًا لمنطقة البيضاء العسكرية. 

وكذلك، تم إعادة تشكيل غرفة عمليات سرت الكبرى، وتعيين اللواء أحمد سالم قائدًا لها، وتكليف اللواء هاشم الكزة قائدًا لمنطقة طبرق العسكرية، وتكليف العميد عبد الله عمر الزايدي قائدًا لغرفه عمليات الجفرة، وتعيين اللواء سالم الرفادي قائدًا لمنطقة الخليج العسكرية. على الجانب الآخر، صعدت القوى العسكرية في غرب البلاد لهجتها ضد الجيش الوطني وقيادته، فأصدر رئيس النيابة العسكرية الوسطى في مدينة مصراته، أمر ضبط وإحضار للمشير حفتر ومدير مكتبه.

بشكل عام، ترى القيادة العامة للجيش الوطني الليبي نفسها أمام تحدٍ خطير، بدأت ملامحه في الظهور بشكل تدريجي أوائل الشهر الماضي، حين هاجمت أربعة سيارات وحدة عسكرية تابعة للواء 128 التابع بدوره للجيش الوطني الليبي في منطقة تقع شمالي مدينة سوكنه في الجفرة؛ وهو الهجوم الأول من نوعه منذ فرض الخط الأحمر “سرت – الجفرة”، وإيقاف إطلاق النار بين شرق ليبيا وغربها. 

لهذا بدأت مكونات الشرق الليبي في إعادة التواصل مع بعضها البعض، وهذا تمثل في لقاء هام جمع في السابع عشر من يوليو، بين المشير خليفة حفتر والمستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان، تم خلاله التأكيد على وحدة الهدف وعدم وجود أية خلافات جوهرية بينهما، وقد تلى هذا اللقاء زيارة مهمة للمشير حفتر إلى القاهرة هذا الشهر، عقد خلالها لقاءً مع المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى ليبيا، وهو حدث لافت خاصة وأن الولايات المتحدة كانت ضمنيًا تتفادى التحاور مع المشير خلال الفترات الماضية.

تركيا ترتب أوراقها في الغرب الليبي

فيما يتعلق بالوضع الميداني في غرب ليبيا، نستطيع أن نقول إن عملية “إعادة ترتيب الأوراق”، قد بدأت تركيا في تنفيذها في صفوف الميليشيات المتواجدة في هذا النطاق، وهي عملية إذا ما وضعنا جانبها استمرار وصول الطائرات الحاملة للأسلحة والذخائر، والتي لم تنقطع عن مطارات غرب البلاد منذ أواخر العام الماضي، سنصل إلى نتيجة مفادها أن الغرب الليبي يستعد بشكل حثيث لاحتمالية اندلاع المعارك مرة أخرى، وهي احتمالية تتزايد يومًا بعد آخر.

في هذا الإطار، أصدر المجلس الرئاسي قرارًا باستحداث منطقة عسكرية جديدة تحت اسم “المنطقة العسكرية بالساحل الغربي”، وحدد نطاق عملها ما بين الساحل الغربي الليبي والحدود التونسية، واللافت أن قاعدة الوطية الجوية التي تتمركز فيها وحدات عسكرية تابعة للجيش التركي، تقع ضمن هذه المنطقة. قائد المنطقة الجديدة هو اللواء صلاح الدين النمروش، وهو أحد القادة العسكريين الليبيين الموالين بشدة لأنقرة. ترافق هذا القرار مع تسارع وتيرة نقل وتخزين الأسلحة التركية، وكذلك عمليات التدريب التي يقوم بها عسكريون أتراك للعناصر الأمنية والعسكرية الليبية. 

هذا القرار ترافق مع سلسلة من الزيارات التي قام بها عدد من الضباط التابعين لحكومة الوفاق السابقة إلى تركيا، منهم رئيس الأركان السابق محمد الحداد، الذي عقد لقاء مع وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، وخرج بعده يهاجم اللجنة العسكرية المشتركة. خلال هذه الزيارة أكد آكار أن جنود بلاده في ليبيا ليسوا أجانب، وأنهم سيواصلون تواجدهم هناك، وهو نفس الموقف الذي أكده خلال زيارة رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة إلى أنقرة، والتي صاحبه فيها محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير، وتم خلالها الاتفاق على عقد الاجتماع الثاني لمجلس التعاون الاستراتيجي الليبي – التركي بمدينة طرابلس في أكتوبر المقبل، وبحضور الرئيس التركي شخصيًا.

في نفس السياق، بدأت عمليات حشد ميداني مستمرة في عدة مدن بالساحل الغربي الليبي، خاصة في مدن مثل العجيلات والزاوية ومصراته وطرابلس، تنفذها عشرات الميليشيات المسلحة التابعة لوزارة الدفاع والداخلية والمجلس الرئاسي، وتبدو مقدمة لما يمكن إن نطلق عليه “حرب إلغاء”، تتصارع فيها الميليشيات المختلفة على النفوذ والسيطرة، وهو مشهد يكرس الأوضاع الأمنية بالغة السوء التي تعيشها العاصمة، ويؤكد أيضًا فشل الحكومة الحالية في تمهيد الأرضية الأمنية أمام الانتخابات المقبلة. 

عمليات الحشد هذه تضمنت عدة اغتيالات طالت مجموعة من القيادات الميليشياوية، منهم طارق قلية، أحد قياديي ميليشيا “المحجوب” الموالية لتركيا، ونفذ هذه العملية عناصر تتبع إحدى ميليشيات مدينة الزاوية غربي العاصمة، وقد شهدت مدينة الزاوية عمليات اغتيال مماثلة.

الصراع الأساسي داخل العاصمة يبقى بين طرفين أساسيين، الأول هو ميليشيا “جهاز حفظ الاستقرار” التي تتبع المجلس الرئاسي، ويقودها المدعو عبد الغني الككلي، وميليشيا “الردع” التي يقودها المدعو عبدالرؤوف كارة، حيث تبادلتا عمليات الاقتحام والاغتيال خلال الشهرين الأخيرين بشكل مستمر، ما جعل الوضع الميداني داخل العاصمة أقرب إلى الحالة التي كانت سائدة العام الماضي، خاصة أن عشرات الآليات والمقاتلين قد وصلت إلى العاصمة للمشاركة في هذا الصراع من مدينة الزنتان ومدن أخرى، وهو ما حوّل العاصمة إلى غابة للميليشيات، وعادت عمليات الخطف إلى الواجهة مرة أخرى، وكان آخر ضحاياها النائب الأول لعبد الحميد الدبيبة، الذي تم اختطافه لبضعة أيام أثناء تواجده في العاصمة.

الفشل الحكومي …ومآلات المستقبل الليبي المنظور

بالإضافة إلى الفشل في الملف الأمني، لم تحقق حكومة الدبيبة إنجازًا يذكر على المستوى العملي، وهو ما فاقم من سوء الأوضاع الحالية في البلاد، وجعل الكفة تميل أكثر نحو التصعيد المسلح. ففي ملف مواجهة جائحة كورونا، تكررت حوادث انقطاع الأكسجين في عدة مراكز للعزل، وتتزايد بشكل واضح حالات الإصابة في ظل عدم توفر اللقاحات في عدد كبير من المناطق الليبية خاصة في المنطقة الجنوبية.

الفشل طال ذلك ملفات عديدة تحد عنها الدبيبة قبل توليه منصبه، مثل ملف المصالحة الوطنية، وملف توحيد مؤسسات الدولة خاصة المتعلقة بالجانب الاقتصادي، والملف الخدمي خاصة قطاع الكهرباء. ويتقاطع الفشل في الجانب السياسي من جهود الحكومة الحالية، مع فشل لجنة الحوار الوطني في إيجاد قاعدة دستورية لعقد الانتخابات، ولعل البادرة الوحيدة للنجاح في الملف السياسي كان توافق مجلس النواب في طبرق على قانون يقضي بانتخاب رئيس الدولة الليبية القادم من الشعب مباشرة، إلا أن هذه الخطوة كانت مثار جدل كبير خاصة في الغرب الليبي، وهو ما أكد بشكل أو بآخر رغبة بعض الأطراف في عدم إقامة الانتخابات نهاية العام.

هذه الرغبة قد تبدو منطقية بالنظر إلى حقيقة أن الأجسام الميليشياوية لا تجد بيئة خصبة للنمو والاستمرار سوى في ظل حالة الفوضى السياسية والأمنية، لكن بغض النظر عن هذا، بات سوء الأداء الذي اتسمت به لجنة الحوار الوطني، ومن خلفها اللجنة الأممية للدعم، في التأسيس للقوانين التي ستنظم انتخابات العام الجاري، وفي ضوء تقلص المدة الزمنية المتاحة لتصحيح الأوضاع، تظهر عدة سيناريوهات متوقعة لما هو مقبل.

  • السيناريو الأول هو اشتباك الغرب والشرق الليبي مرة أخرى، وبالنظر إلى حجم التسليح الذي باتت عليه القوى العسكرية المختلفة في الداخل الليبي، فإن هذا الاشتباك قد يتطور إلى حرب واسعة النطاق، وليست محصورة في تخوم العاصمة كما كان الوضع عليه سابقًا. 
  • السيناريو الثاني يتمثل في تدخل البرلمان، في حالة استمرار الوضع القائم، وقيامه بسحب الثقة من حكومة الدبيبة، وإعلانه تشكيل حكومة جديدة في شرق البلاد، ما يعيد المشهد السياسي إلى ما كان عليه العام الماضي، في ظل حكومتي “الثني – السراج”، علمًا بأن هذا السيناريو ألمح إليه رئيس البرلمان المستشار عقيلة صالح في حوار صحفي مؤخرًا. 
  • السيناريو الثالث، وهو الذي تحاول بعض القوى الإسلامية في لجنة الحوار الدفع في اتجاهه، هو عقد الانتخابات البرلمانية فقط نهاية العام الجاري، بحيث يتم قبلها أو بعدها بفترة وجيزة الاستفتاء على مشروع الدستور، وهو طرح يقتضي عدم إقامة الانتخابات الرئاسية، وبالتالي يضع خارطة الطريق السياسية تحت سيف التعديلات المستمرة، ما يطيل من أمد الأوضاع القائمة في البلاد.

ختامًا :

تتزايد بشكل واضح مؤشرات التصعيد الأمني والسياسي في ليبيا، بعد أشهر من التفاؤل الحذر، وتبقى خارطة الطريق السياسية، وتنفيذها بشكل دقيق، المخرج الوحيد من الوضع القائم، ودونها ستكون العودة إلى مشهد عام 2020 شبه حتمية، لكن مع أعباء وتحديات إضافية، ربما قد تجعل الغرب الليبي مسرحًا لحشد العناصر الإرهابية نحو تونس، والجنوب الليبي مسرحًا لحشد العناصر الإرهابية نحو الساحل والصحراء.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى