دول المغرب العربي

تونس .. حصاد ” الأزمات السياسية والاقتصادية”

ربما لا يمكن اعتبار مشهد الاحتجاجات الشعبية – العنيفة احياناً – في تونس مشهداً جديداً أو مستحدثاً، فقد تكرر هذا المشهد مراراً وتكراراً في معظم المناطق التونسية منذ العام 2011 وحتى اليوم، لكن رغم ذلك يمكن اعتبار الجولة الحالية من الاحتجاجات، والتي بدأت اليوم في الذكرى الـ64 لإعلان الجمهورية التونسية، بمثابة مؤشر أساسي على بدء تحول المزاج الشعبي التونسي، في اتجاهات جديدة تختلف قليلاً عن التوجهات السابقة التي كانت تحمل السلطة السياسية بكامل مفاصلها، مسؤولية التدهور المعيشي والسياسي الذي تعاني منه البلاد، وأصبحت عين الشارع مركزة بشكل أكبر على حزب “النهضة”، الذي كان الطرف المستهدف بشكل أساسي من تحركات اليوم الاحتجاجية.

الخلفيات السياسية والاقتصادية تبقى هي المحرك الأساسي لاحتجاجات اليوم، فعلى المستوى السياسي، تفاقمت الخلافات بين أجنحة الحكم في الدولة، وبشكل أدق بين الرئاسة التونسية ممثلة في رئيس الجمهورية قيس سعيد، ورئيس الحكومة هشام المشيشي ومن خلفه رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس البرلمان. عنوان هذا الخلاف كان وزارياً، لكن حقيقة الأمر أن هذه الخلافات كانت مجرد ارهاصات لمواجهة أكبر بين الجانبين، يحاول فيها كل طرف فرض إرادته ومنع الطرف الأخر من الهيمنة والسيطرة بشكل كامل على المفاصل السياسية التونسية.

رئيس الجمهورية قيس سعيد -المنفتح بشكل كبير على المحيط الإقليمي العربي- وجد في التغييرات الوزارية المفاجئة التي قام بها اوائل العام الجاري، محاولة لتحجيم دوره السياسي، وتكريس هيمنة حركة النهضة على الحياة السياسية التونسية، خاصة أن هذه التغييرات كانت موسعة، وتضمنت 11 وزارة من بينها بعض الوزارات السيادية مثل وزارة الداخلية التي كان يتولاها أحد المقربين من سعيد وهو توفيق شرف الدين، وتم استبداله خلال هذه التعديلات بأحد المقربين من حركة النهضة، وهو ما أثار غضب الرئاسة التونسية، التي أعربت صراحة عن أن معظم التعديلات الوزارية التي تمت تشوب أفرادها شبهات فساد، وهذه القناعة تقاطعت مع وجهات نظر عديدة في الشارع التونسي، رأت أن هذه التعديلات بشكل خاص، وأداء حكومة المشيشي بشكل عام، كانت الأولوية فيها لزيادة رقعة هيمنة حركة النهضة، وهو ما انعكس على الشارع بمزيد من المعاناة الاقتصادية.

تقارب وجهة النظر الشعبية في تونس مع موقف الرئيس التونسي قيس سعيد، شجع هذا الأخير على أن يعرب بشكل واضح عن رفضه لهذه التعديلات، خاصة بعد تصريحات رئيس حركة النهضة عن الحاجة إلى تكوين نظام حكم برلماني، يكون فيه تشكيل الحكومة من مهام الكتلة النيابية الفائزة في الأنتخابات التشريعية، ولهذا أكد الرئيس سعيد علناً ان الهدف من هذه التعديلات هو الوثوب بشكل تدريجي على السلطة التنفيذية في تونس، وتهميش دور الرئاسة بشكل يسمح لحركة النهضة – التي تسيطر على السلطة التشريعية – بأن تستكمل مشروع “التمكين” الذي يعد من أدبيات الذهنية السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، التي تعد حركة النهضة فرعاً تونسياً منها.

هذه  الخلافات السياسية تعززت بشكل أكبر نتيجة لتباعد الرؤى بين أقطاب الحكم في تونس، حول ملفات أخرى أهمها مستوى الأداء الحكومي، خاصة على المستوى الاقتصادي والصحي، وملف المصادقة على قانون المحكمة الدستورية. وهذا أدى إلى اصطفاف بعض الأحزاب التونسية الممثلة في البرلمان، في صف الرئيس التونسي، وعلى رأسها الحزب الدستوري الحر، الذي قاد المحاولة الفاشلة لسحب الثقة عن رئيس البرلمان (ورئيس حركة النهضة) راشد الغنوشي في يوليو الماضي.

كانت هذه المحاولة، رغم فشلها، دليلًا على تعاظم النظرة السلبية لدور حركة النهضة في الحياة السياسية التونسية، وبدء اقتناع الأوساط الحزبية والشعبية في تونس، بمسؤولية الحركة بشكل مباشر عن تدهور أداء حكومة المشيشي التي تسيطر عملياً عليها، ولم تفلح في تحسين أي جانب من جوانب معيشة التونسيين منذ تشكيلها في سبتمبر الماضي، بل تفاقمت المعاناة الأقتصادية للتونسيين، خاصة في الولايات الشمالية، بجانب تدهور القطاع الصحي التونسي بشكل دفع الرئيس التونسي قيس سعيد إلى مخاطبة عدد من الدول لتوفير المستلزمات الطبية اللازمة لبلاده، ناهيك عن تسليمه إدارة الملف الطبي في البلاد إلى المؤسسة العسكرية التونسية، ما شكل إشارة أخرى من سعيد إلى فشل الحكومة التونسية، ومن خلفها حركة النهضة، في إدارة ملف مكافحة جائحة كورونا.

مقرات حركة النهضة هدف ميداني للاحتجاجات التونسية

الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها معظم الولايات التونسية اليوم، كانت ترجمة حرفية وواقعية للتردي السياسي والاقتصادي في البلاد، وكذلك كانت مؤشر على تزايد النقاط التي ربحتها الرئاسة التونسية على المستوى الشعبي، وهي نقاط كانت غير واضحة خلال الفترة الماضية، بالنظر إلى الإنتصار النسبي الذي حققته حركة النهضة على الرئاسة التونسية في معركة فرض التعديلات الوزارية الجديدة.

تزايد شعبية الرئاسة التونسية، وبدء تشبع الأوساط الشعبية لوجهة نظرها وتحذيراتها من مغبة استمرار الأوضاع الحالية، كان ظاهراً بشكل كبير في القوس الواسع لاحتجاجات اليوم، التي شملت ولايات القوس الشمالي الشرقي للبلاد “العاصمة – المنستير – المهدية – سوسة – صفاقس”، والقوس الشمالي الغربي “جندوبة – الكاف – توزر – قفصة”، بجانب ولايات وسط البلاد “سيدي بو زيد – القيروان”.

اللافت في هذه الموجة من التظاهرات، أنها ركزت في كافة هذه المناطق على مقرات حركة النهضة، خاصة في ولايات صفاقس والقيروان وتوزر وسوسة والكاف، وهي ولايات تعاني من درجة أكبر من التهميش والمعاناة الاقتصادية، حيث هاجم المتظاهرون هذه المقرات واقتحموا بعضها وأضرموا فيها النيران، كما شهدت ولايات مثل ولاية صفاقس مواجهات محدودة بين المتظاهرين والشرطة، أدت إلى احراق بعض سيارات القوى الأمنية التونسية. المواجهات شملت محيط البرلمان التونسي في منطقة “باردو” بالعاصمة، حيث كانت الشرطة التونسية منذ صباح اليوم في حالة استنفار واضحة في محيطه، ومنعت عدة محاولات لاقتحامه على مدار اليوم.

المطالب التي تم رفعها خلال تظاهرات اليوم، كانت تركز بشكل كبير على الجانب السياسي، وهذه كانت ملاحظة بارزة في احتجاجات اليوم التي لم تكن متركزة فقط على الجانب المعيشي والاقتصادي، فقد طالب المتظاهرون بحل البرلمان واستقالة الحكومة، والبدء في تنقيح الدستور، وهي جميعها مطالب أساسية للأطراف السياسية المناهضة لحركة النهضة، أو التي تقترب بشكل أو باخر في مواقفها من الرئاسة التونسية، وقد أعرب بعض هذه الأطراف عن مواقف واضحة من هذه الاحتجاجات، منها حركة “مشروع تونس” التي أعربت في بيان لها عن تضامنها مع التحركات الشعبية على الأرض، مؤكدة في نفس الوقت انها لم تعلن موقفاً رسمياً من هذه التحركات، احتراماً منها لرغبة المتظاهرين في تحييد التوجهات الحزبية عن هذه التحركات. اللافت في هذا البيان هو إعلان الحركة عن مواصلة اتصالاتها مع كافة الأطراف السياسية والمدنية، من أجل عقد “استفتاء” يؤدي لجمهورية ثالثة و”تونس جديدة”. 

https://twitter.com/xingflavor/status/1419295764854026256

تتقاطع مع وجهة النظر هذه عدة أطراف سياسية أخرى في تونس، منها الاتحاد العام للشغل، الذي كان لافتاً اقترابه بشكل كبير من التوجهات السياسية للرئيس التونسي قيس سعيد خلال الفترة الأخيرة، لكن في الجانب الأخر، كانت ردود فعل حركة النهضة على احتجاجات اليوم معبرة عن الذهنية السياسية الحالية لهذه الحركة، فقد بات واضحاً أنها تمهد للعب ورقة “الشارع المضاد”، بحيث يتم الإيحاء أن المشكلة هي سياسية في الأساس وأن السبب فيها هو الرئيس التونسي، ومن ثم بالتوازي مع ذلك تحشد الحركة أنصارها في الشارع – في حالة إستمرار الإحتجاجات – علماً أن بعض انصار الحركة أشتبكوا بالفعل مع المتظاهرين الذي حاولوا اقتحام مقرات الحركة.

من التصريحات اللافتة في هذا الصدد ما ذكره بيان للحركة حول تظاهرات اليوم، حيث ورد فيه “تدين الحركة هذه العصابات الإجرامية، التي يتم توظيفها من خارج حدود البلاد، لإشاعة مظاهر الفوضى والتخريب”. القيادي في الحركة رفيق عبد السلام، صرح قائلاً “قيس سعيد جزء من المشكلة لا الحل”، كما صرح أيضاً النائب عن الحركة نور الدين البحيري قائلاً “على من حرض من جماعة عبير وحركة الشعب ومن ينسبون أنفسهم كأنصار للرئيس تحمّل مسؤولية أفعالهم”. يضاف إلى ذلك رصد بعض محاولات الاعتداء على مقرات الأحزاب المناهضة لحركة النهضة، مثل أحد مقار الحزب الدستوري الحر في ولاية “سليانة” اليوم.

بالنظر لما تقدم، يمكن القول أن الخطوة المتقدمة للغاية على المستوى السياسي ، التي قام بها الرئيس التونسي الليلة، بإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه، وتجميد اختصاصات المجلس النيابي ورفع الحصانة عن نوابه، بمثابة استكمال للمسار الذي بدأه الرئيس التونسي منذ أشهر لتحجيم محاولات حركة النهضة السيطرة على الدولة التونسية، وهي خطوة تصعيدية متقدمة بكل تأكيد، لكنها تستمد شرعيتها من تجاوبها مع المطالب الشعبية التي تم رفعها في تظاهرات اليوم.

بطبيعة الحال لا يمكن توقع تسليم حركة النهضة بسهولة لسحب قيس سعيد لورقة المجلس النيابي منها، وهنا تظهر اهمية دور الجيش التونسي، الذي سيكون دوره أساسيا في منع إنزلاق البلاد في مستنقع مواجهات متبادلة في الشوارع وحول مقار الأحزاب، وهذه هي أخر أوراق الإسلام السياسي بصفة عامة.

محمد منصور

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى