
مركب الشمس.. رحلة صوب البيت الجديد
في عملية هندسية وأثرية معقدة، وبعد أشهر من التخطيط والتجهيز الدقيق، نجحت السلطات المصرية في نقل مركب الشمس الأولى من مقرها القديم المعروف بمتحف مركب خوفو، والذي يقع على بعد أقدام من الهرم الأكبر، إلى موقعها الجديد داخل المتحف المصري الكبير، الذي لا يبتعد عن هضبة الأهرام سوى مئات معدودة من الأمتار.
تنفيذ عملية النقل بين متحف مركب خوفو والمتحف المصري الجديد استغرق قرابة 48 ساعة، وشاركت فيه العديد من أجهزة الدولة المعنية والتي كان في مقدمتها وزارة السياحة والآثار ممثلة في المجلس الأعلى للأثار، ووزارة الدفاع ممثلة في الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، ووزارة الداخلية ممثلة في مديرية أمن الجيزة، بالإضافة إلى الهيئة العامة للمتحف المصري الكبير.
ولقد تمكنت تلك الأجهزة مجتمعة من تنفيذ عملية نقل مركب الشمس الأولى بشكل احترافي غير مسبوق، حيث لم تسجل الفرق الأثرية المشرفة على عملية نقل المركب أي علامات على تضرر هذه القطعة الأثرية الضخمة، وكذا لم تتأثر حركة المرور والسير بمداخل محافظة الجيزة الغربية خاصة على طريقي الفيوم والإسكندرية الصحراويين بأي حالة من الشلل، وهو ما كان سببًا في عدم شعور المواطنين المترددين على هاذين الطريقين بأي قدر من التعطل.
تاريخ مركب الشمس
يعود تاريخ مركب الشمس التي عُثر عليها أسفل الضلع الجنوبي من الهرم الأكبر. إلى عهد الملك خوفو ثاني ملوك الأسرة الرابعة من عصر الدولة القديمة. وعلى الرغم من عدم وجود تاريخ محدد أو سنة معلومة لتدشين تلك المركب، إلا أن علماء المصريات يُرجعون تاريخ صنعها إلى القرن 26 قبل الميلاد، ويُرجِح المتخصصون أن استخدام تلك المركب الأثرية لم يكن بهدف الإبحار بل كان تدشينها لأهداف دينية وشعائرية؛ فكثيرًا ما تناولت النصوص القديمة المسجلة على جدران المقابر والمعابد قصة إبحار المعبود آمون منذ شروق الشمس حتى الغروب ثم رحلته الليلية للعالم السفلي، لذلك حرص عدد من الملوك ومنهم الملك خوفو على امتلاك سفنهم الخاصة بتلك الرحلة؛ وذلك لكي تمكنهم من الإبحار مع المعبود آمون بعد الموت في رحلاته الأبدية.
ولقد وُضعت مركب الشمس الأولى في موقع خاص بها إلى جانب الهرم الأكبر تمامًا، حيث قام البناؤون القدماء بنقب حفرة على الجانب الجنوبي للهرم الأكبر وذلك بطول 31 متر وعمق 4 متر، ليتم بعد ذلك وضع أجزاء المركب المفككة والتي بلغت 1224 قطعة في تلك الحفرة، ولحماية أجزاء المركب من أي عوامل خارجية قام المهندسون القدماء بتغطية تلك الحفرة بـ 41 كتلة حجرية كبيرة تزن الواحدة منها في المتوسط 17 طنًا، وقاموا بإحكام اغلاق تلك الحفرة من خلال وضع نوع خاص من الملاط وذلك لسد الفراغات بين تلك الكتل الحجرية.
الإغلاق المحكم لحفرة مركب الشمس، بالإضافة إلى تنامي التجمعات الرملية حول منطقة الهرم الأكبر، والتي تراكمت على مدار مئات السنين، ساعد على حفظ أجزاء المركب من أخطار العوامل الطبيعية المختلفة، وهذا ما يفسر سبب عثور المستكشفين المصريين بقيادة الأثري كمال الملاخ في 1954م على أجزاء المركب المفككة في حالة شبه سليمة، لذلك وصف بعض المتخصصين هيكل المركب في وقت الاكتشاف بأنه جاهز لإعادة التجميع والابحار في مياه نهر النيل.
تجميع المركب وعرضه
بعد أن تم الاعلان عن الكشف الأثري الضخم والفريد في عصره، بدأ الأثريون المصريون في محاولات جادة لتجميع المركب كما صنعه مهندسوه، لذلك قام عدد من الأثريين وعلى رأسهم الحاج أحمد يوسف كبير أثريي المشروع بدراسة طرق الحياكة التي صورها المصريون القدماء على جدران المقابر والمعابد، وذلك لكي يستلهموا منها طرائق ربط حبال التثبيت المستخدمة في مركب خوفو. وقام هؤلاء الأثريون بزيارة عدد من مواقع صناعة القوارب التقليدية، وذلك لمشاهدة ومعرفة المراحل المختلفة لبناء القارب.
عملية إعادة بناء مركب خوفو استغرقت قرابة 14 عامًا من الزمان، وذلك لصعوبة وضع كل قطعة من القطع المكونة لبدن المركب في مكانها الصحيح، حيث اعتمدت تكنولوجيا بناء تلك المركب على طريقة ربط الألواح الخشبية من خلال الوصلات البينية Tenon joints وأيضا عن طريق حبال الربط، لكن ذلك العمل الشاق والطويل زمنيًا كانت نهايته تحقيق نجاح تاريخي غير متوقع، حيث ظهر للعالم في عام 1968م أكبر مركب أثرى مصنوع من الخشب، فأبعاد المركب تبلغ ما يزيد عن 43 متر طول وأكثر من 5 متر عرض.
لاحقًا ارتأت الدولة أهمية حفظ هذه التحفة الأثرية الفريدة في مكان خاص بها، لذلك قامت في عام 1985م ببناء متحف مركب خوفو الذي يقع مبناه فوق الحفرة التي عثر فيها على المركب عام 1954م، ولقد تكون ذلك المبنى من مستويين مختلفين أولهما كان المستوى الأرضي وهو الذي يضم بوابة الدخول ومعرض التذكارات والمكاتب الإدارية بالإضافة إلى حفرة المركب الأثري، أما المستوى الثاني والذي يتميز بنوافذه الزجاجية العريضة، فلقد استُخدم في عرض مركب خوفو التي جرى تجميعها من قبل، حيث تميز ذلك المستوى بوجود مناسيب مختلفة من السلالم، وهو ما أتاح فرصة لرؤية المركب من كافة الجوانب وبشكل بانورامي.
لكن متحف مركب خوفو لم يكن هو المكان الأمثل لمثل هذه القطعة الأثرية الفريدة، فمساحته الصغيرة لم تكن تسمح بوجود عدد كبير الزوار بداخله، وهو ما أدى في السابق إلى تكدس أفواج السائحين بخارجه انتظارًا للدخول، أو حرمان أفواج أخرى من زيارته تجنبًا للزحام، فضلًا عن أن قِدَم تصميم مبني المتحف كان عائقًا أمام عمليات تطوير العرض المتحفي، لذلك ظلت المعروضات الموضوعة بداخله ساكنة على حالها لقرابة 35 عامًا، فلم تكن هناك أي فرصة سانحة لاستبدالها بأخرى أو حتى مجرد تحريكها من موقعها. وكذا، كان مبنى المتحف في حد ذاته سببًا في تشويش الصورة الجمالية لبلاتوه الأهرام، وذلك لعدم تجانس تصميمه المعماري مع شكل الهرم الأكبر الذي لا يبعد عنه فعليًا سوى بضع أمتار. من هذا المنطلق جرى التفكير في نقل مركب الملك خوفو إلى مكان عرض آخر أكثر حداثة وتطورًا بداخل المتحف المصري الكبير، وذلك لتحقيق أقصى قدر من الاستفادة الأثرية والسياحية من ذلك الأثر الفريد.
عملية نقل معقدة
منذ أغسطس الماضي 2020م تم إغلاق متحف مركب خوفو أمام حركة الزوار، وذلك استعدادًا لبدء عملية نقل المركب الخشبي الضخم والذي يزن أكثر من 20 طنًا. البداية كانت بعمل دراسات فنية وافية عن حالة الأثر الراهنة، بالإضافة إلى قياس حالة التربة والطرق الواقعة على مسار نقل مركب خوفو من مقره القديم بجوار الهرم إلى مقره الجديد بالمتحف المصري الكبير، ولقد تم الاستعانة في تلك العملية بنخبة من علماء الهندسة بجامعة القاهرة بالإضافة إلى لفيف من المختصين الأثريين من المجلس الأعلى للآثار وهيئة المتحف المصري الكبير، وذلك لإعداد تلك الدراسات التي تناولت كافة التفاصيل المتعلقة بعملية النقل المنتظرة.
فقامت تلك الكوادر بوضع تصورها عن كيفية إجراء أعمال التوثيق الليزري والصيانة والتغليف لجسم المركب وباقي القطع الأثرية الملحقة، بالإضافة إلى كيفية حفظها بيئيًا أثناء عملية النقل من خلال وضعها داخل الكبسولات المغلقة، التي يتم التحكم بدرجة الغازات الجوية فيها، فضلًا عن القيام بالدراسات المتعلقة بطبيعة المعدات والتجهيزات الهندسية المطلوبة لإجراء عملية النقل، كنوع العربات الذكية المستخدمة في عملية النقل وحجم السقالات والشدات والهياكل المعدنية المطلوبة لدعم مسير الموكب، بالإضافة إلى عمليات المسح الراداري لمسار عملية النقل.
وبعد انتهاء تلك الاستعدادات بدأت أخيرًا في يوم 5 أغسطس عملية نقل المركب، وذلك من خلال الخروج بجسم الأثر كوحدة واحدة من داخل مقره القديم، ليشق طريقه نحو المتحف المصري الكبير، في رحلة لم تزد مسافتها الكلية عن 9 كيلو مترات، لكن إجراءات السلامة المقررة حددت سرعة منخفضة جدا لمسيرة عربات النقل، والتي لم تتجاوز متوسطها 200 متر في الساعة الواحدة، ليصل جسم المركب بنجاح إلى مقره الأخير داخل المتحف الكبير في صبيحة يوم 7 أغسطس. لتمثل تلك العملية النوعية سابقة عالمية من حيث التخطيط والتنفيذ؛ فلأول مرة في التاريخ يتم نقل أثر عضوي بهذا الحجم في شكل قطعة واحدة، كما كان لافتًا أن تتم العملية بنسبة نجاح تفوق 100%.في الختام، يمكننا وصف تجربة نقل مركب الشمس الأولى بأنها عملية نوعية لا تقل في مستوى احترافية تنفيذها عن المستويات العالمية، وهو ما يؤشر على ارتقاء القدرات والخبرات المصرية في مجالي الحفظ الأثري والعمل الهندسي، لذلك من الضروري أن تقوم الدولة باستغلال ذلك النجاح الكبير في الترويج لمصر على المستويات السياحية والأثرية، وأن تستغل ذلك الحدث في الترويج لقدراتها على المستويين الإقليمي والدولي في تنفيذ المهمات الهندسية النوعية والمعقدة.
باحث ببرنامج السياسات العامة



