أفغانستان

مخاطر متنامية… قراءة في المشهد الأفغاني وانعكاساته الإقليمية

دون مقاومة تذكر وفي أسرع عملية انهيار سقطت أفغانستان وعاصمتها كابول بيد عناصر حركة طالبان التي أحكمت السيطرة على مفاصل البلاد بعد أربعة أشهر فقط من إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 14 أبريل المنصرم، سحب القوات العسكرية من أفغانستان في موعد أقصاه الحادي عشر من سبتمبر، لتخالف بذلك توقعات الإدارة الأمريكية بسقوطها خلال ستة أشهر على أقل تقدير. ويكشف المشهد الراهن حجم الكارثة والمأزق الذي ستعيشه البلاد خلال الساعات والأيام القليلة المقبلة؛ إذ آثر الرئيس أشرف غني الهرب وترك قصره الجمهوري لتحتله عناصر الحركة، وهرع الدبلوماسيون الأجانب للفرار عبر مطار كابول الدولي، وبدأت قوات طالبان القيام بدوريات أمنية في كابول، وأطلقت عناصرها المسلحة من السجون.

مكونات المشهد الراهن

تحركت طالبان وفق خطة مدروسة هيأت لها تقدمًا سريعًا، فركزت بدايةَ على إسقاط المناطق الريفية ضعيفة المقاومة، ومراكز المقاطعات، وعواصم الأقاليم، والمعابر الحدودية العشرة كافة، والطرق الرئيسة، بما أدى إلى اختلال توازن القوة النسبي بين الحركة والحكومة، وكانت استراتيجية العزل والحصار سبيلًا لإرهاق السكان والقوات الحكومية ومن ثم الانقضاض. ولوحظ تركيز الحركة بشكل خاص على المنطقة الشمالية كونها مركز مقاومتها التقليدي، ولقطع الطريق أمام تكرار سيناريو التسعينيات، حينما حارب التحالف الشمالي المُشكل من فصائل مختلفة تتكون أساسًا من الطاجيك والأوزبك والهزار وكان بمثابة حكومة مدعومة من الهند وروسيا وإيران، طالبان ومنعها من اجتياح مقاطعات بدخشان وتخار وبنجشير. 

Mapping the advance of the Taliban in Afghanistan - BBC News

علاوة على أن المنطقة ترتبط بهدف استراتيجي للحركة، هو خنق العاصمة كابول وحرمانها من الإيرادات الهامة وطرق التجارة والموارد، إذ يرتبط الشمال بوسط وشرق أفغانستان عن طريق شبكة الطرق والأنفاق بناها الاتحاد السوفيتي وتُعد شريانًا تجاريًا رئيسًا للتجارة مع آسيا الوسطى. ويضاف إلى ذلك كثرة الخصومات والثأر والانقسامات بين رجال المنطقة الأقوياء التي مهدت الطريق لتقدم طالبان، حيث تنافس على النفوذ عبد الرشيد دوستم نائب الرئيس السابق والزعماء العسكريون الأوزبكيون في الحقبة الشيوعية، مع عطا محمد نور القائد الطاجيكي السابق لحزب الجمعية الإسلامية السياسي.

وفي ظل هذا المشهد المقرون بتحولات جيوسياسية منتظرة، وقف الجيش الأفغاني عاجزًا، وتقهقرت قواته تاركة خلفها معدات عسكرية وأمنية بملايين الدولارات استحوذت عليها طالبان، فرغم إنفاق واشنطن أكثر من 83 مليار دولار لتطويره وتدريبه وتسليحه أثبت الأحداث الأخيرة عدم قدرته على الاستمرار في غياب قواتها والناتو. ويرجع مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأمريكية ذلك إلى أن عناصر طالبان أكثر معرفة وخبرة بالمناطق الجغرافية والديموغرافية وعقدوا عشرات التوافقات مع الأهالي وعشائر وزعماء المناطق والوجهاء الذين رصدوا آلاف المقاتلين لصالح الحركة ليبلغوا إجمالًا 200 ألف مقاتل وليس 60 ألفًا فقط، إلى جانب  كثافة قواتهم النيرانية بعد السيطرة على كميات هائلة من ذخائر القوات الأمريكية المغادرة كالبنادق والكلاشينكات والأربيجيهات وقذائف الهاون إلى جانب مدرعات ودبابات ومضادات طائرات ومروحيات وصواريخ باليستية متوسطة المدى وأخرى ذكية موجهة بالليزر وطائرات الدرون المتطورة والرادارات.

بينما رأت هيئة التفتيش المختصة بإعادة إعمار غزة “SIGAR” أن المشكلة تكمن بتصرف قادة الجيش كأمراء حرب يبنون من خلال المؤسسة العسكرية شبكات منافع ومحسوبيات عبر دوائر عالية ومناطقية تفتقد لروح العقيدة العسكرية المتماسكة والمنطق المؤسسي. علاوة على أن قطع الحركة طرق الإمدادات حرم القوات من وصول المؤن والذخائر ما تركهم فريسة للجوع والإرهاق وشعورهم بأن القتال من أجل حكومة غني لا يستحق التضحية أو الموت.

وينذر الوضع الحالي بفراغ سياسي بعد تخلي الرئيس “غني” عن الحكم دون التوصل لآلية سياسية لانتقال السلطة، فضلًا عن أوضاع إنسانية صعبة مع تحرك آلاف المدنيين صوب الحدود ومطار كابول لمغادرة البلاد، ومعاناة 14 مليون شخص من الجوع بحسب برنامج الغذاء العالمي. إلى جانب مأزق اقتصادي يتعلق بمدى الاعتراف بحكومة تقودها طالبان وإقامة علاقات اقتصادية معها خاصة أن 70% من إيرادات الموازنة تأتي من المساعدات الدولية، علاوة على تراجع الإيرادات الجمركية بنسبة 40%، إلى 57.5 مليون دولار خلال الفترة بين 22 يونيو و22 يوليو الماضيين، نزولًا من 91.25 مليون دولار، بخسارة تفوق 33 مليون دولار خلال شهر، ويتضح ضخامة الرقم بالنظر إلى أن الجمارك تغطي 30% من إيرادات الدولة.

كما أن سقوط البلاد في يد طالبان يعني جعلها ملاذًا آمنًا للتنظيمات الإرهابية وعودتها كمفرز تقليدي للإرهاب الإسلاموي الموجه ناحية آسيا الوسطى لعرقلة مشاريع التمدد الروسي والصيني، وناحية الشرق الأوسط على غرار موجات إرهاب الثمانينيات والتسعينيات المرتبطة بظاهرة “العائدين من أفغانستان”. علاوة على جعل البلاد مسرحًا لعودة نشاط القاعدة؛ فبعد سبعة عشر شهرًا من توقيع اتفاق الدوحة، ظلت طالبان على ارتباط وثيق مع القاعدة ولم تُظهر أي مؤشر على أنها ستعاملها العالمية بشكل مختلف عما كانت عليه قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وقد أفاد تقرير أممي بأن أعدادًا كبيرة من مقاتلي القاعدة وعناصر إرهابية أخرى متحالفة مع طالبان موجودون في أجزاء مختلفة من أفغانستان واحتفلوا بخروج القوات الأمريكية وحلف الناتو من البلاد باعتباره انتصارًا.

وهكذا انتهينا إلى مشهد يقدم دليلًا دامغًا على فشل الولايات المتحدة في تحقيق الأهداف التي حددتها إدارة جورج دبليو بوش عام 2001 وهي محاربة الإرهاب وتثبيت الاستقرار، لتترك خلفها جيشًا تعصف به الاختلالات الهيكلية ونظامًا سياسيًا هشًا غير قادر على تلبية تطلعات مواطنيه ويفتقد الدعم الخارجي وتثور حوله شبهات عدم الشرعية بالنظر لممارسات الفساد التي اعترت انتخابات 2020، ومشاعر شعبية معادية للدور الأمريكي الذي دمر حياة عشرات الآلاف من المدنيين، وعنف إرهابي غير مقيد، وعدم استقرار سياسي، وفساد حكومي، وإنتاج مخدرات على نطاق واسع. ثم جاء الانسحاب ليؤكد لطالبان أن الرهان على مستقبلهم في ساحة المعركة وليس على طاولة المفاوضات أو صناديق الاقتراع، لنعود أخيرًا إلى مشهد ما قبل 7 أكتوبر 2001، وكأن شيئًا لم يكن.

الانعكاسات على دول الجوار الإقليمي

إن تفكك الأوضاع في أفغانستان واحتمالية أن تصبح مصدرًا لتصدير الإرهاب والتطرف والهجرة الجماعية وعدم الاستقرار أصبح تهديدًا يخشاه جيرانها المباشرون؛ طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان والصين وإيران، إلى جانب روسيا والهند، فانخرط بعضهم في ترتيبات عسكرية، واتجه آخرون إلى تعزيز مصالحهم الخاصة في آسيا الوسطى، بينما يرى البعض أن التحالف مع طالبان هو الخيار الأمثل.

• قلق وترقب في آسيا الوسطى: تقع المنطقة على خط المواجهة الأمامي، وتتعرض لجملة من التهديدات ليس أقلها الهجرة العرقية إلى أراضيها، واندفاع التطرف الإسلامي حيث تنشط العديد من الجماعات الإسلامية المتطرفة في هذه البلدان التي لها صلات بجماعات في أفغانستان، علاوة على إمكانية انتقال عناصر المجموعات العرقية المقاتلة في أفغانستان (الأوزبك والطاجيك) إلى بلدانهم، وزيادة تدفقات الأسلحة والمخدرات، إذ يتم تهريب المخدرات عبر طاجيكستان إلى أوزبكستان وقيرغيزستان، ويتجه البعض إلى كازاخستان ثم عبر خمسة طرق تهريب رئيسية إلى روسيا، ويؤدي ذلك إلى تشكيل شبكات مصالح مغلقة تضم جهات حكومية وأشخاص تتقلد مناصب النخبة.

وقد اتخذت دول المواجهة الثلاث في آسيا الوسطى مقاربات متباينة؛ فقبلت طاجيكستان، تلك الدولة الفقيرة الهشة والأضعف في حلقة المقاومة، العديد من اللاجئين و2300 جنديًا (أعادتهم في وقت لاحق) وحاولت التقليل من شأن موقفها السابق المناهض لطالبان، وبالتزامن مع تعبئة 20 ألف جندي احتياطي على الحدود قللت وسائل الإعلام من أهمية الاشتباكات الحدودية العنيفة. وبينما عمدت القيادة الطاجيكية إلى التنسيق مع أوزباكستان وروسيا وكازخستان، فضلت تركمانستان التحرك فرديًا واختارت طريق المفاوضات التي يُفترض سريتها مع طالبان بمجرد سقط المنطقة الحدودية الأولى في 7 يوليو الفائت، ونقلت كذلك جيشها الصغير والضعيف إلى الحدود لمنع أي تدفق للاجئين أو تقدم طالبان. فيما تبدو أوزبكستان أكثر ثقة في قدرتها على مواجهة أي تهديد، وقد عززت قواتها الأمنية على الحدود وتفكر في توسيع التعاون الأمني ​​مع روسيا.

ويجادل محللون بأن الفرصة سانحة الآن لإيجاد آلية تعاونية بين دول آسيا الوسطى تكون منفتحة وشاملة ويمكنها في نهاية المطاف بناء الثقة بين دول المنطقة والمناطق الواقعة خارجها، على غرار رابطة الآسيان التي نشأت عام 1967 لتقديم لتعزيز هيكل سياسي إقليمي مستقر في أعقاب سقوط عاصمة جنوب الجنوب الفيتنامية “سايجون” عام 1975. تلك الآلية التعاونية ليست مصممة لإنهاء الوجود العسكري الروسي أو الاقتصادي الصيني، وإنما للسماح للجمهوريات الآسيوية بأن تكون أقل اعتمادًا على القوى الخارجية وتحقيق الاستقرار في المنطقة وتأمين بقائها في النظام الدولي.

• روسيا تراقب آسيا الوسطى: اعتبرت موسكو أن الوجود العسكري الأمريكي بالقرب من مجال نفوذها في آسيا الوسطى مقلقًا، لكنها تدرك أهمية الدور الذي لعبه في تحقيق الاستقرار بأفغانستان وتقييد الجماعات المتطرفة وبالتالي حماية جبهتها الجنوبية. ومع توسع سيطرة طالبان تتنامى المخاوف بشأن المد الإسلاموي ونشاط الفصائل المتطرفة بشمال وشرق أفغانستان، كمقاتلي تنظيم داعش خراسان، الذين قد يسعوا للتسلل وإثارة الاضطرابات والتطرف بدول آسيا الوسطى مستغلين الثغرات الحدودية والعلاقات العرقية الوثيقة. فضلًا عن مخاوف من تدفق المخدرات عبر آسيا الوسطى إلى الأسواق الروسية، وما يفرضه تهديد تدفق اللاجئين من ضغوط على جيرانها.

ونظرًا لعدم رغبتها في الانخراط مرة أخرى بأفغانستان، تركز روسيا على تعزيز أمن شركائها في آسيا الوسطى على طول الحدود الشمالية لأفغانستان، خاصة طاجيكستان، حيث يوفر الصراع فرصة لإظهار وتعزيز دورها الضمني كمزود أمني أساسي للجمهوريات السوفيتية السابقة على طول محيطها الجنوبي. وفي هذا الصدد، اعتمدت موسكو صيغة المناورات العسكرية المشتركة تعبيرًا عن الدعم للحلفاء وتعزيزًا لجاهزية قواتهم؛ إذ نظمت مناورة مع أوزباكستان بمشاركة 1500 جندي و200 عربة عسكرية وأربع قاذفات بعيدة المدى من طراز Tu-22M3، وأخرى مع طاجيكستان شارك بها 50 ألف جندي و700 مُعدة عسكرية.

كما اتخذت خطوات متسارعة لتدريب الجيش الطاجيكي وتعزيز أكبر قواعدها العسكرية بآسيا الوسطى رقم 201 في طاجيكستان، كما وافق بوتين على مسودة اتفاقية لإنشاء نظام دفاع جوي مشترك مع دوشانبي، ليكون الخطوة الأولى نحو تنفيذ مفهوم دمج القوات المسلحة للبلدين، ما يسمح بتوسيع السيطرة الروسية على المجال الجوي الأفغاني. ومن المقرر استضافة قيرغيزستان تدريبات عسكرية مشتركة تحت رعاية منظمة معاهدة الأمن الجماعي يشارك بها 4000 جندي من روسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان.

وبالتوازي تعمل موسكو على مد روابط مع حركة طالبان، وتعزيز اتصالاتها وتعاونها الأمني مع باكستان مع الحرص على إدارة الحساسيات مع الهند. وتأمل روسيا دفع عملية سلام وإنشاء آلية إقليمية للإشراف على العملية السياسية تلعب فيها دورًا محوريًا وتشكل نوعًا من “مجموعة القوى الإقليمية” لتنسيق سياستها تجاه أفغانستان. وعلى عكس أواخر التسعينيات، لا يمكن لموسكو وشركائها الاعتماد على تحالف شمالي من الطاجيك والأوزبك الذي وفر منطقة عازلة على طول الحدود الأفغانية مع الدول السوفيتية السابقة، إذ تقتصر الأدوات السياسية على الاتصالات مع الجهات الفاعلة ذات الصلة في أفغانستان وحولها؛ كالحكومة وطالبان وفصائلها والقادة العرقيون وزعماء القبائل.

• براجماتية صينية: يرتبط البلدان بـ 76 كيلومترًا من الحدود المشتركة عبر ممر واخان الشهير الذي يربط مقاطعة باداخشان الأفغانية بمنطقة شينجيانغ المتمتعة بالحكم الذاتي وموطن أقلية الأويجور؛ وبينما تخشى بكين الصلات دعم طالبان للأويجور وحركة تركستان الشرقية الإسلامية الانفصالية المحظورة وتوفير ملاذات آمنة للمقاتلين الصينيين المحليين واستهداف مصالحها الاستراتيجية في أفغانستان ومواطنيها بباكستان، ترى في الانسحاب الأمريكي فرصة جيوسياسية لتعميق نفوذها بآسيا الوسطى.

وتنطلق في علاقاتها مع أفغانستان من مقاربة براجماتية ترى إمكانيات التعاون مع طالبان طالما أنها تفي بوعودها بقطع العلاقات مع المقاتلين متعددي الجنسيات، وقد رحبت علنًا بالحركة في بكين (سبتمبر 2019) لإجراء محادثات سلام؛ إذ تظل أفغانستان مكونًا رئيسيًا في خطط التنمية الإقليمية طويلة الأجل لبكين التي تجري مناقشات مع إسلام أباد وكابول لتوسيع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني إلى أفغانستان البالغ تكلفته 60 مليار دولار، كما تهدف للاستفادة من ثروات الأخيرة المعدنية المقدرة بما بين 1 و3 تريليون دولار، والاستفادة من احتياطيات النفط غير المكتشفة والغاز الطبيعي المقدرة بحوالي 15.7 تريليون قدم مكعب. 

ومن نفس المنطق البراجماتي، ترى طالبان الصين صديقًا يمكنه منحها الاعتراف الدولي والمساعدات الاقتصادية، فرحبت بمشاركتها في إعادة الإعمار وتعهدت بعدم السماح لمقاتلين الأويجور دخول البلاد. 

وعليه يُمكن حصر أولويات الصين في منع أي اتصال بين طالبان ومقاتلي الأويجور وتعزيز الاستقرار في أفغانستان على المدى الطويل للسماح بتوسيع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان، ومنع انتقال التوترات إلى آسيا الوسطى، بما يتماشى مع استراتيجية محاربة “الشرور الثلاثة” الإرهاب والانفصالية والتطرف. لذلك، عزمت على تعمق روابطها السياسية والاقتصادية والأمنية بآسيا الوسطى التي تعتبرها الحاجز الرئيسي لمنع انتشار عدم الاستقرار وقطع حركة المتشددين الإسلاميين المتطرفين عن أفغانستان، ومن ذلك، التنسيق الدبلوماسي مع كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وتركمانستان، وإقامة قاعدة عسكرية صينية سرية بطول 17 كيلومترًا داخل طاجيكستان تقع استراتيجيًا بجوار ممر واخان، وبناء نقاط حدودية ومركز تدريب على الحدود الأفغانية، والاستعداد لزيادة التدريبات العسكرية المشتركة، وتفعيل دور منظمة شنغهاي.

ومع استبعاد قيادة تدخل إقليمي لتحقيق الاستقرار بأفغانستان خوفًا من ملاقاه مصير روسيا وبريطانيا والولايات المتحدة، تتجه بكين لشراكات إقليمية تجسدها خطة النقاط الخمس مع باكستان، مع إمكانية التنسيق مع روسيا وإيران أيضًا لاحتواء سلوك طالبان ومحاولة التأثير فيه بحيث يتلاءم مع المصالح الأمنية والاقتصادية للدول الأربع. ويعتمد التنسيق الرباعي على متانة العلاقات الثنائية؛ إذ وقعت الصين وإيران مؤخرًا اتفاقية استثمار ضخمة بقيمة 400 مليار دولار، وطورت مع روسيا شراكة شاملة تتجاوز التعاون العسكري والاقتصادي البحت، وترتبط مع باكستان في مبادرة الحزام والطريق، ويتعاون الأربعة أيضًا في منظمة شنغهاي. علاوة على الانتقال من مرحلة التواصل غير المباشرة مع طالبان عبر مكتبها في الدوحة إلى الانخراط في محادثات مباشرة مع قيادات الحركة، بما يؤهلها مستقبلًا لدور أكبر في أي عملية سلام مستقبلية.

• باكستان بين المصالح والمخاطر: ستوفر عودة طالبان إلى رأس أفغانستان أدوات نفوذ مهمة لباكستان كونها ممر خطوط إمداد الأسلحة والكوادر الممولة من المخدرات إلى طالبان، وتحقق هدفًا جيوسياسيًا لإسلام آباد يتصل بمنع قيام نظام مؤيد للهند في كابول خشية الوقوع في “كماشة”. ولهذا، دفعت باكستان بالآلاف الإرهابيين من عسكر طيبة وجيش محمد وجماعات أخرى للقتال إلى جانب طالبان على طول الأقاليم الحدودية في كونار وننكرهار شرق أفغانستان وهلمند وقندهار جنوب شرق البلاد، كما شوهد مقاتلون إرهابيون من مجموعات أخرى مقرها باكستان مثل تحريك طالبان باكستان، وعسكر جنجفي، وجماعة الأرهار، وعسكر الإسلام، والبدر بأعداد كبيرة في أقاليم غزني وخوست ولوجار وبكتيا وباكتيكا جنوب وجنوب شرق أفغانستان. علاوة على تدريب مقاتلي طالبان في معسكرات عسكر طيبة بحيدر أباد الباكستانية.

ومع ذلك، يؤرق حكومة إسلام آباد قضيتين أساسيتين؛ الأولى، حركة طالبان الباكستانية الهادفة لإخضاع البلاد لحكم شرعي أقسى مما هو معمول به حاليًا، وتعتقد مصادر استخباراتية باكستانية أن لها صلات مع الهند والمخابرات الأفغانية. والثانية تتعلق بتأجيج التمرد في بلوشستان مع تفاقم الخوف والشعور بانعدام الأمن بين المجتمعات العرقية غير البشتونية ولا سيما في المناطق الحدودية إذ يخشى مواطني بلوشستان احتمالات تهديد مصالحهم الاقتصادية وإجبارهم على المغادرة، ففي المرة الأخيرة لاستيلاء طالبان على أفغانستان استهدفت مناطق حدودية في ولايتي بلوشستان وخيبر باختونخوا الباكستانية. 

وعليه تحركت إسلام آباد وفق مسارات متعددة شملت تنمية علاقاتها مع موسكو التي تعهدت بتعزيز قدرتها في مجال مكافحة الإرهاب من خلال تزويدها بالمعدات العسكرية، وتعزيز العلاقات الدفاعية خارج منطقتها وتوسيع التعاون في مكافحة الإرهاب بما في ذلك مع السعودية والإمارات وقطر، لكنها احجمت عن خوض حربًا بالوكالة ورفضت قطعًا استضافة أي قواعد أمريكية على أراضيها لعمليات مكافحة الإرهاب.

• مخاوف هندية: تخشى الهند تكرار سيناريو الثمانينيات عندما اندلع تمرد مسلح مناهض للهند في كشمير عقب انسحاب القوات الروسية من أفغانستان، خاصة بعد هدوء وتيرة النشاط المسلح بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان في فبراير 2020، والذي بموجبه قُسِمَت كشمير إلى قسمين، أحدهما تديره الهند والآخر تديره باكستان منذ عام 1947-1948. وتحتاج الهند لضمان عدم تحول أفغانستان إلى ملاذ للقوات المناهضة لها، وهو ما دفعها لإنفاق 3 مليارات دولار على مشاريع التنمية بما في ذلك بناء المستشفيات والجسور ومحطات الوقود ومبنى البرلمان، والحفاظ على علاقة جيدة مع حكومة كابول والقادة الإقليميين والمدنيين.

كما تشعر الهند بالقلق من مشروعات التعاون الإقليمي وبالأخص الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، كونه سيقطع الأراضي الهندية الخاضعة للاحتلال الباكستاني، ويبدو لها أن إشراك كابول في المشروع يشبه الحصول على تصديقها على أن الأراضي تنتمي بشكل شرعي لباكستان.

ختامًا، إن أفغانستان مقبلة على “صراع إرادات” دولية ومبادرات لعملية سياسية برعاية إقليمية لمنع تحويل أفغانستان لبؤرة توتر إقليمية، وفي هذا الإطار، يُمثل التدهور الأمني ​​المحتمل اختبارًا لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي الذي سيكوون ضروريًا إعادة تنشيطها عبر المزيد من التدريبات العسكرية المشتركة والتنسيق الأمني ​​وتبادل المعلومات الاستخباراتية. كما تبرز الحاجة للتنسيق بين دول المنطقة على المستوى الثنائي أو من خلال الآليات التعاونية الإقليمية كمنظمة شنغهاي للتعاون ومؤتمر التعاون الاقتصادي والإقليمي حول أفغانستان ومؤتمر قلب آسيا، لكنها ترتيبات تواجه تحديات تضعف فعاليتها في القضايا السياسية الجوهرية، فضلًا عن أن مبادرة السلام الروسية “توريكا بلس” (روسيا والصين والولايات المتحدة وباكستان) لا تشمل القوى الإقليمية الرئيسية مثل إيران والهند.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى