
انتقام الجغرافيا.. أفغانستان ما بين الانسحاب الأمريكي والعودة الدراماتيكية لطالبان
لم يكن في مخيّلة محللي الاستخبارات والعسكريين والمراقبين في أكتوبر من العام 2001؛ بأن القاذفات الاستراتيجية الأمريكية التي دكّت قندهار وكابول لإزاحة وتحييد طالبان من حكم أفغانستان؛ ستعود أدراجها صوب السواحل الأمريكي ونقاط الارتكاز العسكرية في منطقة الخليج، وخلفها أسراب من طائرات الشحن والنقل العسكري العملاقة وعلى متنها العسكريين والمدنيين ومقاولي الحرب الأمريكيين والمترجمين والمتعاونين الأفغان وعائلاتهم.
أولى محطات القصف الأمريكي على أفغانستان 2001
وعلى قدر ما هذّبت وقائع التاريخ بعد الحرب العالمية الثانية من تقديرات مسؤولي الدفاع والاستخبارات والخارجية ووضعتها في إطار من الواقعية على الرغم من حيازتها لمكامن وقدرات القوة العظمي، إلا أن مشهد مغادرة الرعايا الأمريكيين والعناصر القتالية وإخلاء السفارة الأمريكية في الوقت الذي حاصرت فيه قوات طالبان العاصمة كابول ومن ثم دخلتها وسيطرت على قصر الرئاسة فيها؛ كان دراماتيكيًا بما يكفي ليعيد للخيال زخمه أمام التصورات الواقعية، وعنيفًا بما يعيد النظر في تقديرات مجتمع الاستخبارات الأمريكية حول الإطار الزمني لسقوط كابول، وتباعًا تصدرت حزمة من التساؤلات عنوان المشهد في أفغانستان، عن طبيعة وأسباب ما يجري هناك، ومستقبل مرحلة ما بعد سيطرة طالبان؟
البداية.. تعهدات بتوقيع الحرس القديم
يمثل الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن تيار الحرس القديم داخل الحزب الديمقراطي، الذي يتبني مقاربات أقل “عسكرة” فيما يرتبط بمعالجة الانخراط العسكري للولايات المتحدة في القضايا الأمنية بالشرق الأوسط وأفغانستان. حيث أعلنت إدارة أوباما في يونيو من العام 2011 عن خطة لبدء انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول العام 2014، على الرغم من إضافة الرئيس الأسبق باراك أوباما نحو 30 ألف جندي لإجمالي هيكل القوة المشاركة.
وأعلنت كذلك عن خطة لبدء سحب القوات الأمريكية من العراق بحلول نهاية العام 2011. وبالفعل نفذت إدارة أوباما بعض التزاماتها طبقًا للجداول الزمنية المقررة لبرنامج الانسحاب وأدى ذلك إلى تقليص عدد القوات الأمريكية في أفغانستان إلى 9800 بعد انتهاء المهام القتالية للقوات.
إلا أن الانخراط العسكري الأمريكي مازال نشطًا في كامل الجغرافيا الأفغانية ولاسيما القطاعات الجنوبية التي تشكل حواضن حركة طالبان. ومع ارتفاع فاتورة الوجود العسكري الأمريكي هناك، تعهد جو بايدن إبان حملته الانتخابية بإنهاء الحروب الأبدية للولايات المتحدة، وأكد على ذلك في أول خطاب له أمام الكونغرس في إبريل الماضي.
وفي منتصف أبريل الفائت أعلن جو بايدن عن خطة لسحب كامل القوات الأمريكية من أفغانستان – عدا الاحتفاظ بقوة من 600 عنصر – تقوم بمهام تأمين البعثة الديبلوماسية والسفارة الأمريكية في كابول. واللافت أن الرئيس الأمريكي قرر إنهاء العمليات القتالية في أفغانستان في 31 أغسطس الجاري، على أن يكون 11 سبتمبر القادم موعدًا لسحب جميع القوات الأمريكية. وكان دونالد ترامب قد اتفق مع طالبان على سحب القوات الأمريكية بحلول مايو 2021، لكن بايدن أرجأ الموعد النهائي بعد ما تولى منصبه.
وعلى الرغم من إرجاء موعد الانسحاب الكامل، إلا أن وتيرة الانسحاب كانت متسارعة إلى حد لافت، وقد دافع بايدن عن هذه الوتيرة المتسارعة في خطاب ألقاه في البيت الأبيض، بالقول “إن مجرد عام إضافي من القتال في أفغانستان ليس حلًا، ولكنه سيؤدي إلى إطالة أمد القتال هناك إلى أجل غير مسمى”.
وبدت مقاربة الحرس القديم للديمقراطيين للخروج من “الحروب الأبدية” قاب قوسين أو أدنى من النفاذ مع إدارة الرئيس بايدن التي تضم عشرات من المسؤولين السابقين في حقبة الرئيس الأسبق باراك أوباما.
وتجدر الإشارة إلى وجود توافق ضمني بين الجمهوريين والديمقراطيين حول مبدأ تخفيف انخراط الولايات المتحدة عسكريًا في صراعات الشرق الأوسط تحديدًا، لكن الاختلاف الرئيس يكمن في العقيدة القتالية لدي الرئيسين، حيث أبدي الرئيس السابق دونالد ترامب تأكيده مواصلة الالتزام باستجابة عسكرية مفتوحة لمنع ظهور فراغ يستغله الإرهابيون، وأسند القرارات المتعلقة بالانسحاب إلى الظروف الميدانية على الأرض وليس على الجداول الزمنية التعسفية. ولهذا لم تبدِ القوات الأمريكية ترددًا في استخدام القوة المفرطة إبان حقبة ترامب للتعامل مع الأهداف الإرهابية. ففي إبريل من العام 2017 ألقت القوات الأمريكية أقوي قنبلة غير نووية على من يشتبه في أنهم من مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي في مجمع كهوف في إقليم ننجرهار الشرقي.
كيف كانت وتيرة الانسحاب الأمريكي سريعة؟
طائرات عملاقة للنقل والشحن العسكري تجيء ذهابًا وإيابًا من نقاط الارتكاز العسكرية الأمريكية في أوروبا والخليج العربي، تقوم بمهمة واحدة، ألا وهي؛ نقل ما تم تفكيكه من البني التحتية العسكرية الحساسة وأجهزة الاتصالات والآليات والمدرعات والذخائر، والامدادات والمعدات غير الضرورية التي لم يتم تدميرها في مكانها. علاوة على نقل عدد يتراوح ما بين 2500 لـ 3000 جندي أمريكي. وقد حصلت القيادة المركزية الأمريكية التي تشرف على أفغانستان على موافقة البنتاجون للإبقاء على حاملة طائرات في المنطقة، بحيث تكون الطائرات المقاتلة قريبة قدر الإمكان إذا كانت هناك حاجة إلى غارات جوية لحماية الانسحاب، من حوالي 12 إلى 14 نقطة ارتكاز عسكري أمريكية داخل أفغانستان، تتركز غالبيتهم في الشرق.
وكان لافتًا الوتيرة التصاعدية لكل من عمليات الانسحاب وانطلاقة حركة طالبان باتجاه السيطرة على المناطق الريفية، خلال شهري مايو ويونيو الماضيين. فكانت المناطق الجنوبية الحاضنة لطالبان أشبه بنقاط الانطلاق لمحاور الهجوم لعناصر الحركة. بيد أن الحركة اعتمدت تكتيكات السيطرة على المناطق الريفية المفتوحة وتجنب الاشتباك بداخل المدن.
حتي شهد أول أسبوعين من شهر أغسطس الحالي أسرع نموذج للسيطرة الميدانية تنفذه جماعة مسلحة، بشكل فاق وتيرة سيطرة تنظيم داعش الإرهابي على مناطق الشمال السوري في العام 2014. ففي أقل من أسبوع استولت طالبان على أكثر من ربع عواصم ولايات أفغانستان.
وتحركت لإحكام السيطرة على المنافذ الحدودية، وكما طوّق داعش المدن العراقية والسورية، أحكمت طالبان دائرة الخنق حول العاصمة منذ يومين. ويأتي ذلك في غياب تام لأي استجابة فنية – تكتيكية أمريكية؛ داعمة للقوات الأفغانية وخاصة الجوية التي وجدت نفسها أمام بنك أهداف يتسع ليتخطى مخزون الذخائر من القنابل والصواريخ الموجهة التي تمتلكها القوة الجوية الأفغانية، علاوة على عدم قدرة طواقم التشغيل والعناصر الفنية على استيعاب الوصول للكفاءة التشغيلية القصوى.
ما سخّر لطالبان أهم أسلحتها، وهي أنساق الهجوم البرية المعتمدة على تشكيلات من سيارات الدفع الرباعي والمدفعية الصاروخية. فلطالبان باع طويل في تطويع المسرح البري في مواجهة الجيوش النظامية، فكان طريق طالبان نحو كابول مليء بمشاهد انحساب القوات الحكومية والاستسلام والمعارك الخاطفة، والاستحواذ على أسلحة متقدمة نوعيًا تركتها قوات الحكومة.
الاستجابة الأمريكية.. تخبط صادم أم متعمد؟
دخلت يوم 15 أغسطس قوات حركة طالبان إلى العاصمة كابول، بعد تطويقها وحصارها من جميع الجهات. وترافق دخول طالبان مع حركة مكثفة للطيران النقل المروحي الأمريكي الذي عكف على نقل موظفي السفارة لمطار كابول في سباق مع الزمن، بينما كانت تتولى عناصر أخرى مهمة إتلاف الوثائق المهمة. وترافق أيضًا مع إعلان الولايات المتحدة إرسالها لـ 3000 جندي لكابول لتأمين السفارة وعمليات الإجلاء وتوفير الحماية لمطار كابول في هذه الأثناء.
وفتحت الإدارة الأمريكية قنوات اتصال مباشرة مع قادة حركة طالبان للتنسيق في عدة أمور أهمها عدم إعلان طالبان سيطرتها على العاصمة قبل الإجلاء الكامل لرعايا وموظفي الولايات المتحدة، على أن يتم ذلك في غضون 72 ساعة. لكن الحركة دخلت القصر الرئاسي، وأعلنت السيطرة الكاملة عليه، ورفعت علم “الإمارة الإسلامية”، وأعلنت رفضها المبدئي لتشكيل حكومة انتقالية، وطالبت بتسليم كامل للسلطة.
وفي غضون عمليات الإجلاء الأمريكية للرعايا، بات مطار كابول كنافذة نحو الخلاص من دائرة تضيق على كل ما هو أجنبي في العاصمة كابول؛ أصدرت السفارة الأمريكية بيانًا تعلن فيه أن الموقف في كابول يتغير بسرعة وألمحت لتعرض المطار لحريق، نسبته العديد من المصادر المحلية لعملية قصف بالهاون طالت مدرج الهبوط والإقلاع. لكن حركة الطيران لم تتوقف بعد.
وعليه تكدست رحلات الطيران من وإلى كابول – دبي، وتدخلت طائرات النقل والشحن العسكري الإماراتية (C17) وأظهر مقطع مسجل لتكدس العديد من الأشخاص أمام طائرة C17 للنقل في مطار كابول، تبين أنها إماراتية.
بيد أن الولايات المتحدة تعتبر القوة الأولى في العالم التي تحترف نقل وتعبئة الأفراد والمعدات في أي بقعة في العالم في ظرف 18 ساعة فقط؛ ظهرت بصورة تنم عن عشوائية فارقة في تنظيم عمليات الإجلاء والإخلاء للرعايا والموظفين؛ لكن إذا ما وضعنا تلك الحقيقة التي أثبتها الميدان الأفغاني في سياق التضارب الذي أصاب مؤسسات الولايات المتحدة المعنية بهذا الملف وتفاصيله، ستضح الرؤية أكثر، ومن هذه السياقات:
أولًا: فشل تقديرات الاستخبارات الأمريكية في توقع سقوط كابول
حيث قالت الاستخبارات الأمريكية قبل ستة أيام أن العاصمة كابول أمام 90 يومًا للصمود أمام قوات حركة طالبان.
ثانيًا: تقديرات البنتاغون بأن العاصمة كابول ليست في خطر داهم
وهو ما صرح به المتحدث باسم البنتاجون “جون كيربي” في 13 من أغسطس الجاري.
ثالثًا: جزم الرئيس الأمريكي قبل 36 يومًا بأن طالبان لا يمكنها هزيمة القوات الأفغانية البالغ عددها 300 ألف عنصر.
ويثير التضارب الأمريكي بين مؤسسات الخارجية والبيت الأبيض والدفاع، التساؤلات حول ملامح مستقبل مرحلة ما بعد طالبان، ولاسيما بعد أن أشار التضارب الأمريكي إلى احتمالية إقرار هندسة أمنية جديدة لوسط آسيا بتخليق بؤرة دافعة للاضطراب وحالات عدم الاستقرار الممتد تمامًا كحال المنطقة الممتدة من العراق حتى الساحل والصحراء.
ملامح ما بعد سيطرة طالبان
يمكن تحديد ملامح مستقبل مرحلة ما بعد طالبان كالاتي:
- تحول أفغانستان لملاذ آمن للتنظيمات الإرهابية: وهنا تجدر الإشارة لما صرح به وزير الدفاع الروسي سيرجي شويجو، في مارس الماضي، حول انتقال مجموعات كبيرة من الإرهابيين إلى أفغانستان ودول أخرى كونه يثير قلقًا كبيرًا لدى موسكو. وقال رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، إن جماعات إرهابية مثل القاعدة يمكن أن تعيد تشكيلها في أفغانستان في وقت أقرب مما قدّره مسؤولو الدفاع (عامان) في السابق للكونغرس، بسبب استيلاء طالبان الأخير السريع على السلطة في البلاد، وفقًا لأحد مساعدي مجلس الشيوخ.
واعترف ميلي، في إحاطة لأعضاء مجلس الشيوخ، صباح الأحد، بأن الوضع قد يؤدي إلى تهديد أكبر لمكافحة الإرهاب. فضلًا عن وجود خزان بشري من العناصر الإرهابية الإيغورية والشيشانية التي تمرست على أعمال حرب العصابات في جيب ادلب شمالي سوريا، واعتناق هؤلاء لأفكار الحاكمية الإسلامية ووجوب قتال كل من روسيا والصين تحديدًا. ولعل في نشاط الحزب الإسلامي التركستاني في إدلب، خلال الفترة الأخيرة، مؤشرًا على ما يمكن أن نتخيله حال إعادة تدوير هذه العناصر ضمن مناطق بعينها في أفغانستان ترتبط بكل من روسيا والصين وإيران تحديدًا. ولهذا يمكننا تفسير الحرص التركي الحثيث لفتح ممر من تركيا وصولًا لأذربيجان التي تعد بوابة من بوابات جنوب القوقاز، وذلك للقيام بأعمال “وكيل” الولايات المتحدة إن اقتضى الأمر، كما سهلت تركيا عبور الإرهابيين عبر أراضيها وتدريبهم في سنوات الحرب السورية الأولى بدعم أمريكي خالص.
- التعاون مع الصين في المعادن: لدى أفغانستان ثروة غير مستغلة من المعادن تصل لترليون دولار.
وتسعى حركة طالبان إلى تأمين الحصول على السيولة المالية لتثبيت حكمها علاوة على الحصول على موقف صيني داعم لها؛ كون بكين أقرب طريق لطالبان للحصول على الأموال، مقابل الاستثمارات والمعادن والتفاهمات الأمنية. إذ ترى طالبان الصين مصدرًا للشرعية الدولية ووسيلة للتأثير على باكستان.
- إرباك الأوضاع في باكستان: حيث يُعتقد على نطاق واسع أن المخابرات الباكستانية الداخلية، أو ISI- المكافئ لوكالة المخابرات المركزية في البلاد- قد ساعدت في تعزيز حركة طالبان قبل استيلاء الحركة الدينية عام 1996 على أفغانستان. لطالما نظر الجيش الباكستاني، على وجه الخصوص إلى أفغانستان المتشابهة مع باكستان عرقيًا ودينيًا على أنها حصن ضروري ضد منافستها التقليدية الهند. وساعدت حركة طالبان في أفغانستان في إلهام حركة طالبان الباكستانية والتي من المعروف إن قادة المجموعتين على خلاف ولا يشتركون في أهداف مشتركة. ومع ذلك، “إذا كانت هناك حكومة طالبان في أفغانستان، فمن المرجح أن ذلك سيشجع “حركة طالبان الباكستانية” على الخروج مجددًا. وكذا، من المرجح أن توظف الهند حليف الولايات المتحدة صعود طالبان لتأليب الداخل الباكستاني، بمباركة أمريكية جراء تقارب باكستان مع الصين مؤخرًا.
ختامًا، توضح التطورات الأخيرة في أفغانستان الأهمية الكبيرة للجغرافيا التي ساهمت ليس فقط في تشكيل العالم الذي نعرفه، وإنما في إطلاق العنان للخيال لاستقراء خريطة جديدة للعالم ومناطقه الحرجة “آسيا الوسطي”.
فقديمًا عُرفت الجبال كقوة قديمة تحمي غالبًا سكانها وثقافتهم من الأيديولوجيات الحديثة والشرسة التي كانت غالبًا ما تغزو الوديان والسهول، ويبدو أن ميدان أفغانستان كان قوة تغلبت على الآلة الحربية الميكانيكية للسوفييت والأمريكيين، كما يمثل نقطة تماس بين مصفوفة القوى “الولايات المتحدة روسيا الصين إيران”، ما يرجح أن تكون كابول وجهة فصل جديد من تدوير الأدوات القديمة ذاتها لتثبيت مناطق النفوذ، على أن تقول الجغرافيا هذه المرة كلمتها، وتضع في طياتها سيناريوهات انتقام القوى التقليدية التي تتضافر جهودها منذ الحرب الباردة لمكابدة تداعيات انتصار غربي بدا وكأنه نهاية التاريخ.



