أفريقياتركيا

تحدٍ مزدوج…الدور التركي وانعكاساته على أمن القرن الإفريقي والبحر الأحمر

أصبحت السياسات التركية في منطقة القرن الإفريقي مدفوعة بالتنافس الاستراتيجي مع القوى الإقليمية العربية تحديدًا، في تحول تدريجي لسياسات لم تكن محددة سلفًا. فبعدما استندت تركيا إلى نهج المساعدات الإنسانية والإغاثية وقوتها الناعمة كمدخل رئيس لسياساتها التي ساعدتها على بناء صورة ذهنية إيجابية مقارنة ببقية القوى المنافسة الأخرى في القارة، بدأت تدريجيًا في انتهاج سياسات صلبة، وكشفت عن نوايا استراتيجية بعيدة المدى؛ لا تتمثل فقط في تحقيق الأهداف الاقتصادية والتنموية وحلم التوسع لحزب العدالة والتنمية، وإنما كشفت عن اصطدام وإضرار بمصالح كل من الدول الإفريقية والعربية على السواء. مما أثار العديد من الشكوك والتساؤلات عن طبيعة التحركات وحقيقة الأغراض التركية في المنطقة، وانعكاسات ذلك على أمن القرن الإفريقي، وما يتصل به من الأمن العربي عمومًا وأمن البحر الأحمرعلى وجه التحديد.

القرن الإفريقي في الاستراتيجية التركية

يأتي القرن الإفريقي في إطار استراتيجية تركية أوسع إزاء القارة الإفريقية؛ ترتكز على التوسع والتمدد الاستراتيجي في دوائر تبتعد عن محيطها الجغرافي. وهنا جاءت إفريقيا التي ينظر إليها المسؤولون الأتراك بوصفها قارة الفرص والمستقبل. وعليه، صاغت تركيا أهدافها في وثيقة أو خطة عمل تبلور توجهها إزاء القارة عام 1998؛ تعرف باسم السياسة الإفريقية؛ استهدفت تدعيم الروابط الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية التركية مع الدول الإفريقية. وتُرجمت تلك الوثيقة في اهتمام حقيقي وسياسات مُتبعة؛  تزامنت مع وصول حزب العدالة والتنمية التركي، فأعلن عام 2005 عام إفريقيا.

وتحقيقًا لأغراضها؛ حظيت تركيا في قمة الاتحاد الإفريقي لعام 2005 بصفة مراقب، وعلى صفة حليف استراتيجي في قمة 2008، فضلًا عن قبول عضويتها بالعديد من المنظمات الإقليمية الإفريقية؛ كبنك التنمية الإفريقي والإيجاد. واستمرارًا في تعزيز التواصل؛ عقدت القمة التركية الإفريقية الأولى عام 2008، واستمرت في عقدها منذ ذلك الحين، مع استمرار تبادل التواصل على مستوى القيادات، والارتفاع التدريجي في حجم التمثيل الدبلوماسي بين الجانبين.

وفيما يتعلق بمنطقة القرن الإفريقي على وجه الخصوص؛ فإنها بجانب شمال إفريقيا تحظى بأهمية استثنائية عن سائر مناطق القارة ضمن الاستراتيجية التركية، نظرًا لوقوعهما ضمن مناطق النفوذ العثماني قديمًا (1536-1912)، والممتدة على ساحلي البحرين الأحمر والمتوسط، ما مكنها من مسارات التجارة قديمًا. وبالتالي، فإن الرغبة في العودة إلى الانتشار في القرن الإفريقي، هدف ضمن أهداف إعادة الانتشار والتمدد ضمن مناطق النفوذ العثماني القديم في الاستراتيجية التركية.

وتعبيرًا عن تلك الأهمية الاستثنائية، اعتبرت “وثيقة الاستراتيجية البحرية التركية” الصادرة عام 2014 أن كلًا من البحر الأحمر وخليج عدن هما الرابط الأساسي بين تركيا وشرق المتوسط والمحيط الهندي، وعليه أولت دول القرن الإفريقي المطلة على البحر الأحمر أهمية خاصة، وأكدت ضرورة تفعيل العلاقات العسكرية الثنائية مع هذه الدول، وذلك من خلال تبادل الزيارات مع القوات البحرية، فضلًا عن تعزيز دور الملحقين العسكريين في هذا المجال، وإقامة قاعدة عسكرية في الصومال عام 2017؛ ما يعكس أهدافًا تركية في الوجود بالقرب من الممرات البحرية، خاصة باب المندب، وضرورة تعزيز علاقتها التجارية والاقتصادية مع دول القرن الإفريقي.

أبعاد وملاح الدور التركي في القرن الإفريقي

ترجمة لتلك الأهمية التي يتمتع بها القرن الإفريقي في التصور التركي، جاءت كافة التحركات والأدوار التركية في المنطقة عاكسة لتلك الأهمية، ووظفت كافة أدواتها الناعمة والصلبة في خدمة أهدافها ومصالحها الاستراتيجة في المنطقة، والتي اتخذت أبعادًا وصورًا متعددة؛ بدءًا من المساعدات الإنسانية والتنموية، مروروًا بالعلاقات الاقتصادية والسياسية، وانتهاءًا بالعلاقات والمصالح الاستراتيجية والأمنية.

فعلى المستوى الإنساني، استندت تركيا إلى المساعدات كآلية لحضورها في المنطقة، مما قدّم صورة ذهنية جاذبة لها مقارنة بالقوى الغربية، وجعلها شريكًا مقبولًا لدى الوعي المجتمعي الإفريقي. وفي هذا المجال، لعبت وكالة التنمية والتعاون الدولي ” تيكا” دورًا هامًا، عبر تقديم المساعدات المختلفة، بما فيها المنح الدراسية، والتي كانت الصومال، عام 2011، المنعطف في هذا الصدد. هذا، بجانب وقف المعارف التركي، التابع لرئاسة الوزراء التركية، والبديل عن مؤسسة فتح الله جولن، الذي لعب دورًا مؤثرًا؛ عبر بناء المساجد، وممارسة الأدوار والأنشطة التعليمية والثقافية في عديد من الدول؛ بما يؤثر على البنية الثقافية للمجتمعات، على نحو ما أبرزته التجربة السودانية التي حصل فيها الوقف على موافقة برلمان البشير بإقامة المدارس التي تروج لأفكار حزب المؤتمر السوداني، وتعمل حاليًا على بثّ أفكار جماعة الإخوان الإرهابية في السودان، كنوع من الارتداد على الثورة، وإعادة إنتاج النظام القديم؛ الأمر الذي أفضى بدوره إلى أزمة المناهج الدراسية في السودان.

واستطاعت تركيا من خلال الترويج للصيغة التركية للتنمية –ما يسمى بإجماع أنقرة– اجتذاب انتباه العديد من الدول الإفريقية، الباحثة عن بديل للنموذج الصين والغرب، على نحو أظهره رئيس الوكالة بأن “تركيا تحظى بمحبة واهتمام كبير في القارة الإفريقية”. وتجلى الترحيب الإفريقي بالنموذج التركي، أيضًا، في تصريح الرئيس الصومالي السابق حسن شيخ محمود عام 2013 تشبيه الدور التركي بأنه “الطريقة التركية في فعل الأشياء”. وإجمالًا، أشار نائب رئيس الوزراء التركي، هاكان جاويش أوغلو، بأن إجمالي قيمة المساعدات التنموية الرسمية لبلاده تجاه إفريقيا ناهزت 3 مليارات دولار، في الأعوام العشرة الأخيرة. 

وفيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية والتجارية تعد تركيا من الشركاء التجاريين لدول القرن الإفريقي، لا سيما الصومال، التي انخرطت في أنشطة بناء الدولة فيها بقوة؛ عبر تطوير الموانئ والمطارات، والمدارس، ليصل الأمر في نهاية المطاف، بحصول تركيا على موافقة الحكومة الصومالية للتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية الصومالية، في يناير 2020، مما يثير الجدل، خاصة مع النزاع البحري بين الصومال وكينيا على تلك المنطقة.

ويأتي السودان، كثاني أهم دولة في القرن الإفريقي بعد الصومال، التي أبدت الحكومة التركية اهتمامًا ملحوظًا لتكثيف الاستثمار به، وانعكس في الحصول -ضمن اتفاقية بين أردوغان والبشير 2017- على تصريح لترميم جزيرة سواكن، ما أثار الشكوك حول احتمالية إقامة قاعدة عسكرية بها.

وإذا كان الحضور التركي على المستوى الثقافي في إثيوبيا لا يضاهي نشاطها في الصومال والسودان، فإنها تعد أهم شركاء إثيوبيا التجاريين، وبنشاط أقل في إريتريا. فيما تحظى جيبوتي بتنامي اهتمام تركيا بها، التي وقّعت معها اتفاقية، لإنشاء منطقة تجارة حرة، بمساحة 12 مليون متر مربع مع قدرة اقتصادية تبلغ تريليون دولار.

وبالنظر لتنامي العلاقات السياسية، فإنها لا تنفصل عن الأهداف الكلية في القارة، والمرتكزة على استعادة وتعميق العلاقات الدبلوماسية مع كافة بلدان القارة؛ بغية تأمين حلفاء استراتيجيين جدد، وضمان كتلة تصويتية في المنظمات الدولة، والأمر نفسه بالنسبة للدول الإفريقية التي ترى في تركيا فاعلًا يمكنه التحدث باسمها والتعبير عن قضاياها دوليًا. ويعد انضمامها كمراقب وشريك في معظم المنظمات الإقليمية الإفريقية، وتكثيف الزيارات الرسمية، والقنوات الدبلوماسية، دليلًا دامغًا على تطور العلاقات في هذا الصدد.

واتخذ الحضور السياسي والدبلوماسي صورًا وأبعادًا متعددة، تجسدت أبرزها في لعب تركيًا أدوارًا بارزة في كل من الصومال والسودان لتقديم الدعم لهما، واستضافة مؤتمرات المانحين، وتقديم المساعدات، إلى أن بدأ هذا الدور يأخذ طابعًا مزدوجًا، منذ العام 2014، مع قيام أردوغان بلعب دور مباشر في الحوار بين الحكومة الفيدرالية الصومالية ورؤساء الأقاليم، وتكثيف جهود إعادة بناء البلاد، في القطاع الأمني وبناء المؤسسات. وبالمثل، طوّر أردوغان علاقة خاصة مع البشير، تحديدًا منذ عام 2017، واستضافته أعقاب حكم المحكمة الجنائية الدولية ضده، وهو الأمر الذي أثار ارتياب بعض الدول من الدور التركي في السودان وفي مقدمتهم الولايات المتحدة. وكانت هذه هي بدايات اصطدام الدور السياسي التركي في إفريقيا بمصالح الدول الأخرى.

وفي إريتريا، لا ترتقي العلاقات بنفس قدر البلدين السابقين، فقد دشنت عام 2019 مكتبًا لرابطة مسلمي إريتريا، تحت مسمى رابطة علماء إريتريا، يقوم بإصدار تصريحات علنية معادية لكل من إريتريا وإثيوبيا. وعلى الرغم من عدم اتضاح العلاقة بينها وبين إثيوبيا، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة تنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، والمرجح لها أن تتنامى في الأبعاد السياسية والدبلوماسية في المدى المنظور لأسباب ودوافع متعددة، منها على الأقل الاجتماع على مواجهة مصر.

ولم تتجاهل تركيا أهمية الدولة الساحلية الصغيرة، جيبوتي، فطوّرت معها علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية، فضلًا عن اختراق مجال القوة الناعمة بها، مع اتخاذ قرار ببناء سد الصداقة أمبولي، ومسجد وكلية عبد الحميد الثاني، على هامش زيارة أردوغان للبلد عام 2015.

تحولات الدور وآفاقه

بدأ الدور التركي يأخذ طابعًا أمنيًا في المنطقة، وذلك بعد مرحلة تمكن فيه من خلق مصالح وتواجد استراتيجي، بات بحاجة إلى أدوار أمنية وعسكرية تحميه وتدعمه، في إطار استراتيجية أوسع للنفوذ الإقليمي. وبينما تشير التحليلات إلى تطور الدور التركي في المنطقة تدريجيًا بعامل الوقت، ولم يكن مخططًا أو معروفًا طبيعة أو حدود الدور وأهدافه بداية، فإنه يمكن اعتبار عام 2017 بداية التحول الفعلي في طبيعة الدور، مع بدء المواجهة مع دول الخليج، هذا فضلًا عن قطعها لأشواط كبيرة من أهدافها، وأنها أصبحت بحاجة إلى إعادة تعريف السياسة الخارجية وأهدافها على المدى البعيد.

وإذا كانت استراتيجية الوجود التركي حول الممرات البحرية مربوطة بمصالحها التجارية والاقتصادية، في إطار أهداف بناء القوة والنفوذ، فوفقًا لهذا الهدف، كان لتركيا دور في مكافحة القرصنة والإرهاب في منطقة البحر الأحمر، ففي يونيو عام 2014 قامت أربع سفن حربية تابعة للبحرية التركية وتنتمي لمجموعة العمل البحرية “بارباروس” التي تدعم عمليات مكافحة القرصنة بالبحر الأحمر وتسهم في الأمن البحري بالمحيط الهندي، بزيارة إلى موانئ 24 دولة إفريقية كان آخرها دولة السودان.

إلا أن هذا الدور وتلك الأهداف تحوّلت مع تحوّل الدور وتصاعد المنافسة بينها وبين الدول العربية، وانتقالها لساحة جديدة. وعليه، أطلقت أكبر قاعدة عسكرية لها بالخارج في مقديشيو عام 2017؛ تضم ثلاث مدارس عسكرية، وأكبر معسكر تدريبي، سيتولي خلاله ضباط أتراك مهمة تدريب عشرة آلاف جندي صومالي، وفقًا لما أعلن عنه رئيس أركان الجيش التركي، خلوصي آكار.

وبخلاف النوايا الحسنة المعلنة، عن معاونة الحكومة الصومالية في مكافحة الإرهاب، كشفت التحركات التركية التورط الخبيث لها مع حركة الشباب الصومالية، في ذات الوقت الذي تدعم فيه الحكومة الصومالية، التي باتت تناوئ مصالح الدول العربية في العديد من المناسبات، هذا فضلًا عن انعكاسات الدور الخبيث على الدولة الصومالية نفسها.

حفّز هذا الوضع حالة التنافس الإقليمي، ما ترك الدول الإفريقية عرضة لمزيد من الانقسام بين مصالح دول إقليمية متعارضة. فبينما تدعم تركيا وقطر الحكومة الفيدرالية بالصومال، قامت الإمارات بإنشاء قاعدة عسكرية لها بأرض الصومال. والأمر نفسه بالنسبة للسودان، التي تدعم تركيا الآن الإخوان ونظام الإنقاذ المناوئ للتغيير، في الوقت الذي باركت فيه دول الخليج التغيير السوداني، وخصصت نحو 3 مليار جنيه للمرحلة الانتقالية. وبالتالي، فإن الدول الإفريقية الهشة أمام التدخلات الخارجية، أصبحت أكثر هشاشة أمام التدخلات الإقليمية المتنافسة، التي فاقمها التدخل التركي. أضف إلى ذلك تغريد الصومال خارج السرب العربي، في مناسبات كثيرة، في جامعة الدول العربية. وهو الأمر الذي يتطلب الآن ضرورة إسراع الدول العربية في التكاتف مرة أخرى من أجل دعم الدولة الصومالية.

وفي الوقت الذي تعزز فيه تركيا حضورها بالقرن الإفريقي، فإنها حاضرة أيضًا في اليمن، في المدن القريبة من باب المندب والبحر الأحمر، من خلال دعم حزب الإصلاح الإخواني. وإذا كان هذا الحضور محدودًا، إلا إن وجودها يفاقم حالات عدم الاستقرار المتجذرة بالفعل في المنطقة، ويكشف في الوقت ذاته عن مصالح تركية متنامية بالبحر الأحمر، وتصاعد تهديد الأمن الإقليمي به.

وهو الأمر الذي من شأنه تعقيد معادلة الأمن الإقليمي في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، وكذا الخليج العربي. ولعل هذا ما يبرر تنامي الحضور الخليجي في المنطقة، عبر الاستثمارات والقواعد العسكرية، إلا أنه يواجه في المقابل بمزيد من الحضور التركي في المنطقة، الذي أصبحت مواجهة الدول الخليجية هدفًا أساسيًا له.ختامًا: في محاولة لتخفيف التوترات في القرن الأفريقي وتعزيز الاستقرار، تم إطلاق منتدى البحر الأحمر بقيادة السعودية، وبمشاركة مصر والدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر، إضافة إلى إقامة مصر لقاعدة برنيس البحرية في الجنوب المطل على البحر الأحمر، إلا إن كافة هذه التحركات بحاجة لمزيد من الجهد والتضامن العربي من أجل إنجاح صيغ تعاون لإرساء الأمن في المنطقة، ومواجهة كافة الأدوار والتدخلات، التي باتت تهدد الأمن العربي والإفريقي. هذا فضلًا عن ضرورة إقران التدخلات والصيغ الأمنية بصيغ تنموية، وضرورة أن يكون هناك مزيد من الحضور المصري في دول القرن الإفريقي على المستوى السياسي والاقتصادي والتنموي.

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى