
فرص محدودة… تأثيرات غاز البحر الأسود على مكانة تركيا في سوق الطاقة العالمي
نظمت تركيا في 28 يوليو الماضي حفلًا لإضاءة شعلة الغاز الطبيعي المكتشف ضمن حقل “صقاريا” الواقع على بُعد حوالي 100 ميل بحري من الساحل الغربي لتركيا على البحر الأسود، الذي يبلغ احتياطاته المكتشفة حتى الآن 540 مليار متر مكعب، موزعة على 405 مليار متر مكعب في بئر “تونا-1” أُعلن عنها في أغسطس 2020، و134 مليار متر مكعب في بئر “أماسرا-1” اُعلن عنهم في 2 يوليو الماضي، وهو ما أثار تساؤلات بشأن قيمة هذه الخطوة وتأثيراتها في مكانة تركيا الإقليمية وموضعها ضمن سوق الغاز العالمي الذي يشهد تغيرات ديناميكية متسارعة مع دخول منطقة شرق المتوسط ضمن الخريطة الإنتاجية الطاقة عالميًا.
تقييم الفرص
حظي الاكتشاف التركي الذي نفذته السفينة “فاتح” بترويج دعائي رسمي ربما يفوق أهميته بمراحل، لكنه يكشف مركزية قضية الغاز في السياستين الخارجية والداخلية لأنقرة ومسعاها لحجز مقعدًا ضمن سوق الغاز الطبيعي العالمي خلال العقود المقبلة، ومع اتخاذ الخطوات الأولية لبدء الإنتاج لابد من إجراء تقييم موضوعي لحجم هذا الاكتشاف ودرجة مصداقية الدعاية السياسية بشأنه.
وعد أردوغان بتوصيل الغاز الطبيعي للمستهلكين بحلول عام 2023، وهو هدف سياسي مرتبط بالانتخابات الرئاسية المُقرر إجراؤها ذاك العام بالتزامن مع الذكرى المائة لإقامة الدولة التركية، لكنه من الناحية العملية يبدو غير منطقي اتصالًا بمجموعة من العوامل الفنية التي ترتب تحديات تُصعّب من بلوغ هذا الهدف إلى حد جعله مستحيلًا وفقًا لبعض التقديرات.
فالطبيعة الجيولوجية للبحر الأسود معقدة كون حوضه يرتسم على شكل حرف “U” مما يعني أن الساحل الضحل يتحول سريعًا إلى مياه عميقة للغاية، وكذا، فإن مركز الحوض عميق وبارد وعالي الأكسجين، ويقع الحقل في أحد النقاط العميقة عند 4525 مترًا تقريبًا تحت القاع الواقع على عمق كيلومترين، وهذه بيئة شديدة القسوة عادةً ما تحجم شركات النفط والغاز العالمية عن المشاركة في أعماق مثل هذه. علاوة على وقوعه على مسافة 100 كيلومتر جنوب حقل “نيبتون ديب” التابع لدولة رومانيا، وهو أكبر اكتشاف سابق للغاز في البحر الأسود تطوره شركتي بتروم أو إم وإكسون موبيل منذ ثماني سنوات، ما يعني أن تركيا قد تواجه نفس الصعوبات المصاحبة لتطوير “نيبتون ديب”.
أمام تلك المعضلات الفنية، لا تمتلك مؤسسة البترول التركية الحكومة “تباو” (TPAO) صاحبة الحقوق الملكية الحصرية للحقل الواقع داخل الكتلة AR / TPO / KD / C26-C27-D26-D27 البالغ مساحتها 7000 كيلومتر مربع، الخبرات التكنولوجية والفنية والإمكانيات اللوجيستية اللازمة لاستخراج الغاز من المياه العميقة والأعماق ذات الطبيعة الجيولوجية المعقدة. وعليه، فإن حديث المسؤولين الأتراك عن تكفل الشركة بكامل مراحل تهيئة الحقل والإنتاج ينافي إمكانياتها الحقيقية، وقد تحتاج إلى شراكات مع شركات طاقة أجنبية عملاقة لتنفيذ المشروع بالكامل، ومن ذلك إمكانية طرح مناقصة دولية لبناء خط أنابيب لجلب الغاز إلى الشاطئ.
أمر آخر يجب أخذه بعين الاعتبار يتعلق بالحجم المُمكن استخراجه، واقتصاديات الإنتاج؛ إذ تشير التقديرات إلى ضرورة توفير استثمارات تتراوح بين 3 إلى 6 مليارات دولار، قد لا تكون متاحة حاليًا بالنظر إلى اتجاهات الاقتصاد الكلي السلبية والظروف الصعبة المرتبطة بوباء كورونا، وتفيد البيانات المتاحة بأن الحكومة خصصت 1.9 مليار دولار لصالح شركة “تباو” في ميزانية العام الحالي، ولم يتضح بعد حجم المخصصات المقررة لهذا المشروع من هذه الأموال. ويضاف إلى ذلك، ضرورة مراعاة ارتفاع تكاليف الإنتاج في وقت تنخفض فيه أسعار الغاز عالميًا مدفوعة بتربع الولايات المتحدة على عرش سوق منتجي الغاز المسال عالميًا.
وترتيبًا على الصعوبات الموضحة آنفًا، فإن مقارنة هدف 2023 بالحالة المصرية المتعلقة ببدء التدفق الأول لغاز حقل ظُهر (الاكتشاف الأكبر في شرق المتوسط باحتياطات تقدر بـ 860 مليار متر مكعب) بعد 28 شهرًا فقط، أو حالة حقل تمار الإسرائيلي الذي بدأت عمليات الإنتاج به بعد ثلاث سنوات ونصف فقط من الاكتشاف، مقارنة غير عادلة؛ فبدون التمويل الأساسي والتكنولوجيا والدراية الفنية والخبرات، سيكون النجاح في ظروف البحر الأسود الصعبة للغاية والمرتفعة التكلفة والظروف السطحية وتحت سطح الماء أكثر صعوبة من البحر المتوسط. وعليه، يتوقع محللون أن تستغرق عملية إعداد الحقل من تركيب للمنصات العائمة ومنشآت الإنتاج ومد خطوط الأنابيب وصولًا إلى مرحلة بدء الإنتاج فترة تتراوح بين ست إلى ثمان أعوام، تصل بحسب رأي البعض إلى نحو عقد من الزمان، وهي المدة الزمنية المتعارف عليها عالميًا في هذا المجال.
أما فرص أنقرة فتتركز بشكل أساسي في تحسين فرصها التفاوضية مع وردي الغاز الرئيسيين على أسعار أكثر تنافسية؛ إذ يتمثل التحدي الجيوسياسي الذي تواجهه في اعتمادها المفرط على خطوط أنابيب الغاز بشروط تعاقدية غير مواتية من روسيا وإيران. وترتبط أنقرة حاليًا بأربعة عقود طويلة الأجل لخطوط الأنابيب؛ اثنين منهم مع روسيا (باتي هاتي حتى 2021 وبلو ستريم حتى عام 2025)، وواحد مع أذربيجان حتى 2021، والأخير مع إيران حتى عام 2026، أي انتهاء صلاحية ما قيمته 18 مليار متر مكعب العام الحالي، و38 مليار متر مكعب بحلول 2026، وبعدها ستتاح لتركيا فرصة تفاوضية مهمة، ترغب من خلالها أن تقنع موسكو على الأقل بإبرام عقود التوريد وفقًا للأسعار العالمية القائمة مثلما هو الحال في الدول الأوروبية.
وبالتالي، هذا لا يعني أن الاكتشاف الغازي الجديد سيحول تركيا إلى دولة مُصدرة؛ فمع مطالب استهلاكية سنوية تتراوح بين 40 و50 مليار متر مكعب، يُلبي “صقاريا” حاجة البلاد لمدة تصل من 7 إلى 8 سنوات فقط، أو يقلل الواردات بنسبة تتراوح بين 20 و25%. وقد شهد النصف الأول من العام الحالي ارتفاع واردات الغاز إذ اشترت أنقرة 14.64 مليار متر مكعب من الغاز الروسي، متجاوزة بذلك الرقم القياسي السابق للواردات لمدة ستة أشهر عام 2017 (14.436 مليار متر مكعب)، وحصلت على 4.7 مليار متر مكعب من أذربيجان، إلى جانب المصادر الأخرى. وعلى صعيد آخر، فإن استهلاك أوروبا (السوق الذي تطمح إليه تركيا) من الغاز الطبيعي سنويًا يبلغ 350 مليار متر مكعب، أي أن احتياطات الحقل التركي لن تكفيها سوى عامًا واحدًا فقط.
دوافع التوجه التركي للبحر الأسود
تتداخل مجموعة من العوامل المفسرة للتحركات التركية في ملف الغاز ودوافعها على صعيد الجبهات البحرية الثلاثة في البحر الأسود وشرق المتوسط وبحر إيجة، يعزز فهمها القراءة المتعمقة لتقرير “سياسات الطاقة التركية” الصادرة عن وكالة الطاقة الدولية في مارس 2021، والتي يُمكن استعراضها على النحو التالي:
• فشل سياستها في شرق المتوسط: جاء الإعلان عن اكتشافات غاز البحر الأسود لأول مرة في وقت أشعلت التوترات مياه شرق المتوسط الدافئة، ووصلت إلى ذروتها مع إرسال فرنسا سفنًا بحرية لدعم اليونان، وتصاعد لهجة التهديدات الأوروبية بفرض عقوبات على أنقرة إذا أصرت على انتهاك السيادة اليونانية والقبرصية واستمرار عمليات المسح الزلزالي غير المشروعة في المناطق المتنازع عليها، ثم استبعادها من عضوية منظمة “غاز شرق المتوسط”.
ومع فشل سفينتي المسح الزلزالي “أوريش ريس” و”يافووز” في العثور على أي احتياطات للغاز، وتحجيم المساحات الجغرافية لأنشطتهم الاستكشافية بتوقيع اتفاقيات ترسيم حدود مشتركة بين مصر وقبرص واليونان، وتوقيع اتفاقيات الربط الطاقوي بين إسرائيل وقبرص واليونان (خط ميد إيست)، شعرت الحكومة التركية بالعزلة الإقليمية ورأت في اكتشاف البحر الأسود -البعيد عن جميع أنواع المشاكل الجيوسياسية كونها رسمت حدودها البحرية مع دور الجوار؛ روسيا وجورجيا وبلغاريا ورومانيا في الفترة بين 1970 و1999-ملاذًا آمنًا لحفظ ماء الوجه، وتأكيد إصرارها على مواصلة المسوحات الاستكشافية، على اعتبار مركزية قضية الطاقة كمحرك للسياسة الخارجية.
ورغم دلالة اكتشاف البحر الأسود بشأن إمكانية العثور على المزيد من الاحتياطات الاستراتيجية، وانخفاض احتمالية وجود الغاز في مناطق شرق المتوسط التي تدعي أنها جزء من جرفها القاري، فإن سياستها العدائية لن تتوقف باعتبارها ليست مدفوعة فقط بالطاقة، وإنما السعي وراء السيطرة البحرية والهيمنة في شرق المتوسط.
• تحقيق أمن الطاقة: تفاقمت المخاوف بشأن تأمين إمدادات الطاقة بعد إسقاط تركيا لطائرة مقاتلة روسية في نوفمبر 2015، إذ خشيت أنقرة من اتخاذ الغاز ورقة مساومة وضغط في العلاقات الثنائية، ومن هنا اتجهت لتنويع إمدادات الطاقة، خاصة أنها تستورد 99% من احتياجات الغاز الطبيعي و83% من احتياجات النفط، فتوجهت صوب أذربيجان وإيران، في حين نمت شحنات الغاز الطبيعي المسال، لاسيما من الولايات المتحدة والجزائر ونيجيريا وقطر وغينيا الاستوائية وأنجولا والكاميرون والنرويج ومصر وترينيداد وتوباغو إلى 10.72 مليون طن خلال العام 2020 بنمو سنوي قدرة 1.3 مليون طن، وقد ضخت أنقرة استثمارات كبيرة لتوسيع قدرة البلاد على استيراد الغاز المسال إلى 50 مليار متر مكعب سنويًا، وهو رقم يقارب بشكل كبير جدًا.
• إنتاج الطاقة محليًا: تولي تركيا أهمية كبيرة لمصادر الطاقة المحلية وتنويع مزيج الطاقة لديها بحلول عام 2023، لا سيما الطاقة المتجددة وفحم الليجنيت والطاقة النووية، وتتخذ أيضًا تدابير لتقليل استهلاك الطاقة من خلال زيادة كفاءتها؛ بهدف تقليل إجمالي استهلاك الطاقة الأولية بنسبة 14% بحلول عام 2023. وبالفعل ارتفعت حصة الطاقة المتجددة (الطاقة المائية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الحرارية الأرضية) لتبلغ 44% ضمن مزيج الطاقة، وتضاعف توليد الكهرباء المتجددة ثلاث مرات خلال العقد الماضي، وتطمح لزيادة الطاقة المتجددة بنحو 50% بحلول عام 2024. علاوة على ذلك، من المتوقع أن يتم الانتهاء من أول محطة للطاقة النووية “أكويو” بحلول 2023، بقدرة مركبة تبلغ 4800 ميجاوات. وضمن هذا السياق، ترغب أنقرة في رفع مساهمتها الإنتاجية لمورد الغاز الطبيعي الذي يقف عند 13.4 مليون قدم مكعب سنويًا فقط، وتقليل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية والأذربيجانية وغيرها من مصادر الطاقة الأجنبية.
• تعزيز مكانتها الجيوسياسية كمركز للطاقة: أكسب الموقع الجغرافي لتركيا من حيث قربها لروسيا الغنية بالطاقة، وشرق المتوسط، وبحر قزوين، وآسيا الوسطى، ووقوعها على مسار نقل الطاقة بين روسيا وبحر قزوين إلى أوروبا، مكانة جيوسياسية مهمة في مجال الطاقة، لكنها تعاني نضوبًا في مصادر الطاقة وبالأخص النفط والغاز، وتقتصر أهميتها على كونها “جسرًا لنقل الطاقة” بين الشرق والغرب يعززه مجموعة من خطوط الأنابيب على رأسها خط الأنابيب العابر للأناضول “تاناب” (الجزء العابر لتركيا من ممر الغاز الجنوبي الهادف لنقل غاز بحر قزوين إلى أوروبا)، وخط أنابيب باكو – تبليسي – أرضروم، إلى جانب خطي أنابيب بلو ستريم وترك ستريم المار عبرهما الغاز الروسي، وخط أنابيب الغاز الطبيعي الإيراني التركي، ومشروع الربط الكهربائي بين تركيا واليونان. وفي هذه الحالة تقتصر مكاسبها على رسوم المرور، لكن طموحاتها لا تقف عن هذا الحد بل تتجاوزه إلى الرغبة في أن تصبح مركزًا للطاقة بمعنى امتلاك الموارد وقدرات الإنتاج والمعالجة والتأثير في الأسعار العالمية للمورد.
• انتزاع مكاسب سياسية واقتصادية: يرتبط هدف الإنتاج في 2023 غالبًا بالانتخابات التركية المُقرر إجراؤها العام نفسه، مع تراجع شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية بفعل فشل السياسات الاقتصادية المنعكسة في ارتفاع معدلي التضخم والبطالة وعجز الموازنة ونسب الفقر، والمغامرات السياسية التي أوقعت البلاد في عزلة إقليمية وجعلتها هدفًا للعقوبات الدولية، وعليه، يحاول أردوغان تجميع النقاط في رصيده السياسي وتقديم رسالة إيجابية للناخبين الذين سئموا الضائقة الاقتصادية. علاوة على رغبة أنقرة تخفيض فاتورة استيراد الطاقة سنويًا التي تتجاوز 40 مليار دولار سنويًا، تُقدر حصة واردات الغاز حوالي 12.5 مليار دولار منهم، وتثور توقعات بانخفاض يتراوح بين 6 و7 مليارات عند بدء الإنتاج من الحقل المكتشف.
• تلبية زيادة الطلب محليًا: ارتفع استهلاك الطاقة في تركيا بنسبة 92% منذ عام 2000، ويتوقع المسؤولون الأتراك أن يعزز النمو السكاني وزيادة الإنتاج المحلي الطلب على الغاز الطبيعي في البلاد بنسبة 60%، ليصل إلى 80 مليار متر مكعب سنويًا بحلول عام 2030. وبالفعل ارتفع الطلب على الغاز الصناعي بشكل كبير شكل بنسبة 12% على أساس سنوي خلال الفترة من أكتوبر 2020 إلى يناير 2021.في الختام، لن يكون لحقل صقاريا تأثيرًا تحوليًا على سوق الغاز التركي، وستستمر أنقرة في كونها مستوردًا رئيسًا، بالنظر إلى التحديات الفنية والموضوعية المرتبطة بالاكتشاف، لكنه سيكون في قلب حملات التوظيف السياسي، كاشفًا الأولوية المتقدمة للغاز في السياسة التركية.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



