تقييم سياسات الأمن القومي الأمريكية.. كتاب “لماذا يجعلنا فشلنا في مواجهة تحديات الأمن القومي الصعبة أقل أمانًا”
عرض – شادي محسن
يخلص الكتاب الذي نُشِرَ في مايو 2021، بعنوان: “الدفاع عن الجنون: لماذا يجعلنا فشلنا في مواجهة تحديات الأمن القومي الصعبة أقل أمانًا” Insanity Defense: Why Our Failure to Confront Hard National Security Problems Makes Us Less Safe، (180 صفحة)، لمؤلفته “جين هارمان” إلى أن الإدارات الأمريكية الأخيرة (منذ إدارة بوش) فشلت في معالجة قضايا الأمن القومي، مما أكسب المجتمع الأمريكي الشعور بالخوف والاختلاف مع الإدارة السياسية؛ “العامل الرئيسي هو انعدام قدرة المؤسسات على الإدارة، هذا يُفسر سبب فشل ترامب في إدارة أزمة كورونا، ومن ثمّ عدم فوزه في الانتخابات الأمريكية، وليس بسبب تآمر الدولة العميقة (الأجهزة الأمنية) عليه، كما يروج اليمين”.
عملت مؤلفة الكتاب “جان هارمان” في جميع اللجان الأمنية الرئيسية في الكونجرس: ست سنوات في الشؤون العسكرية، وثماني سنوات في الشؤون الاستخباراتية، وثماني سنوات في الأمن الداخلي. خلال مسيرتها المهنية الطويلة في المجال العام، تم الإقرار بـ “هارمان” كخبير وطني في العلاقة بين قضايا الأمن والسياسة العامة. وانضمت أخيرًا إلى المركز البحثي الأمريكي “وودرو ويلسون” كمدير ورئيس تنفيذي ثم كرئيس شرفي.
التحديات السبعة
استهلت الكاتبة الكتاب بعرض مجموعة التحديات التي أثرت على معالجة الولايات المتحدة لأمنها القومي، كما تؤثر على المؤسسات الأمنية في الولايات المتحدة بالسلب، وهي: (1) خفض هائل في الإنفاق الاستخباراتي بعد انتهاء الحرب الباردة بدون استراتيجية محددة مع الانفاق المتضخم والاستخدام السيء للقوة العسكرية. (2) الإهمال السياسي (البيت الأبيض والكونجرس) في استخدام أجهزة الأمن الداخلي بما سبب الفشل في إدارة أزمة كورونا على المستوى الأمني. (3) Power over Truth أي طرد الكفاءات في الأجهزة الأمنية وتدوير عملها بنموذج الحرب الباردة. (4) انتهاك الدستور والمواثيق الدولية في التعامل مع المشتبه فيهم بداع انتهاج الأسلوب الوقائي مع التهديدات الأمنية. (5) اعتماد برنامج مراقبة أمنية مشدد وغير قانوني، وغير مؤمَّن قد يعرض أمريكا للانكشاف. (6) انتهاك الدستور والقوانين الأمريكية وتجاهل الكونجرس في مراقبة مبيعات السلاح الأمريكية والعمليات العسكرية. (7) أفقد الانقسام الحزبي الحاد داخل الكونجرس تأثيره السياسي في مقابل تصاعد قوة وتأثير الإدارات التنفيذية.
- عوامل داخلية
وتقول الكاتبة أن الإدارات الأمريكية -منذ إدارة بوش، مرورا بإدارة أوباما، حتى إدارة ترامب، ويتبدى الحال النهائي نفسه في إدارة بايدن- فشلت في الإدراك بأن المؤسسات -بما فيها أجهزة الأمنية- لم تعد فعّالة أو ملائمة لطبيعة النظام العالمي الجديد الذي أصبح عالمًا متعدد القوى بشكل متزايد؛ كما الدول الصاعدة على المستوى السياسي والاقتصادي تحررت من البطش السوفييتي؛ وبسبب التوسع في انتشار التكنولوجيا الرقمية؛ وانتشار الصراعات ذات الطبيعة الطائفية والاثنية. وبالتالي لم تعد الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي لا غنى عنها لدى الجميع.
وتؤكد الكاتبة أنه لا يمكن إلقاء اللوم فقط على الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في فشل الولايات المتحدة على التعامل مع أزمة كورونا، “فهو اتهام لا يبحث الأسباب الحقيقية للأزمة”. فأحد الأسباب هي (1) أن كل إدارة أمريكية جديدة تميل إلى تجاهل توصيات الإدارات السابقة خاصة إذا كانت من الحزب المختلف عن سابقه، مثل إدارة ترامب مع إدارة أوباما. كما أن أوباما ذاته تجاهل توصيات إدارة بوش فيما يتعلق بطريقة التعامل مع تنظيم القاعدة.
(2) ثم هناك البيروقراطية التي تشكل أحد الأسباب العميقة في فشل الإدارات الأمريكية في التعامل مع الأزمات، خاصة أن تلك البيروقراطية غير مستجدة ولا تتلاءم مع معطيات الواقع الجديد. وفي حال تغيرها فإنها تخضع للتأثير السياسي من أعلى الذي يحكمه معيار الولاء للحزب وليس الكفاءة المهنية. (3) يميل المجتمع الأمريكي المحسوب على الحزب الديمقراطي للتركيز على الحال “الطبيعية” أي الاكتفاء بالوصول إلى الرضا بشأن تلبية رغباته المعيشية والوصول إلى الرفاه. وعدم الاكتراث بالأحوال السياسية في بلاده؛ بسبب تدفق المعلومات غير المتناهي وظاهرة الأخبار الكاذبة.
- استخبارات “مسيسة”
ركزت “هارمان” في أحد الجوانب الأساسية من الكتاب: على وضع المجتمع الاستخباراتي في الولايات المتحدة، وأوضحت أنه لا يزال عرضة للتلاعب من قبل البيت الأبيض. ما زالت الولايات المتحدة تواجه تحديات الذكاء الرقمي والاصطناعي عبر مؤسسات خاضعة للتدخل السياسي. وتقول: “سيستمر هذا الجنون ما لم نمنح مدير المخابرات الوطنية سلطة حقيقية للقيام بمهامه، وتقليل الإفراط في التصنيف، وإصلاح ممارسات التوظيف القديمة التي تمنع المجتمع الاستخباراتي من الوصول إلى الأشخاص ذوي المهارات اللغوية والمعرفية الفائقة.
تشير الكاتبة (على حد قولها) إلى أن المخابرات ليست سياسة policy، كما أنه ليس علمًا أيضًا. المخابرات هي عبارة عن مجموعة التنبؤات التي تستند على أفضل الحقائق حول النوايا البشرية وقدرة الخصم. وعلى الرغم من التحذيرات التي قدمتها وكالة المخابرات المركزية بشأن القاعدة، إلا أن إدارة الولايات المتحدة أصيبت بصدمة من هجمات الحادي عشر من سبتمبر، والتي اتسمت كونها فريدة من حيث الحجم، والتعقيد، والقسوة.
بالإضافة إلى ذلك، إذا تم تشويه المعلومات الاستخباراتية أو فرزها بطريقة غير علمية أو انحيازها لتناسب ما يريد صانع القرار، فسيؤدي ذلك حتمًا إلى نتائج سيئة، مثلما حدث في العراق. إذ تعمدت إدارة بوش تضخيم التقارير الاستخباراتية القادمة من العراق لتبرير ضربتها العسكرية.
وأوضحت أنه من الملاحظ أن المجتمع الاستخباراتي الأمريكي تميز بالعمل السري والعسكري في مراقبة العناصر الإرهابية وقتلهم أو القبض عليهم، ولكن لم ينجح في تفكيك فكر التنظيمات الإرهابية والتوصية بالأساليب المناسبة لمجابهتها، وهو ما انعكس في تزايد نشاط الإرهاب وتأثيره. وقالت: “والسبب هو استقالة الكفاءات وكبار المسؤولين بسبب التدخل السياسي من أعلى”.
ملامح تدارك؟
أشارت الكاتبة إلى أنه بحلول عام 2020، كانت صحيفة نيويورك تايمز تشير إلى أن وكالة الأمن القومي أوقفت جمع البيانات الوصفية لأنها وجدت أن البرنامج ببساطة لم يقدم معلومات مفيدة. وفقًا لدراسة داخلية رفعت عنها السرية، أنفقت وكالة الأمن القومي 100 مليون دولار على مدى السنوات الأربع السابقة لتحليل سجلات المكالمات الهاتفية المحلية. بعد فوات الأوان، من الواضح أن التكنولوجيا سريعة التطور سوف تتخطى أي إطار قانوني. هذا هو السبب في أن القوانين المتعلقة بالمراقبة الحكومية تحتاج إلى رقابة صارمة وبنود نهائية.
يمكن القول إن هناك خطرًا أكبر على الأمن القومي من الاستمرار في دعم أدوات جمع المعلومات – بدافع الفخر البيروقراطي- التي قد لا تكون فعالة بعد الآن (أو في بعض الحالات لم تكن فعالة حقًا في البداية). من المهم التفكير في مقدار الوقت والجهد اللذين تم إنفاقهما في الإحاطة ثم مناقشة برنامج البيانات الوصفية للهاتف التابع لوكالة الأمن القومي والذي اتضح أن له فائدة هامشية على أقصى تقدير. لكن الكونجرس أقر تمديد مشروع مراقبة غير قانوني، بما يسمح جمع المعلومات من أجهزة المحمول، والتفتيش الجنائي غير المسبب، واستخدام سجلات الأعمال بشكل عام. وهو القانون الذي رفضه ترامب سابقا لكن لم ينجح في تعطيله.
وأوضحت الكاتبة، “ما زلنا نواجه معضلة كتابية: الاختيار بين خيارين كلاهما مُر”. هل ينبغي للحكومة أن تحد من قدرتها على تتبع السلوك السيئ، حتى لو كان مثل هذا التتبع يمكن أن ينقذ الأرواح على سبيل المثال، من خلال تحديد المصابين بكوفيد-19، أو من خلال الرد على الهذيان عبر الإنترنت لمن يطلقون النار الجماعي المحتمل؟ أم يجب أن يكون المواطنون على استعداد للتخلي عن بعض الحرية والخصوصية مقابل المزيد من الأمان؟ حتى باسم الحصول على مزيد من الأمان، يمكن لعدد قليل من الأمريكيين قبول المسار الذي سلكته الصين وهو الاستعداد الشعبي للتخلي عن الخصوصية مقابل مزيد من الأمن.
ختاما، يمكن القول إن،
- الإدارة الأمريكية تعاني من تراجع الكفاءة الإدارية في مؤسساتها (وبالتحديد الأجهزة الأمنية)؛ نتيجة التدخل السياسي في تحديد قراراتها او اختيار موظفيها أو تسييس مخرجاتها، وتقزم تأثير الكونجرس في السياسة الأمريكية بعد الانقسام الحزبي الحاد بين الديموقراطيين والجمهوريين.
- أن ذلك يتسبب في فشل الولايات المتحدة في معالجة قضاياها التي تمس الأمن القومي وأبرزها أزمة جائحة كورونا.
- لا يعني الجمع الهائل للمعلومات الوصول إلى تقدير استخباراتي سليم للموقف؛ لأنها قد تنتهي عند إدارة غير مهنية، وغير موضوعية، أو خبراتها متواضعة.
- تؤكد الكاتبة أنه رغم إدراك بايدن لطبيعة التحديات المتزايدة على الولايات المتحدة وأنها تحتاج إلى سياسات جديدة، إلا أن الواقع لا ينبئ بتغير حاسم في طبيعة الإدارة داخل المؤسسات الأمريكية.
- استمرار فشل الإدارات الأمريكية في معالجة أمنها القومي يدفع المجتمع الأمريكي إلى مزيد من الخوف والقلق.