أفغانستان

التقهقر السريع … الجيش الأفغاني بين تخلي الخارج وتخاذل الداخل

ربما لم يكن مفاجئًا -من حيث المبدأ- تراجع الجيش الوطني الأفغاني أمام قوات حركة طالبان، والذي وصل ذروته من خلال وصول قوات الحركة مساء الأحد الثامن من أغسطس الجاري إلى العاصمة كابول، ولكن تمثلت المفاجأة الحقيقية في سرعة هذا التراجع، الذي فاق كافة التوقعات بما في ذلك التوقعات الاستخباراتية الأمريكية التي كانت تقديراتها تشير إلى أن قوات الجيش الأفغاني ستتمكن من الصمود ميدانيًا لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، دون ان تتراجع او تفقد أراضي، لكن ما حدث كان بمثابة كارثة ميدانية متعددة الأوجه، حيث قاتلت وحدات الجيش الأفغاني منذ الأول من مايو الماضي، بشكل عشوائي ودون تنسيق مع بعضها البعض، والأهم أن قتالها هذا كان يتم دون غطاء جوي، وفي أغلب الأحيان دون تدفق مستدام للإمدادات.

هذا التراجع السريع أدى على المستوى الميداني إلى سيطرة حركة طالبان بشكل كامل على كافة المحافظات الجنوبية والشمالية والغربية والوسطى، بما في ذلك العاصمة والمدن الإقليمية الرئيسية، والمعسكرات الرئيسية للجيش الأفغاني، وكذلك على القواعد الجوية الرئيسية التابعة لسلاح الجو الأفغاني في هيران وقندوز ومزار الشريف وقندهار، ولم يتبق فعليًا خارج سيطرة الحركة سوى بعض المحافظات الشرقية، وتحديدًا محافظة “نورستان” المحاذية للحدود مع باكستان، بجانب محافظتي “بانجشير” و”بروان”، علمًا بأن هذه المحافظات توجد فيها قوات حركة طالبان، لكنها مازالت خارج سيطرة الحركة نظرًا لوجود وحدات من الجيش الأفغاني داخلها، إلا أن التطورات التي حدثت اليوم في العاصمة ربما تمهد إما لاستسلام هذه الوحدات، أو محاولتها اللجوء إلى باكستان.

فيما يتعلق بأسباب هذا التراجع السريع من جانب وحدات جيش تم تدريبه على مدار 20 عام، وأنفقت الولايات المتحدة على تسليحه وبرامج تدريبه 83 مليار دولار على أقل تقدير، فيمكن القول إن الذهنية التي تم الاعتماد عليها في إعادة بناء المؤسسة العسكرية الأفغانية بعد إزاحة حركة طالبان عن السلطة كانت من أهم أسباب النتيجة الميدانية الحالية؛ فقد تم تشكيل الجيش الأفغاني على المستوى التسليحي والقتالي بما يتوافق مع العقيدة العسكرية الأمريكية، التي تعتمد بشكل رئيس على الدعم الجوي في عملياتها البرية، واستخدام هذا الدعم بصورة متعددة الأوجه، ما بين الدعم الجوي القريب للوحدات المدرعة والراجلة، وبين إمداد الوحدات المقاتلة في المناطق النائية “وهي كثيرة في أفغانستان”، وبين عمليات الاستطلاع والنقل وغيرها من المهام المساندة.

على هذا الأساس كانت الوحدات الأفغانية تعمل خلال السنوات الماضية، حيث كانت تعتمد على سلاح الجو الذي كان يعمل بإشراف إداري وفني من الجيش الأمريكي. الاعتماد بشكل كامل على طائرات أمريكية الصنع كان في حقيقة الأمر بمثابة نقطة ضعف، ظهرت آثارها تاريخيًا مع عدة جيوش منها الجيش الإيراني خلال الحرب مع العراق، وأيضًا ظهرت بعد الانسحاب المفاجئ للجيش الأمريكي من فيتنام في سبعينيات القرن الماضي.

كان سحب كافة الوحدات العسكرية الأمريكية من أفغانستان يتضمن بطبيعة الحال سحب الدعم الجوي والاستخباراتي، والمستشارين والفنيين الذين كانوا يقدمون الدعم التشغيلي والفني لسلاح الجو الأفغاني، وهذا جعل هذا الأخير فعليًا مشلولًا بشكل كامل، نظرًا للمشاكل الفنية التي اعترضت محاولات الضباط الأفغان إدامة تحليق الطائرات والمروحيات، وتقديم الصيانة اللازمة لها من أجل دعم الوحدات العسكرية الأفغانية، خاصة تلك الموجودة في المحافظات النائية.

وجدير بالذكر هنا أن الحكومة الأفغانية كانت -اعتمادًا على الدعم الجوي الأمريكي- حريصة على نشر قواعد عسكرية في أكثر من 400 مقاطعة نائية، وذلك ضمن استراتيجيتها لمواجهة حركة طالبان، لكن كانت نقطة الضعف الأساسية في هذه القواعد أنه لا يمكن إعادة تزويدها بالمؤن إلا من خلال مروحيات النقل العسكري، لذا اضطرت هذه الوحدات في النهاية إلى الاستسلام نتيجة لنفاد مؤنها وذخيرتها، وعدم توفر الدعم الجوي القتالي اللازم لها.

لم يكن الانسحاب الأمريكي السريع من البلاد مؤثرًا على مستوى سلاح الجو فقط، بل أيضًا تسبب في زيادة تأثير الحرب النفسية التي شنتها حركة طالبان على الوحدات العسكرية المدافعة عن المحافظات الأفغانية، والتي كانت نظريًا تتألف من نحو 300 ألف جندي، يضاف إليهم 50 ألف من أفراد الشرطة، لكن على المستوى الفعلي لم يقاتل إلا نحو 150 ألف جندي على أحسن تقدير، وأغلبهم غادر مواقع تمركزه أو أستسلم وترك أسلحته بعد أن توصل إلى تسويات مع قادة حركة طالبان الميدانيين.

وهذا يعزى بشكل رئيس إلى أن هذه الوحدات كانت عمليًا وحدات للحراسة وليس للقتال أو الاشتباك، فقد تم خلال السنوات الماضية تقييد الغالبية العظمى من وحدات المشاة الأفغانية، داخل شبكة من القواعد والمواقع الثابتة، التي كانت معزولة وغير محصنة بالدرجة الكافية، وبالتالي كان من السهل محاصرتها خاصة في ظل غياب الدعم الجوي.

التكتيك الميداني لقيادة الجيش الأفغاني خلال الأعوام الماضية كان يتخذ من الوحدات الخاصة “الكوماندوز” أداة رئيسة وحيدة للتعامل مع حركة طالبان، حيث يبلغ قوام القوات الخاصة الأفغانية نحو 20 ألف جندي، وكانت مسؤولة عن إدارة نحو 80 بالمائة من الاشتباكات الفعلية مع حركة طالبان منذ مايو الماضي، وهو ما عرّضها إلى الاستنزاف المستمر، خاصة أنه كان يتم نقلها من محافظة إلى أخرى بشكل مستمر دون تعزيزها أو إراحتها، ما أدى إلى تلاشي قدرتها على القتال رغم أنها كانت القوات الأفغانية الوحيدة التي حققت نجاحات أمام عناصر طالبان.

على المستوى القيادي أيضًا، كان لسوء الإدارة الميدانية والخططية لقيادة الجيش الأفغاني دور في هذه النتيجة، حيث ظل جنود الجيش يقاتلون لمدة أشهر دون راحة، ودون الحصول على رواتبهم، أو حتى تلقي ما يلزمهم من ذخيرة وإمدادات غذائية، حيث اقتصرت الإمدادات الغذائية المتوفرة لوحدات الجيش والشرطة الأفغانية خلال الشهرين الأخيرين على “البطاطس” فقط، بكميات قليلة للغاية، وبشكل غير منتظم. ناهيك عن عدم توفر الرعاية الطبية اللازمة للجرحى منهم، وإذا ما توفرت تكون بشكل غير متناسب مع الظرف الميداني الحالي.

نظرة الجندي الأفغاني للقيادة في كابول كانت أيضًا من المعضلات التي أدت إلى هذا التراجع السريع، حيث ينظر أغلب عناصر الجيش إلى الرئيس الأفغاني أشرف غني ورفيقيه في الثلاثي الحاكم للبلاد وهما مستشار الأمن القومي حمد الله محب ورئيس المكتب الرئاسي فضل محمود فضلي على أنهم غرباء عن المشهد الأفغاني، لأنهم قضوا سنوات طويلة خارج البلاد، ويتهمونهم بممارسة شكل من أشكال التمييز العرقي في تنظيم التعيينات الحكومية، ناهيك عن أن شرعيتهم السياسية مشكوك فيها بشكل أو بآخر؛ نظرًا لعدم إقامة أي انتخابات في البلاد منذ سنوات.

وهو ما خلق بشكل عام انفصالًا بين الحكومة الأفغانية والشعب. أيضًا كان حرص “غني” على تركيز القرار السياسي والاقتصادي الأفغاني في العاصمة، وتوطيد سيطرته بشكل كامل على الحكم، سببًا في قيامه بشكل متكرر بعزل وتغيير القيادات العسكرية والأمنية الرفيعة، وحكام المناطق والولايات، ما أضعف بشكل كبير شعبية الحكم في المحافظات النائية، خاصة وأن الفساد المالي بات من ملامح هذه الحقبة في أفغانستان.

على المستوى العسكري، كان أمام الرئيس غني وقت طويل نسبيًا للاستعداد من أجل مواجهة طالبان، وتحديدًا منذ توقيع إدارة ترامب لاتفاقية فبراير 2020 مع طالبان، والتي نصت على مغادرة جميع القوات الأمريكية البلاد بحلول مايو 2021، لكنه لم يتخذ أية إجراءات استثنائية لمواجهة تداعيات ذلك، بل كان أداؤه العام وكأنه يراهن على عدم تنفيذ الولايات المتحدة هذه الاتفاقية.

حتى في إدارته للمعارك، كانت رهانات الرئيس “غني” دومًا خاطئة، بما في ذلك رهانه الأخير منذ أيام حين قام في الوقت بدل الضائع بإقالة قائد الجيش الجنرال والي محمد أحمدزاي، الذي تم تعيينه في منصبه في يونيو الماضي، وعين بدلًا منه الجنرال سامي السادات، قائد القوات الخاصة الأفغانية، الذي قاد عمليات ناجحة ضد حركة طالبان في إقليم هلمند، وهي خطوة كانت متأخرة للغاية ولم تؤثر في سير العمليات الميدانية، ولو تمت في وقت مبكر لكان لها تأثير ميداني كبير، نظرًا لما يحظى به الجنرال سادات من تقدير في صفوف الجيش بشكل عام.

عدم ثقة الحكم في كابول في قدرات الجيش الأفغاني، دفعت الرئيس “غني” إلى محاولة إحياء “التحالف الشمالي”، حيث عقد اتفاقًا في مدينة “مزار شريف” مع أمير الحرب الشهير الجنرال كمال دوستم، والقائد الإقليمي عطا محمد نور، من أجل تأسيس جبهة قوية في محافظة “بلخ” شمالي البلاد، لكن كانت تقديراته لقوتهما غير دقيقة، وفي النهاية فر كلاهما إلى أوزبكستان.

وأخيرًا، اتبعت حركة طالبان في تحركاتها الميدانية تكتيكًا بدأ بمحاصرة المواقع العسكرية الأفغانية في المحافظات النائية، واستغلال عدم وصول إمدادات لهذه المواقع، وترغيب الجنود الموجودين داخلها بالسماح لهم بالانسحاب شرط ترك كافة أسلحتهم. وهذا منح الحركة، منذ بداية مايو الماضي، كميات كبيرة من الأسلحة، ومساحات واسعة من الأراضي والطرق. منذ أواخر يونيو الماضي، تحول هذا التكتيك ليركز على المعابر الحدودية وعواصم المقاطعات، وهو ما أعطى إيحاءً للمقاطعات الداخلية بأن السيطرة الميدانية قد دانت للحركة، وهذا تسبب في سقوط عدد كبير من المقاطعات الجنوبية والوسطى دون قتال تقريبًا.

كذلك لعبت الحركة على الوتر النفسي، حيث سوقت بشكل كبير للغنائم التي حصلت عليها، حيث نشرت صور تظهر سيطرتها على مئات العربات المدرعة المختلفة وقطع المدفعية، وقد كانت هذه الوسائط سببًا آخر من أسباب الوتيرة السريعة لتقدم حركة طالبان ميدانيًا.

اللافت في هذا الصدد هو سيطرة الحركة داخل القواعد الجوية التي دخلتها، على عدد من الطائرات والمروحيات المقاتلة الصالحة للتشغيل، من بينها تسع مروحيات للنقل من نوع “مي-17” روسية الصنع، ومروحية مقاتلة واحدة من نوع “مي-35” كانت ضمن عدد من المروحيات التي تبرعت الهند بها لصالح سلاح الجو الأفغاني، بجانب أربع مروحيات نقل أمريكية الصنع من نوع “بلاك هوك”، ومروحيتين للاستطلاع المسلح من نوع “أم دي-530″، وطائرات الهجوم الأرضي “سوبر توكانو”، والأهم هي طائرات الاستطلاع دون طيار “سكان إيجل”، وهي طائرات أمريكية الصنع، سيطرت الحركة على ستة طائرات جديدة كليًا منها.

هذه القدرات التسليحية الهائلة التي سيطرت عليها حركة طالبان، والتي تتضمن أيضًا مخازن ضخمة للذخائر والأسلحة الخفيفة والمتوسطة، ستجعل من الصعب على أية قوة أفغانية محلية في الوضع الحالي إدامة المواجهة مع الحركة، خاصة في المناطق السالف ذكره شرقي البلاد.

خلاصة القول، إن الولايات المتحدة كانت على وعي كامل بعدم قدرة القوات الأفغانية على الصمود ميدانيًا، وهذا عبر عنه بوضوح في أبريل الماضي، قائد القيادة المركزية الأمريكية أمام الكونجرس، حيث أشار إلى اعتقاده ان سلاح الجو الأفغاني سيكون عاجزًا عن القيام بمهامه، وهذا ما سينعكس على الوضع الميداني أمام طالبان (وهذا بالضبط ما حدث فعليًا)، لذا يمكن أن نضع استراتيجية الولايات المتحدة في أفغانستان كسبب رئيس ضمن الأسباب الأخرى السالف ذكرها للتراجع الحاد للجيش الأفغاني أمام حركة طالبان، والذي ذكّرنا بتراجعات مماثلة لجيوش نتيجة فقدان الغطاء الجوي ومنظومات القيادة والسيطرة، وغياب الإرادة السياسية والتخطيط العسكري الجيد، والأهم، الاعتماد على قوى خارجية في إدارة وتدريب الجيوش الوطنية، وتحديد عقيدتها القتالية والتسليحية، وكانت النتيجة هي عودة عقارب الساعة في كابول إلى عقدين ماضيين، وبدء دورة جديد لحياة تنظيمات عقائدية لا يُعرف حتى الآن ماذا ستفعل في الداخل، وما هي آفاق علاقاتها مع الخارج.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى