
موقع المجتمع المدني في مسارات المشهد السياسي التونسي
لم ترفض منظمات المجتمع المدني التونسية قرارات الرئيس “قيس سعيد” التي جمّدت عمل البرلمان ورفعت الحصانة عن نوابه، وحلت حكومة “المشيشي” (25 يوليو)، وإنما التزمت بموقف تضمن أربعة شروط رئيسة، وهي: (1) اعتبار قرارات الرئيس التونسي “إجراءً استثنائيا”، (2) إجازة هذا الإجراء لمدة شهر واحد فقط، (3) تقديم ضمانات “دستورية” كافية تؤطر هذا الإجراء الاستثنائي. (4) عقد حوار وطني لصياغة خارطة طريق تشاركية.
بجانب الاجتماعات المتكررة مع القيادات الأمنية والعسكرية التونسية، اجتمع “قيس” مع منظمات المجتمع المدني من بينها الاتحاد العام للشغل (في 27 يوليو)، واتحاد الصناعة والتجارة (28 يوليو) وشدّد على ضمانه المسار الديموقراطي وحماية الحقوق والحريات في تونس.
لماذا لم يعتبر المجتمع المدني ما حدث في تونس “انقلابا”؟، تبحث الورقة طبيعة المحددات (المحددين الهوياتي والسياسي) التي ترسم دور المجتمع المدني في تونس، وطبيعة هذا الدور في السيناريوهات القادمة للمشهد السياسي.
المجتمع المدني جزء من الحركة الوطنية التونسية
عرفت تونس عديدًا من مراحل التحول السياسي طوال تاريخها، قادتها الحركة الوطنية، كان ما يميزها أحد سمات هذه المراحل هو انخراط المجتمع المدني التونسي في الحركة الوطنية التونسية للتحرير.
إذ بعد حصول تونس على الاستقلال في مارس 1956، شكّل الاتحاد العام التونسي للشغل مع حزب الدستور الجديد ونقابة أرباب العمل، والاتحاد الوطني للفلاحين التونسيين جبهة وطنية خاضت الانتخابات التأسيسية في 1956 والتشريعية في 1959. ألغت الجمعية التأسيسية حكم البايات الملكي وأقامت نظاماً جمهورياً رئاسيا.
ثم إن الأزمات السابقة التي عرفتها تونس منذ اندلاع ثورة الياسمين في 2010، كانت تفضي إلى عودة الفرقاء السياسيين إلى طاولة الحوار، بمبادرة الرباعي الراعي له الحاصل على نوبل للسلام في 2015 (الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الصناعة والتجارة، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وعمادة المحامين). ويعد منح الرباعي جائزة نوبل هو تكريس لسلطة المجتمع المدني في تونس واعتراف بشرعيته في الساحة السياسية التونسية وإكسابها الطابع الديموقراطي.
لعب المجتمع المدني دورا مهمًا بشكل خاص في صياغة الدستور الجديد، إذ شاركت 300 منظمة ومؤسسة مجتمع مدني من جمعيات أهلية وسياسية ومؤسسات أكاديمية بتقديم الآراء السياسية فيما يتعلق بشؤون الحريات والحصول على المعلومات. في النهاية تم إقرار الدستور بأغلبية 200 من أعضاء الجمعية التأسيسية الوطنية البالغ إجمالي عددهم 216 عضوا. ودارت مداولات مكثفة، لاسيما حول موضوعات تتعلق بالهوية الوطنية للبلاد، ودور الدين، وتعريف الحقوق والحريات، والمساواة بين الرجل والمرأة.
كما يعد تعزيز دور المجتمع المدني ضمن أهم المؤشرات التي تعكس التحول الديموقراطي في الدولة، وفي حالة تونس فإنها كتبت دورا في مواجهة النفوذ التسلطي بين الدوائر السياسية، ثم أصبحت مؤشرا على نجاح تحول الثورة التونسية (2010) إلى مسار ديموقراطي حقيقي، يضمن التعددية، ويحفظ المكتسبات الوطنية.
نتج عن ذلك الوزن الذي يتمتع به المجتمع المدني التونسي على مراكمة قوة وتأثير بالغين، اعتمدت على مجموعة من المعايير والمؤشرات، أبرزها: (1) توسع القاعدة الشعبية والقدرة على التعبئة، إذ يتمتع اتحاد الشغل على سبيل المثال على قاعدة تبلغ مليون تونسي من أصل 11 مليون نسمة تقريبا. (2) تقديم الأفكار والرؤى، إذ يستمر المجتمع المدني في تقديم تصورات لخارطة طريق للمشهد التونسي القادم بعد قرارات “سعيد”. (3) الشرعية، ترسخت بعد حصول الرباعي المدني على نوبل للسلام.
لم يكن انقلابا؟
تتبدى مجموعة من العوامل التي تفسر الإجابة على سؤال لماذا لم تعتبر منظمات المجتمع المدني ما حدث انقلابا؟، يمكن عرض أبرز هذه العوامل بالترتيب التالي:
- الترديات الاقتصادية والاجتماعية لتونس
يعتبر المجتمع المدني أن فشل حكومة “المشيشي” في إدارة أزمة كورونا هو الفصل الأخير في سلسلة الترديات الاقتصادية والاجتماعية. ذلك يفسر بروز مطلب المجتمع المدني التونسي كأولوية أولى بتشكيل حكومة كفاءات “وطنية”، أي اختيار حكومة تكنوقراطية ذات طابع غير حزبي تستهدف رفع كفاءة معيشة المواطن التونسي. إذ تشير التقارير إلى ازدياد معدل البطالة إلى 17%، وارتفاع الدين المحلي والخارجي نسبة إلى الناتج الإجمالي المحلي؛ وبالتالي تنجح الحكومة الجديدة في إدارة سليمة لأزمة كورونا.
- استشراء الفساد:
يمثل ملف مكافحة الفساد في تونس أحد أهم محددات السلوك السياسي لـ “قيس سعيد” في تفسير قراراته الأخيرة، خاصة ملف الفساد المالي المتعلق بالأموال المنهوبة. ورغم تقدم تونس في مؤشر الفساد في سنوات 2018، 2019، 2020 (المركز 73، 72، 69 بالترتيب) إلا أن هناك مؤشرات أخرى توضح حجم التأزم الذي يعاني منه تونس وتسبب في استشراء الفساد.
يتبين من نتائج المؤشرات السابقة خاصة فيما يتعلق بمؤشر الحوكمة (والذي يتكون من أربع مؤشرات رئيسية هي الاستقرار السياسي وفاعلية الحكومة وسيادة القانون والتحكم في الفساد) أن المجتمع المدني التونسي يستمر في عزلته عن معالجة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في تونس. وهو ما يفسر أن المجتمع المدني التونسي يرى في خطوة قيس سعيد فرصة سانحة لاستعادة دوره الأصيل في ترسيخ الحوكمة والبدء في تحييد العوامل المسببة للفساد.
- الشلل السياسي:
يتبين من المؤشر السابق انحدار مؤشر الاستقرار السياسي في تونس؛ لجملة من العوامل أهمها عدم استقرار المجتمع المدني في أداء مهامه المتعلقة بالمسائلة والاكتفاء بالإشارات اللفظية الهجومية على الحكومة.
أما أهم العوامل الأكثر أهمية فتتعلق بارتفاع مظاهر الاحتجاج في الشارع التونسي، فحسب تقرير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ارتفع منسوب التحركات الاحتجاجية خلال شهر إبريل 2021 بنسبة مضاعفة مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، ليبلغ عددها 841 حركة احتجاجية مقابل 254 تحرّكا احتجاجيا في إبريل 2020. ما عدّه المجتمع المدني عامل على تدهور الاستقرار السياسي التونسي.
نتج عن هذه الظاهرة نشوء حركات اجتماعية-سياسية في الشارع التونسي باتت أقرب لتهديد شرعية النخب في المجتمع المدني، مثل حركة تمردوا وحركة أنا يقظ وحركات نسوية وحقوقية أخرى. لذا تحرك المجتمع المدني ليوافق على خطوة قيس سعيد ترجمة للمزاج العام في الشارع التونسي.
- مسألة الهوية:
اعتمدت حركة النهضة في تونس على نهج براجماتي يقدم الموائمات السياسية مع الفصائل السياسية المختلفة في تونس، انعكس ذلك في قوانين الأحوال الشخصية مثل تعدد الزوجات، الميراث، الحجاب، ثم يلبث إلا أن ارتدت مرة أخرى بعد موافقتها بسبب تنازع الارادات داخل الحركة بين النخب القديمة الراديكالية والنخب الجديدة الإصلاحية.
ولكن يبقى أحد أهم عوامل اضطرار النهضة للموائمة السياسية في المسائل المتعلقة بالهوية وعلاقة الدين بالدولة (العلمانية) هو فعالية المجتمع المدني (أحد المعايير البارزة على قوة المجتمع المدني في تونس) في صد المحاولات التي تكسب الأحوال الشخصية للمواطن التونسي صفة دينية راديكالية من وجهة نظرهم.
مسارات التحرك المحتملة للمجتمع المدني (ماذا بعد؟)
يبقى الإجابة على سؤال كيف يمكن استقراء خطوات المجتمع المدني التونسي المحتملة في المستقبل، ويمكن تقسيم هذه المسارات إلى أربعة محتملة، وهي بالشكل التالي:
أولا: استمرار الموقف الإيجابي حيال قرارات الرئيس التونسي
سيستمر المجتمع المدني في تأييد قرارات سعيد بشرط ألا تزيد مدتها عن ثلاثين يوما (بدءا من 25 يوليو)، يدعم هذا الموقف جملة من العوامل أهمها: (1) مكافحة الفساد المالي والإداري الذي شدد عليه سعيد في لقاءاته مع رؤساء منظمات المجتمع المدني. (2) ترجمة المزاج العام للشارع التونسي المتبرم من النخب السياسية الحالية التي فشلت في إدارة أزمة كورونا، وللحد من ظاهرة ازدياد الحركات الاجتماعية السياسية في الشارع التونسي، واحتكار الشرعية والفعالية.
ولكن يحد من تقييم هذا المسار إيجابيا تعدي قيس سعيد مدة الشهر، لذا يحتاج إلى تقديم ضمانات دستورية كافية لتدعيم خطوته مثل صياغة قانون انتخابي يمكن طرحه للاستفتاء الشعبي العام، او التسريع بإرساء المحكمة الدستورية.
ثانيا: تحول الموقف
يفترض هذا المسار أن يتخلى المجتمع المدني عن موقفه الإيجابي تجاه قيس سعيد والشروع في تأييد موقف حركة النهضة إنقاذا للمسار الديموقراطي الرشيد الذي اكتسبته تونس من ثورة 2010.
سيدعم هذا المسار عدم تحديد خارطة طريق مستقبلية لتنظيم سير شؤون العامة في تونس في مواجهة أزمة كورونا، أو تنظيم انتخابات مبكرة وفقا لمبادرة النهضة الأخيرة.
يحد من فرص تحقيق هذا المسار هو استمرار سير التحقيقات بحق الأحزاب المتورطة في الفساد المالي والإداري في تونس من بينهم حركة النهضة، التي بدأت تفقد شعبيتها تدريجيا في تونس، يظهر ذلك في استطلاع رأي حديث أجرته “إمرهود للاستشارات” تبين أن 76% من التونسيين يؤيدون قرارات سعيد “بشدة”؛ ويعود ذلك إلى الفشل في إدارة ازمة كورونا.
ثالثا: تحقيق دور وطني مستقل
يسعى المجتمع المدني أن يستعيد دوره كفاعل سياسي أصيل في العملية السياسية التونسية، لذا يتبدى ميلا سياسيا لإجراء حوار وطني موسع بهدف (1) تشكيل حكومة تكنوقراط وطنية، وفي الأغلب ستكون من المجتمع المدني والأهلي، (2) كما بهدف صياغة آجال واضحة لخارطة طريق تحدد إجراءات الرقابة على السلطة، (3) التسريع بإرساء المحكمة الدستورية لصياغة قانون انتخابي جديد. ختاما، يمكن القول إنه يتمتع المجتمع المدني بوزن وتأثير ملحوظين في الساحة السياسية التونسية، كما يتبين رغبة مبررة لترميم دوره الوطني الآخذ في التراجع من حيث الشرعية والفعالية. ورغم موافقة المجتمع المدني على قرارات سعيد إلا أنه لا يعني منح صك أبيض للرئيس التونسي في خطواته المقبلة، بل ستتحدد أهداف المجتمع المدني المقبلة في تشكيل حكومة، وعقد حوار وطني للحفاظ على المسار الديموقراطي في تونس.
باحث ببرنامج العلاقات الدولية



