دول المشرق العربي

رسائل متعددة.. لماذا اختار حزب الله التصعيد مع إسرائيل؟

بينما تستمر أزمة لبنان في التعقد على الصعُد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقترب حثيثًا من حافة الانهيار التي يخشاها اللبنانيون والأطراف الدوليون على السواء؛ تجددت موجات التصعيد العسكري بين حزب الله وإسرائيل في الجنوب اللبناني خلال الأسبوع الماضي، متخذة عدة سمات جديدة مايزتها عن الموجات السابقة من التصعيد، ولكنها تبقيها في الوقت ذاته في الإطار المسموح به من قبل الطرفين (حزب الله – إسرائيل) دون التطور إلى مواجهة أوسع. وهو ما يحقق لكليهما أهدافًا سياسية وعسكرية، ورسائل أراد الطرفان إيصالها إلى بعضهما البعض وإلى القوى الإقليمية والدولية المعنية. ويحاول التقرير الوقوف على الرسائل التي أراد حزب الله إرسالها من هذه الموجة التصعيدية الأخيرة.

سمات متمايزة

حمل التصعيد الأخير بين الجانبين عدة سمات جعلته مختلفًا عما سبقه من مواجهات. أول هذه السمات هو أن هذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها إسرائيل على تنفيذ غارات جوية على لبنان منذ فبراير 2014، عندما أغارت طائرات إسرائيلية على مواقع لحزب الله عند الحدود اللبنانية – السورية في أعقاب تبادل لإطلاق النار، ورد عليه حزب الله بعملية عسكرية في مزارع شبعا، وهي المرة التي كانت بدورها الأولى منذ حرب يوليو 2006.

ويتمثل التباين في الرد الإسرائيلي في أن إسرائيل عادة ما كانت ترد على الصواريخ التي تُطلق من الحدود اللبنانية باتجاهها عبر القصف المدفعي دون الإقدام على شن غارات جوية، مثل ما حدث ردًا على صواريخ أطلقت من الحدود اللبنانية صوب إسرائيل في مايو الماضي إبان الحرب على غزة، وهو ما حدث في التصعيد الأخير؛ إذ ردت إسرائيل على صواريخ أُطلقت من الحدود اللبنانية عبر قصف مدفعي، ثم طورت الرد (5 أغسطس) بالغارات الجوية.

وعلى الجانب الآخر، جاء التباين لدى حزب الله في إعلانه مسؤوليته (6 أغسطس) عن عشرات الصواريخ من عيار 122 ملم التي أصابت حسب وصفه “أراضي مفتوحة في محيط المواقع الإسرائيلية في مزارع شبعا، ردًا على الغارات الجوية الإسرائيلية على أراض ‏مفتوحة في منطقتي الجرمق والشواكير يوم 5 أغسطس”. إذ اعتاد حزب الله في الضربات والهجمات السابقة عدم إعلان مسؤوليته عنها، مع ترك المجال مفتوحًا أمام التفسيرات بشأن وقوفه وراء هذه الهجمات أو وقوف فصائل فلسطينية ناشطة في جنوب لبنان كما حدث أيضًا هذه المرة في ثلاثة صواريخ أُطلقت من جنوب لبنان باتجاه إسرائيل وقيل إن فصائل فلسطينية هي التي أطلقتها. وتكرر الأمر عشرات المرات خلال الأشهر الأخيرة، وكان ذروته خلال الحرب على غزة بشن نحو 10 هجمات صاروخية خلال شهر مايو الماضي.

رسائل متعددة

تشير الصواريخ التي انطلقت الأسبوع الماضي من جنوب لبنان صوب إسرائيل سواء تلك التي أعلن حزب الله مسؤوليته عنها أو تلك التي قيل إن فصائل فلسطينية أطلقتها إلى أن حزب الله يقف وراءها جميعًا، سواء كان هو الذي أطلقها، أو هو الذي سهل عملية إطلاقها، خاصة وأنه المسيطر بشكل كامل على جنوب لبنان، ولا يمكن لأي فصيل العمل هناك دون موافقة ضمنية منه. ومن ثم فإن مجموعة من الرسائل أراد الحزب توجيهها.

  • تثبيت معادلة الردع

أحد الأهداف الرئيسة من وراء الصواريخ التي أطلقها حزب الله صوب أراضٍ مفتوحة في إسرائيل هو تثبيت معادلة الاشتباك القائمة بينهما؛ إذ إن مرور إقدام إسرائيل على شن غارات جوية على لبنان دون رد من جانب حزب الله يمثل إخلالًا بهذه المعادلة التي أُرسيت منذ حرب يوليو 2006 والتي يكون بمقتضاها التصعيد من قبل الجانبين محدودًا، وهو ما يُفهم من جملة “أراضٍ مفتوحة” في كلا البيانين اللذين أصدرهما حزب الله والجيش الإسرائيلي يصفان فيهما العمليات التي قاما بها.

وقد أراد حزب الله من الرد الصاروخي الذي قدّره بعشرات الصواريخ على إسرائيل إثبات قوته وقدراته الصاروخية الكبيرة والتي وإن سقطت هذه المرة بإرادة من الحزب في أراضٍ مفتوحة فإنها يمكن أن تسقط داخل العمق الإسرائيلي مثل الصواريخ التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية في الحرب الأخيرة على غزة وخلّفت خسائر مادية كبيرة لدى إسرائيل. ومن ثم فهي رسالة من حزب الله لإسرائيل بأن أي تصعيد مستقبلي من جانب تل أبيب لن يمر دون رد ضمن الإطار التقليدي لمعادلة الاشتباك. وهو ما أكده الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله (8 أغسطس) “لدينا الشجاعة لتحمل المسؤولية وهذا الرد بجهارة وبوضوح قصفتم أرضاً مفتوحة ونحن قصفنا أرضاً مفتوحة، نحن قصدنا بالعملية تثبيت قواعد الاشتباك القديمة ولم نقصد صنع قواعد اشتباك جديدة، وأي غارة إسرائيلية جديدة على لبنان سنرد عليها حتماً بشكل مناسب ومتناسب”.

  • بقاء لبنان ضمن معادلة الاشتباك الإيراني الإسرائيلي

يعطي التزامن في التوقيت بين التصعيد من جانب حزب الله صوب إسرائيل والتصعيد المتبادل الإيراني من جانب والإسرائيلي الغربي من جانب آخر دلالة واضحة بأن هناك إطارًا عامًا لهذا التصعيد وهو الاشتباك الإيراني – الإسرائيلي الذي يتخذ عددًا من المسارح كان آخرها بحر العرب. ويمثل الحضور العسكري لحزب الله في لبنان ورقة مهمة من أوراق إيران في هذه المواجهة مع إسرائيل، ولذلك عمدت إيران وحزب الله إلى توجيه رسالة مباشرة إلى تل أبيب بأن استهدافها ردًا على الهجمات الإسرائيلية سواء في إيران أو للمواقع الإيرانية في سوريا أو أي من المسارح الأخرى أمر في المتناول.

ويمكن وصف هذا التصعيد بأنه رد إيراني مباشر على تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس (2 أغسطس) بأن إسرائيل على استعداد لشن هجوم عسكري على إيران. فأرادت إيران إيصال رسالة واضحة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي بأن حزب الله المرابض على حدود إسرائيل الشمالية قادر في أي وقت على استهداف إسرائيل، وأن مثل هذه التهديدات لا يمكن أن تمر. وبالإضافة إلى هذه الرسالة الإيرانية إلى إسرائيل، فإن هناك رسالة إيرانية أخرى من وراء هذا التصعيد إلى المجتمع الدولي مفادها أن نشاطها في المنطقة ونشاط وكلائها أو الميلشيات التابعة لها وكذا برنامجها الصاروخي أمور غير قابلة للتفاوض خلال المفاوضات الجارية بشأن برنامجها النووي مع مجموعة 5+1، إذ تسعى الدول الغربية إلى إدماج هذه الملفات على طاولة المباحثات في فيينا لصياغة اتفاق شامل مع إيران، وهو ما ترفضه طهران بشكل قاطع.

  • استمرار حضور حزب الله في سوريا

حمّل بعض المراقبين تسمية حزب الله للوحدات التي نفذت الهجوم الصاروخي على إسرائيل والتي جاءت في البيان بأنها “مجموعات الشهيد علي كامل محسن ‏والشهيد محمد قاسم طحان في المقاومة الإسلامية” رسالة بأن هذه الهجمات كانت ردًا من حزب الله على مقتل القياديين علي كامل محسن الذي قُتل في غارة إسرائيلية على محيط مطار العاصمة السورية دمشق (23 يوليو 2020) ومحمد قاسم طحان الذي قتل في المواجهات التي دارت عند الحدود الإسرائيلية اللبنانية (15 مايو) إبان حرب غزة.

وعلى الرغم من نفي حسن نصر الله ذلك في خطابه (6 أغسطس) قائلًا: “ما حصل بالأمس هو رد على الغارات الجوية فقط ولا علاقة له بالرد على اغتيال الشهيدين العزيزين محمد قاسم طحان وعلى كامل محسن”، إلا أن هذه الهجمات تحمل رسالة إلى إسرائيل تتعلق بضرباتها الجوية المتوالية على المواقع الإيرانية ومواقع حزب الله داخل سوريا، وهي أن وجود الحزب وطهران باقٍ في سوريا رغم هذه الضربات، ومن السهل الرد على الاستهداف الإسرائيلي له.

وبالتزامن مع ذلك، تشير تقديرات بأن ضربات إسرائيل في سوريا لم تعد تلقى ترحيبًا روسيا، وذلك بالإشارة إلى ما قاله نائب رئيس مركز المصالحة في سوريا التابع للجيش الروسي (20 يوليو) إن “الطائرات الإسرائيلية أطلقت 8 صواريخ موجهة إلى مواقع جنوب شرقي مدينة حلب، وأن 7 منها دمرت بأنظمة “بانتسير إس” و”بوك إم 2″ روسية الصنع، تابعة لقوات الدفاع الجوي السورية”. وما قاله (22 يوليو) إن “مقاتلتين إسرائيليتين من طراز “إف 16” أطلقت من المجال الجوي اللبناني بين الساعة 1:11 و1:19 في 22 يوليو 4 صواريخ موجهة إلى مواقع في محافظة حمص، وجميع الصواريخ الـ 4 تم تدميرها من قبل أنظمة “بوك إم 2 إي” الروسية الصنع، والتابعة لقوات الدفاع الجوي السورية”.

  • اختبار الحكومة الإسرائيلية 

يرسل تصعيد حزب الله رسالة اختبار إيرانية إلى الحكومة الإسرائيلية بقيادة نفتالي بينيت بالتزامن مع تولي رئيس جديد لإيران هو إبراهيم رئيسي المعروف بتوجهاته المتشددة، وهي رد –كما سلف- على تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي بالاستعداد للرد على إيران. وتعلم طهران أن الحكومة الإسرائيلية بقيادة بينيت شُكّلت بناء على ائتلاف هش، ومن ثم هي ليست حكومة قوية قادرة على الرد على طهران بشكل واسع أو بدء مواجهة شاملة معها؛ نظرًا للتكلفة المادية والبشرية الكبيرة التي قد تتسبب فيها هذه المواجهة. ولعل الحرب الأخيرة على غزة مثال واضح على ذلك، فضلًا عن أن دخول تل أبيب في مواجهة واسعة مع حزب الله سيكبدها خسائر كبيرة ستكون أضعاف خسائرها في حرب 2006 والتي قدرتها وزارة الدفاع الإسرائيلية من الجانب العسكري فقط بـ11.2 مليار شيكل إسرائيلي (نحو 2.5 مليار دولار في ذلك الوقت).

وفي الإطار ذاته، تضفي هجمات حزب الله قدرًا إضافيًا من التأكيد على الانكشاف الإسرائيلي على الصعيد الاستخباري الذي تبدى في أكثر من صعيد؛ إذ نقلت مصادر إعلامية إسرائيلية تقديرات للمؤسسات الأمنية الإسرائيلية تعتقد أن حزب الله لا يقف بصورة مباشرة أو غير مباشرة وراء الصواريخ التي انطلقت في البداية من جنوب لبنان صوب إسرائيل وقيل إن فصائل فلسطينية أطلقتها، وهو ما ثبت بعد ذلك عدم صحته بإعلان حزب الله مسؤوليته عن الصواريخ. وعلاوة على ذلك كان هناك سوء تقدير إسرائيلي حول احتمالات رد حزب الله؛ فقد كان التقييم الاستخباري للجيش الإسرائيلي بأن حزب الله لن يرد على الغارات الجوية التي شنّها على لبنان، استنادًا إلى صعوبات الوضع اللبناني الداخلي، وصعوبة إقدام حزب الله على الرد، ولكنها فوجئت بعد ذلك بالرد الصاروخي لحزب الله.

إجمالًا، جاء التصعيد العسكري لحزب الله في إطاره المعهود بناء على معادلة الاشتباك التقليدية مع إسرائيل لعدم امتلاك أي من الطرفين الاستعداد لشن عملية عسكرية كبيرة، بهدف إيصال مجموعة من الرسائل ذات الأبعاد الإقليمية والدولية التي تؤكد في مجملها بقاء لبنان جزءًا من معادلة الاشتباك الإسرائيلي-الإيراني، وأحد الأوراق المهمة التي تستخدمها إيران مع إسرائيل ضمن إطار الحسابات الداخلية لحزب الله. ذلك فضلًا عن رسائل داخلية أقل أهمية ودلالة تتعلق بتأكيد حضور حزب الله في المشهد، وتأكيد أن سلاحه يبقى هو سلاح الردع في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، ولا سبيل إلى الحديث عن نزعه، علاوة على استباق ما تشير إليه التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت من ضلوع حزب الله في تخزين نترات الأمونيوم التي تسببت في انفجار المرفأ.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى