آسيا

“سياسة تفجير السدود”… ملامح وأسباب أزمة الفيضانات الصينية

ضربت موجة من الطقس غير المستقر كلا من الصين والهند وألمانيا وبلجيكا والولايات المتحدة وكندا، على مدار الأيام الماضية، تراوحت مظاهرها بين هطول الأمطار الكثيفة والفيضانات والأعاصير والارتفاع الشديد في درجات الحرارة، متسببة في حالة من الفوضى اجتاحت مناطق واسعة من تلك البلدان، تجسد أبرز ملامحها في انهيار وغرق المباني السكنية، واحتراق ملايين الأفدنة، وتشريد المواطنين، وسقوط عشرات القتلى، في مشهد وضع العالم أجمع أمام حقيقة مفادها أن قضية التغيرات المناخية لم تعد تهديد المستقبل، بل باتت واقعا تتجرع دول العالم المتحضر والنامي ويلاتهعلى السواء.

ملامح أزمة الفيضانات الصينية

في حدث غير مسبوق خلال “الألف عام الماضية”، اجتاحت الفيضانات الشديدة مدينة تشنغتشو عاصمة مقاطعة خنان، جراء هطول كميات غير معتادة من الأمطار سجلت 640 ملم (25 بوصة) خلال ثلاثة أيام فقط، أرجعها خبراء الأرصاد إلى تأثير إعصار In-Fa الذي تشكل بالقرب من جنوب الصين وتضاريس المنطقة، وقالت إدارة الأرصاد الجوية الصينية (CMA) في بيان إن الدوران المستقر في الغلاف الجوي ساهم في استمرار هطول الأمطار في الأجزاء الوسطى والغربية من خنان.

ويعتبر معدل الهطول هذا أكبر مما كان عليه في عام 1975 عندما تعرضت خنان لواحدة من أكثر الفيضانات فتكًا في العالم بسبب الإعصار الذي دمر مناطق كبيرة من المقاطعة مخلفًا ما بين 26 ألف و240 ألف قتيلًا، وتضرر أكثر من 10 ملايين شخص، وغمرت المياه 30 مدينة ومحافظة.

وقد أدت الفيضانات إلى تجريف المنازل والسيارات وحدوث انهيارات أرضية، وانهيار نظام الضرف الصحي ومحاصرة السكان في مترو الأنفاق وتركهم عالقين في المساكن والمدارس والمكاتب، وتعطل وسائل النقل حيث توقف ما لا يقل عن 10 قطارات تحمل حوالي 10 آلاف راكب لأكثر من 40 ساعة وأُغلق 26 قسمًا من الطرق السريعة، وعُلق أكثر من 80 خطًا للحافلات، وألغى مطار المدينة 260 رحلة. 

فضلًا عن تدمير حوالي 20 ألف هكتار من المحاصيل في المناطق الريفية حول مدينة تشنغتشو، ومعبد شاولين الشهير المعروف بإتقان فنون الدفاع عن النفس للراهب البوذي، وانفجار مصنع سبائك الألمونيوم بعد أن تسببت مياه الفيضانات في انهيار جدار المصنع واختلاط المياه بالمواد الكيميائية الموجودة بالداخل. علاوة على انقطاع التيار الكهربائي متسببًا في توقف أجهزة التنفس الصناعي بالمستشفى التابع لجامعة تشنغتشو، ما أجبر الموظفين على استخدام وسائد هوائية بمضخة يدوية لمساعدة المرضى على التنفس. وإجمالًا، قُتل ما لا يقل عن 33 شخصًا وأجبر ما يتراوح بين 100 إلى 200 ألف على النزوح من منازلهم.

ومن المتوقع أن تكون عملية إعادة الأعمار صعبة بالنظر إلى حجم الأضرار البالغة نحو 11 مليون دولار في واحدة من أكثر مقاطعات الصين اكتظاظًا بالسكان؛ إذ يقطنها نحو 12 مليون مواطنًا، وتعتبر موطن للعديد من المواقع الثقافية وقاعدة رئيسية للصناعة والزراعة حيث تضم ثلاثة مصانع ضخمة مملوكة لشركة Foxconn Technology Group العملاقة لتجميع الإلكترونيات ومقرها تايوان، التي توظف مئات الآلاف من الأشخاص، ويتم تصنيع أكثر من نصف أجهزة “آيفون” في المقاطعة. وتقع خنان بين بكين وشنغهاي في سهول وسط الصين، وتمتد على أربعة أحواض أنهار رئيسية هي نهر هايخه، والنهر الأصفر الذي له تاريخ طويل من الفيضانات على ضفافه خلال فترات هطول الأمطار الغزيرة، ونهر هوايخه، ونهر اليانجتسي، وتضم 1030 نهرًا مساحة كل منها 50 كيلومترًا مربعًا على الأقل.

وأمام التدفق الهائل للمياه اضطر الجيش الصيني إلى تفجير سد ييتان في مدينة لويانغ البالغ عدد سكانها 7 ملايين نسمة والواقعة على بعد حوالي 89 ميلًا إلى الغرب من تشنغتشو عاصمة إقليم خنان، في وقت متأخر من ليل الثلاثاء، لتصريف مياه الفيضانات خوفًا من انفجاره بعدما أبلغت القيادة الإقليمية لجيش التحرير الشعبي في بيان إنه تم العثور على ثقب يبلغ ارتفاعه 20 مترًا في السد يجعله عرضة للانهيار في أي لحظة. وبالفعل انهار سدان بمنغوليا الداخلية الأحد الماضي، ووصلت العديد من السدود والخزانات الأخرى إلى مستويات إنذار بسبب حجم هطول الأمطار التي أدت إلى ارتفاع سريع في الأنهار بحوض النهر الأصفر. 

وتعتبر ظاهرة تفجير السدود لمواجهة الفيضانات شائعة في الصين، فخلال صيف العام الماضي حيث بلغت مستويات المياه ارتفاعًا تاريخيًا في 53 نهرًا، اضطرت السلطات في مقاطعة أنهوي الشرقية إلى تفجير سدين لإطلاق المياه من ارتفاع نهر تشوهي فوق الأراضي الزراعية.

وتثير الفيضانات المتكررة مخاوف بشأن السلامة الهيكلية لسد الممرات الثلاثة المقام على نهر اليانجتسي الذي يعيش حوله 500 مليون شخص، وهو أكبر سد لتوليد الطاقة الكهرومائية في العالم تم بناؤه في منطقة تتقاطع معها خطوط الصدع الجيولوجي، وبلغت تكلفة إنشاؤه 95.5 مليار يوان بما يضعه في قائمة أغلى المشاريع بالعالم. ويُمكن لخزان السد استيعاب مستوى مياه بحد أقصى 175 مترًا، وتشكل الفيضانات السنوية اختبارًا متكررًا لقدرة السد على التحمل؛ ففي يوليو 2020 وصلت ذروة مياه الفيضان إلى مستوى 164.18 مترًا وكُشف عن تعرض السد لتسرب وتشوه، وبالتالي تم فتح ثلاث بوابات منخفضة لتصريف المياه.

عوامل تفاقم الأزمة

تعاني الصين بشكل روتيني من الفيضانات في أشهر الصيف لكن الأزمة تضاعفت خلال السنوات الأخيرة، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل نذكر منها:

• تراجع أولوية قضية التغيرات المناخية: رغم تعهدات الصين بوقف الارتفاع في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون فيها بحلول سنة 2030 وتحقيق الحياد الكربوني بحلول سنة 2060، إلا أن ممارساتها تأتي بعكس أقوالها، إذ أظهرت دراسة جديدة أن الصين ولّدت أكثر من نصف الطاقة العاملة بالفحم في العالم في عام 2020، بزيادة تسع نقاط (إلى 53%) من عام 2015، كما افتتحت بكين عددًا من محطات الفحم في عام 2020 أكثر مما افتتحت في السنوات الثلاث السابقة مجتمعة تمثل ثلاثة أضعاف عدد محطات الفحم الجديدة في بقية العالم بأسره. وعليه، كانت الصين الدولة الوحيدة في مجموعة العشرين التي نمت انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العام الماضي. ومنذ عام 2008، تصدرت الصين القائمة السنوية لكونها أكبر مصدر لانبعاثات غازات الدفيئة ثاني أكسيد الكربون. وفي عام 2019، انبعثت الصين 10.2 مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون – ما يقرب من ضعف الولايات المتحدة (5.3 مليار طن متري) – وهو ما يمثل ما يقرب من 28% من الانبعاثات العالمية.

وتأتي الفيضانات في الوقت الذي تعرضت فيه بكين لضغوط من مبعوث المناخ الأمريكي جون كيري، الذي دعا قادة البلاد إلى تكثيف إجراءاتهم للحد من أزمة المناخ. وقال كيري إنه بدون تخفيضات كافية للانبعاثات من جانب الصين، فإن الهدف العالمي المتمثل في إبقاء درجات الحرارة أقل من 1.5 درجة مئوية “مستحيل أساسًا”.

• نمو المدن وتحويل الأراضي الزراعية إلى تقسيمات فرعية: أدى إلى تفاقم تأثير مثل هذه الأحداث، فقد غطى الامتداد العمراني الخرساني المزيد والمزيد من الأراضي، مما زاد من خطر التراكم السريع للمياه على السطح أثناء هطول الأمطار الغزيرة مع عدم وجود مكان لتصريف المياه فيه، كما أن بعض البحيرات الكبيرة في البلاد تقلص حجمها بشكل كبير. وكان أحد الحلول الحكومية هو برنامج “مدينة الإسفنج” الذي بدأ في عام 2014، ويهدف لاستبدال الأسطح الحضرية غير النفاذة بمواد مسامية (أرصفة قابلة للاختراق)، والمزيد من المساحات الخضراء، ومناطق الصرف والخزانات لمنع تراكم المياه على الأرض. وبحلول عام 2020، أنفقت المدينة 53.5 مليار يوان (8.3 مليار دولار) على مشاريع مثل تعزيز ضفاف الأنهار وبناء طرق منفذة للماء، لكن الكارثة الحالية تثير تساؤلات بشأن فعالية هذه المشاريع الباهظة الثمن.

• ضعف شبكة السدود: تعتمد الصين تاريخيًا على السدود والحواجز والخزانات للتحكم في تدفق المياه، وقالت وزارة إدارة الطوارئ الصينية إن نحو 30 مليار متر مكعب من مياه الفيضانات اعترضتها العام الماضي سدود وخزانات في نهر اليانجتسي، أطول أنهار آسيا، مما خفف من حدة الفيضانات في مناطق مثل شنغهاي، لكن الخطط الضخمة لإدارة المياه في البلاد غير قادرة على احتواء جميع الفيضانات ما أثار تساؤلات بشأن قدرة السدود التي تم بناؤها منذ عقود على التحمل. ومن المرجح أن يزداد العبء الواقع على سدود الصين لأن تغير المناخ يجعل ظواهر الطقس المتطرفة أكثر شيوعًا.

• قصور الاستعدادات الحكومية: أثارت أزمة الفيضانات انتقادات داخلية تتعلق بدرجة استعداد السلطات، ولا سيما التنبؤات الجوية غير الدقيقة ونظام الإنذار المربك للكوارث. وقد كشف أحد سكان تشنغتشو أن إدارة الأرصاد الجوية في خنان أصدرت الإنذار الأحمر قبل وقوع الكارثة لكن لا أحد يمكنه الوصول إليه من الإنترنت، أو لم ينتبهوا، لأن هناك الكثير من الإنذارات المصنفة على أنها رسائل غير مرغوب فيها، مشددًا على وجوب إرسال الإنذارات إلى الحكومة على جميع المستويات ثم إلى الأفراد.

ومع ذلك، تتجه الصين إلى زيادة مراقبة الفيضانات والإخلاء المبكر للتخفيف من التكلفة البشرية للفيضانات، وإلى جانب تكنولوجيا مراقبة الطقس التقليدية، تستخدم مدينة أنكينغ في مقاطعة آنهوي نظارات الواقع الافتراضي المرتبطة بكاميرات مراقبة الأنهار التي تستخدم الإنترنت 5G لنقل الصور إلى المفتشين.

ختامًا، تمثل أزمة الفيضانات الصينية جرس إنذار للعالم عامةً، والصين بشكل خاص، للأبعاد المختلفة لظاهرة التغيرات المناخية في ظل تدني مستويات الاستجابة المحلية الصينية، وعدم جديتها في تنفيذ التزاماتها بموجب الاتفاقيات الدولية كاتفاقية باريس للمناخ، فضلًا عن عدم فاعلية الاستراتيجيات الوطنية لمواجهة الطوارئ المناخية.

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى