مقالات رأي

ماذا يحدث في أفغانستان؟

في السياسة الدولية وعلى مسارح الصراعات التي شهدها عالمنا خلال الثلاثة عقود التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة، ترسخت قناعات أن تعاطي الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع حلفائها في العالم دائمًا ما كان يشوبه دائمًا الشك في مدى التزام واشنطن بدعم الحليف على طول الخط في مجابهة أية تحديات داخلية وعدائيات خارجية، وزاد عليه يقين أن فاتورة التحالف مع أمريكا مكلفة للغاية، فقد تم رهن شكل ومستقبل أي تحالف بالتجاذبات الداخلية في أمريكا بين الكونجرس بغرفتيه والخارجية والبيت الأبيض وجماعات الضغط هناك التي تعبر عن مصالح قوى المال والإعلام ولوبي الصناعات العسكرية والتكنولوجية.

الانسحاب العسكري الأمريكي والدولي الجاري حاليًا من أفغانستان والذي بدأ من مايو الماضي ومتوقع أن ينتهي نهاية هذا الشهر، رافقه تقدم ميداني واسع لميليشيا حركة طالبان في معظم المناطق الأفغانية الريفية والحضرية، وأصبحت تسيطر حاليا على أكثر من 65 % من مساحة أفغانستان، وأحكمت قبضتها على 17 ولاية أفغانية من أصل 34 ولاية، وسط ذهول دولي من انهيار القوات الحكومية الأفغانية التي تعجز حتى الآن عن إيقاب زحف طالبان تجاه العاصمة كابول والمتوقع سقوطها خلال كتابة هذه السطور أو ربما قبل ذلك.

الانزعاج العالمي من التقدم الميداني لطالبان والذي انعكس في تقارير الإعلام الدولي، جاء من ردود الفعل الرسمية الأمريكية والغربية المخيبة للآمال، التي اكتفت فقط بإدانة طالبان وتحذيرها من قطع أي مساعدات مستقبلية عن أفغانستان وعدم الاعتراف بها من المجتمع الدولي!، زاد عليها أن بعثت واشنطن رسالة لطالبان عبر الوسط القطري تطلب فيها عدم استهداف البعثة الدبلوماسية في العاصمة كابول، ولم تتجاوب إدارة بايدن مع دعوات الحكومة الأفغانية ودعوات حتى أعضاء من الكونجرس الأمريكي من تقديم دعم عسكري أمريكي عاجل عبر الضربات الجوية لوقف تقدم طالبان تجاه العاصمة لمنع سقوطها الوشيك.

واشنطن بشكل فعلي تتخلى عن أفغانستان وتسلمها لطالبان، وهو أمر شبيه بسياساتها في العراق التي غزتها في 2003 وفككت جيشها ثم بعد ذلك سمحت لطهران بتوسيع نفوذها في بغداد لدرجة أصبحت هي اللاعب الإقليمي والدولي الأول هناك عبر مجموعات سياسية ومليشيات مسلحة متحالفة معها وتدافع عن مصالحها.

يقول “البنتاجون” أن القوات العسكرية والأمنية الحكومية لديها تفوق في عدد القوات ونوعية التسليح بالمقارنة مع حركة طالبان، وأن بمقدورهم وقف زحف الحركة تجاه العاصمة كابول. التصريح في حد ذاته إدانة لواشنطن التي صرفت على مدى عقدين أكثر من 830 مليار دولار لإعادة بناء الدولة الأفغانية خاصة القدرات العسكرية، والانهيار الجاري للقوات الحكومية أمام طالبان واكتفاء أمريكا وحلفائها الغربيين بالإدانة والإسراع بإجلاء البعثات الدبلوماسية لا يعنى سوى فشل الاستراتيجية الأمريكية في تحقيق الاستقرار في أفغانستان، وستكون له تأثيرات أعمق على المدى المتوسط والبعيد على صورة أمريكا في نظر حلفائها في العالم، بأنها حليف غير موثوق به بالمقارنة مع قوى منافسة لأمريكا كروسيا والصين مثلا.

في مقابلة له في يونيو الماضي على قناة “إن بي سي” الأمريكية قبيل لقائه الأول في جنيف مع الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، ذكر الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أن أهم قيمة في العلاقات الدولية هي الاستقرار والقدرة على التنبؤ، مؤكدًا أن الأمريكيين في تعاطيهم مع الأزمات والملفات الدولية لم يملكوا دائمًا القدرة على التنبؤ وتحقيق الاستقرار، مستشهدًا بأمثلة ما حدث في ليبيا من إسقاط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي بالقوة العسكرية، يقول بوتين: “تحدثوا دائمًا عن بقاء القوات في أفغانستان ثم فجأة انسحبت القوات من أفغانستان، ما هو هذا الاستقرار  والقدرة على التنبؤ.. هل الأحداث في الشرق الأوسط متوقعة ومستقرة، إلى أين سيؤدي كل هذا…في سوريا مثلا، سألت زملائي الأمريكيين أنتم تريدون أن يرحل الأسد، ومن سيحل محله، ماذا سيحدث بعد ذلك؟ الجواب كان غريبا، لا نعلم.. حسنا، إذا كنت لا تعرف ماذا سيحدث بعد ذلك فلماذا تغير ما هو موجود الآن.. دعونا نجتمع ونتحدث، فلا يمكن تحقيق الاستقرار والقدرة على التنبؤ بالأحداث بفرض وجهة نظر واحدة”.

تشريح “بوتين” لكيف تدير واشنطن علاقاتها الدولية وشكل تفاعلها مع الأزمات، رغم أهميته إلا أنه لم يأتِ بجديد، بل هو قريب مما ذكره من قبل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “هنري كيسنجر”، حين أكد أن أمريكا ليس مطلوبًا منها حل الأزمات الدولية بقدر رغبتها دائما في إدارة تلك الأزمات والتحكم بمسارها لخدمة المصالح الأمريكية، وهو ما يعني أن مهندسي السياسة الخارجية الأمريكية يعلمون ماذا يفعلون بالضبط، وانسحابهم من أفغانستان وترك الأفغانيين لسيطرة طالبان والتنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش ليس عشوائي ولا يتم دون بحث ودراسة متأنية. واعتقادي أنهم يرغبون في استمرار أفغانستان كأزمة يوظفونها في تحركاتهم على المسرح الدولي لكن هذه المرة بخسائر أقل، بعد أن كلفهم التدخل العسكري المباشر هناك خلال عشرين عاما، سقوط أكثر من 2400 قتيل وصرف مليارات الدولارات.

Twitter Account: @mar3e

+ posts

مدير المرصد المصري

محمد مرعي

مدير المرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى