
بعد ما يقرب من عقدين من المحاولات والمساعي المتكررة، تمكنت إسرائيل في 22 يوليو، من استرجاع عضويتها كمراقب في الاتحاد الإفريقي؛ إذ إنها كانت تشغل هذا المقعد في منظمة الوحدة الإفريقية قبل تحوله إلى الاتحاد الإفريقي عام 2002، لكن حالت ظروف ودول من انتقال عضويتها مع الاتحاد إبان تأسيسه، بسبب ضغوط مارسها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، بينما ظلت إسرائيل تطالب بها إلى أن أعلن الاتحاد الإفريقي منح تل أبيب رسميًا صفة “عُضو مُراقب”.
وعلى الرغم من محدودية دور الدولة المراقب في صناعة واتخاذ القرار، إلا إن إسرائيل رأت في القرار مكسبًا سياسيًا وتاريخيًا يستحق الاحتفال؛ إذ جاء نتيجة عقدين من العمل المُكثف للدبلوماسيين الإسرائيليين الذين رأوا أن التأثيرات الاستراتيجية والارتباطات الناشئة عن عضوية المنظمات الدولية أو الإقليمية أكثر استدامة من الأحلاف الثنائية بين الدول.
وبينما احتفلت إسرائيل بمنحها صفة مراقب، إلا إن الاتحاد الإفريقي كان أقل احتفالية بهذا القرار، واكتفى ببيان صحفي صادر عن مكتب رئيس مفوضية الاتحاد “موسى فكي” بالإعراب عن أن الرئيس “تلقى أوراق اعتماد” من سفير إسرائيل في أديس أبابا وأنه استغل الفرصة “لإعادة تأكيد” دعم الاتحاد الإفريقي الطويل الأمد لحل الدولتين. وأثار هذا القرار اعتراض الكثير من الدول مثل مصر وجنوب إفريقيا والجزائر ودول عربية إفريقية أخرى، فرغم أن قرار انضمام إسرائيل يدخل ضمن الصلاحيات الإدارية لرئيس المفوضية الإفريقية، لكن كان ينبغي عليه أن يدخل في مشاورات واسعة مع الدول الأعضاء قبل اتخاذه، وهو ما لم يحدث، الأمر الذي يشكك في مشروعية القرار.
وعبرت (مصر والجزائر وجزر القمر وتونس وجيبوتي وموريتانيا وليبيا) عن رفضها للخطوة التي أقدم عليها رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي لأنه لم ينظر في الطلب الإسرائيلي على نحو ما سار عليه سابقوه، ووصفت الدول القرار بأنه تجاوز إجرائي وسياسي غير مقبول من جانب رئيس المفوضية لسلطته التنفيذية، وأن القرار خالف معايير منح صفة مراقب ونظام الاعتماد لدى الاتحاد الإفريقي التي اعتمدها المجلس التنفيذي في شهر يوليو 2005.
في المقابل، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية تأييدها للخطوة، وسارع وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” بتهنئة الاتحاد الإفريقي قائلًا “إن بلاده ترحب بعودة إسرائيل إلى الاتحاد الإفريقي كعضو مراقب، وأن هذه العودة جزء من دعمنا لتطبيع أوسع للعلاقات مع تل أبيب”. وأضاف بلينكن: “نهنئ الاتحاد الإفريقي على قيادته في بناء الجسور وخلق سبل جديدة للتبادل”. وترى الولايات المتحدة أن هذا القرار يصب في مسار العلاقات الأمريكية – الإفريقية بعد تراجعها في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، والحد من توغل الصين وروسيا في إفريقيا على حساب النفوذ الأمريكي.
وعلى هذا، فإن حصول إسرائيل على صفة مراقب يمثل بداية لمرحلة جديدة في بناء علاقة إسرائيل بالمنطقة على المستوى القاري، وهي خطوة تراها أساسية لتعزيز المبادرات القارية ضمن جدول أعمال إفريقيا 2063. وبالتالي فإن السبب في إتباع إسرائيل سياسة خارجية تجاه الدول الإفريقية في هذا التوقيت يعود إلى:
- استخلاص دلالة مهمة تتبلور عنها الاتجاهات التي تسلكها العلاقات السياسية الدولية والدوافع التي تمليها قرارات إسرائيل، وإصرارها على الالتحاق بالاتحاد الإفريقي منذ تأسيسه عام 2002. ومع ذلك فإن إسرائيل لا تحتاج إلى استراتيجية تشمل كل دول القارة، بل استراتيجية إقليمية تستهدف دولًا معينة، وقد سبقت قوى دولية إسرائيل في إتباع هذا النهج، بدأته الصين مع بداية انفتاحها لإشباع حاجتها التنموية، واستهدفت الاستثمار النفطي والعمل في قطاع الإنشاءات والمقاولات، وأنشأت سوقًا إفريقية ضخمة للبيع بالتجزئة مستفيدة من الانسحاب الأمريكي من التنقيب عن النفط، بسبب الانشغال بمناطق أخرى.
- تدشين حلف إفريقي داعم لها، يحول دون التصويت ضدها في المحافل الدولية، حيث تنظر إلى الدول الإفريقية كوعاء تصويت داعمٍ لها في الأمم المتحدة، لأن حيادها أو التصويت لصالح إسرائيل يضمن لها في المقابل عقود تنمية اقتصادية. وفي إحصاء للمواقف التي اتخذها الاتحاد الإفريقي، فقد صوت في المحافل الدولية منذ عام 1990 خلال 1400 تصويت، بمواقف ضد سياسات إسرائيل. وما تأمله إسرائيل، بعد دخولها الاتحاد الإفريقي، إحداث تغيير في هذه المواقف لمصلحتها، مستغلة حالة التصدع التي تعانيها العلاقات الإفريقية-الإفريقية.
الاستراتيجية الإسرائيلية في إفريقيا
لا يقل اهتمام إسرائيل بإفريقيا عن اهتمام دول أخرى مثل الصين وروسيا التي ترى فيها فرصًا للوصول إلى الموارد الطبيعية والأسواق سريعة النمو وتشكيل التحالفات سياسية؛ فالعلاقات الإسرائيلية الإفريقية ليست وليدة اليوم، فإسرائيل كانت تتمتع في ستينات القرن الماضي بـ”تحالف غير رسمي” مع 32 بلدًا إفريقيًا، مع وجود خبراء إسرائيليين يعملون في مختلف القطاعات داخل القارة، ولكنها تراجعت على خلفية اندلاع حركات التحرر الوطني في إفريقيا وتصاعد الصراع العربي الإسرائيلي.
ودفعت الحروب الإسرائيلية مع مصر إبان حرب عام 1967 وحرب أكتوبر 1973، إلى قطع الدول الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى علاقاتها مع إسرائيل، قبل أن تبذل تل أبيب على مدار السنوات التالية مساعي كبيرة لتحسين العلاقات مع العديد من دول القارة. ثم استؤنفت العلاقات مرة أخرى خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي متأثرة باتفاقات أوسلو 1993، ثم ما لبثت أن أغلقت بعض البعثات الدبلوماسية خلال الانتفاضة الفلسطينية (2000 – 2005)، ثم تجددت العلاقات فيما بعد.
وبفعل التطور في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية، رفعت إسرائيل شعار “إسرائيل تعود إلى إفريقيا، وإفريقيا تعود إلى إسرائيل”، وتبلورت الاستراتيجية الإسرائيلية على عدد من الركائز من أبرزها:
- الركيزة الأولى التغلغل: اتبعت إسرائيل سياسة الصبر والثبات النسبي في مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تجاه إفريقيا، لتحقيق أهدافها، والعمل بالتدريج على اختراق القارة والتغلغل فيها، وتمكنت إسرائيل من توسيع نفوذها، أمنيًا وعسكريًا واقتصاديًا، للوصول إلى هذه اللحظة، معتمدة على فتح آفاق التعاون بطرق متعددة ومتنوعة في أماكن كثيرة في الوقت نفسه.
- الركيزة الثانية الاهتمام بقضايا القارة: تحولت بوصلة إسرائيل إلى دعم الدول الإفريقية في قضايا الهجرة، ليس باتخاذ مواقف تتعارض مع الدول الأوروبية، وإنما بالمشاركة في محاربة الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية، خصوصًا أنها مثلت أحد معابر الهجرة إلى أوروبا.
- الركيزة الثالثة الأمن القومي: إن وجود إسرائيل وسط محيط عربي شاسع، دفعها إلى الحضور بكثافة في دول القرن الإفريقي، واعتبار إفريقيا دائرة ثانية تقع في نطاق دول المواجهة العربية من خلال تدعيم العلاقات مع دول حوض النيل كإثيوبيا وأوغندا للتأثير في الأمن القومي العربي. ولعب المركز الاستراتيجي الدولي لإفريقيا دورًا في رغبة إسرائيل في توطيد العلاقات معها، حيث لا تتحقق متطلبات الدولة من تنمية وأمن داخل حدودها فقط، وإسرائيل تهتم بشكل خاص بوجودها وأمنها، الذي تقع إفريقيا في مجاله الحيوي. كما استغلت إسرائيل الاضطرابات الأمنية في القارة لتصبح بوابة عبور لها نحو إفريقيا، لتتولى إسرائيل تدريب القوات الأمنية في عدد من الدول الإفريقية على مواجهة الجماعات الإرهابية. وفتحت وزارة الخارجية الاسرائيلية المجال أمام جهاز الأمن الداخلي “الشاباك” ووزارة الدفاع والموساد لتقديم الدعم الأمني إلى هذه الدول وهي: (إثيوبيا، رواندا، كينيا، تنزانيا، وزامبيا، وجنوب إفريقيا، وأنجولا، ونيجيريا، والكاميرون، وتوجو، وساحل العاج، وغانا).
- الركيزة الرابعة التوسع الاقتصادي: استطاعت إسرائيل إبرام عقود اقتصادية وشراكات للتنقيب عن المعادن في دول القارة. وأنشأت العديد من المشاريع في إفريقيا واكتسبت ميزة تفضيلية جعلتها واحدة من أكثر دول العالم تقدمًا في مجالات التكنولوجيا والزراعة الذكية وإدارة المياه والتعلم عن بعد، وهي مجالات حاسمة بالنسبة للعديد من الاقتصادات الإفريقية. ومع سنوات من مشاركتها في المشاريع التعاونية، ومعرفتها التقنية واستعدادها المؤكد للانخراط في مشاريع التنمية، أصبحت إسرائيل لاعبًا اقتصاديًا بمستوى عالمي خاصة في التقنيات المتقدمة، مستغلة في ذلك هشاشة الأنظمة السياسية بالإضافة إلى الفقر والمشاكل الكبرى التي تعاني منها هذه الدول.
وقد كان نتنياهو أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور إفريقيا في يوليو 2016، في جولة شملت: أوغندا وكينيا ورواندا وإثيوبيا. وفي ديسمبر من ذلك العام، استضافت اسرائيل سبعة وزراء والعديد من كبار المسؤولين الآخرين من أكثر من اثني عشر دولة من غرب إفريقيا في مؤتمر زراعي في إسرائيل، والذي رعته بشكل مشترك المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس” و”ماشاف”. وتهدف مؤسسة رجال الأعمال الإسرائيلية التنموية ماشاف (MASHAV) مع غيرها من المؤسسات الإسرائيلية إلى الانخراط في عديد من الأنشطة التنموية بالقارة الإفريقية، تتضمن جوانب تجارية واقتصادية وأكاديمية وتكنولوجية وثقافية، إضافة إلى مشاريع زراعية مشتركة ومساعدات طبية وبرامج التكوين المهني ومساعدات إنسانية. ومنذ تأسيسها درّبت “ماشاف” أكثر من ربع مليون شخص فيما يزيد على 130 دولة. وتدير “ماشاف” وحدها سنويًا أكثر من 200 برنامج تدريب للمهنيين في الدول النامية.
- الركيزة الخامسة توسع التمثيل الدبلوماسي: يظل الهدف الأكبر لإسرائيل من توسعها في العلاقات مع دول القارة الإفريقية هو تحقيق الاستفادة الدبلوماسية، حيث تتمتع إسرائيل بعلاقات مع 46 دولة في إفريقيا من إجمالي 55 دولة إفريقية، ولديها علاقات وطيدة مع السودان والمغرب التي تلتها زيارات واتفاقات متبادلة، وأقامت دولة جنوب السودان فور استقلالها عام 2011 علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهناك علاقات مع دول مؤثرة مثل أوغندا وكينيا وإثيوبيا وإريتريا وتشاد وغيرها. ولدى إسرائيل حاليًا علاقات على مستوى سفارة 42 دولة إفريقية، أي بنسبة 80% تقريبًا. وجاءت اللحظة الفاصلة الأولى في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية في عام 2019، عندما أعادت جمهورية غينيا، علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بعد انقطاع دام 49 عامًا. وكذا، أرسلت السنغال وغينيا سفيريهما إلى إسرائيل للمرة الأولى على الإطلاق.
حسابات إسرائيل
تدرك إسرائيل أهمية الدور الحالي للقارة الإفريقية، وتسعى إلى تحقيق مكاسب من تقاربها معها، لذلك لم تمل تل أبيب من محاولات العودة إلى الاتحاد الإفريقي لأن ذلك بطبيعة الحال يمنحها سلطات خاصة، على رأسها:
- التأثير على قرارات الاتحاد بشأن القضية الفلسطينية: لم يتراجع الاتحاد الإفريقي يومًا عن موقفه الثابت تجاه القضية الفلسطينية، ودعمه لمبدأ حل الدولتين، وإدانة الاستيطان الإسرائيلي ومطالبته بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية، وبالتالي فإن خطوة انضمام إسرائيل للاتحاد الإفريقي قد تكون واحدة من محاولات عرقلة القرارات والبيانات الصادرة عن الاتحاد الداعمة للقضية الفلسطينية، الأمر الذي بدوره قد يضعف من الدعم الإفريقي للقضية الفلسطينية سواء داخل أجهزة الاتحاد أو في الكتل التصويتية في المحافل الدولية.
وعلاوة على ذلك فإن تمتع فلسطين بصفة الدولة المراقب بالاتحاد الإفريقي جعل إسرائيل ترى أن هناك حاجة ملحة لإيصال صوتها خلال اجتماعات الاتحاد الإفريقي، لتُحدث حالة من التوازن مع الخطابات التي يلقيها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، الذي يحرص على إلقاء خطاب في كل اجتماع للاتحاد.
- تعزيز مركز إسرائيل كفاعل دولي: من بين المزايا التي ستحصل عليها إسرائيل جرّاء صفة المراقب بالاتحاد هو الاستفادة من كتلة التصويت الإفريقية الضخمة التي تضم 54 دولة في المحافل الدولية لتأييد القرارات التي في مصلحة إسرائيل، لاسيما في الجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرها من المحافل التي لا تتمتع فيها الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الأول لإسرائيل، بحق النقض. بالإضافة إلى أن هذه الخطوة تمثل رسالة إلى واشطن بأن إسرائيل ستظل هي المفتاح السحري للولايات المتحدة الأمريكية في إفريقيا إذا أرادت أن تواجه الدور الصيني والفرنسي والروسي وغيرها من القوي المتصارعة على إفريقيا.
- زيادة اتفاقيات التطبيع مع الدول الإفريقية: إن أحد أهم النتائج المترتبة على عودة إسرائيل للاتحاد الإفريقي هو توسيع اتفاقيات التطبيع مع الدول المترددة في اتخاذ هذا القرار مثل جيبوتي ومالي والنيجر الصومال، التي تتردد جميعها في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. وتستغل إسرائيل ما لديها من أوراق ضغط على هذه الدول من أجل التطبيع معها، وأول هذه الأوراق هو الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، وحاجة هذه الدول إلى المساعدات المالية والاقتصادية والوصول إلى الدعم الأمريكي عبر بوابة إسرائيل.
مكاسب اقتصادية: على الرغم من كثافة الوجود الإسرائيلي الاقتصادي في القارة الإفريقية في الوقت الحالي، إلا أن وجودها بصفة مراقب في الاتحاد الإفريقي يتيح لها العديد من القنوات الشرعية إلى الكثير من المنظمات التي تهتم بموارد القارة مثل السوق المشتركة لإفريقيا الشرقية والغربية، والمجتمع الاقتصادي لوسط إفريقيا، وتجمع دول الساحل والصحراء. وهي منظمات تتحكم وفق بعض التقديرات في 30% من موارد إفريقيا. في السياق ذاته يكون بمقدور إسرائيل عقد بعض الاتفاقيات الاقتصادية بتسهيلات يوفرها الاتحاد للدول التي تنضوي تحت لوائه بشكل أو آخر.



