دائرة الردع الشمالية: ماذا ستضيف قاعدة 3 يوليو للاستراتيجية العسكرية المصرية؟
“وانطلاقًا من مسؤوليتنا تجاه تعزيز القوة الشاملة للدولة، وتعظيم القدرات المصرية في كافة المجالات والقطاعات، وفي مقدمتها القوات المسلحة ودورها في حماية مقدرات الدولة، واستكمالًا لمسيرة تعزيز ركائز الأمن القومي المصري على كافة الاتجاهات الاستراتيجية، ومتوكلًا على الله سبحانه وتعالي.. نعلن نحن عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية، افتتاح قاعدة 3 يوليو بمنطقة جرجوب”.
على هذه الكلمات، وقع الرئيس عبد الفتاح السيسي، ظهر اليوم، على وثيقة افتتاح قاعدة 3 يوليو البحرية، وذلك قبل أن يشهد والحضور؛ بدء مناورة “قادر 2021″، وبعد تفقده قطع السطح البحرية المرابطة على الرصيف البحري للقاعدة. لتبرز تساؤلات عن مدي الإضافة التي تشكلها القاعدة البحرية الجديدة للاستراتيجية العسكرية المصرية ومجمل القدرات الدفاعية والهجومية للبلاد، وما مدي ارتباطها بالقواعد العسكرية الأخرى التي جري افتتاحها خلال العام الماضي تحديدًا، هل جاء تدشينها بصورة عشوائية، أم أن هناك فلسفة ما وراء تدشين البني التحتية العسكرية المصرية؟ بيد أن الإجابة على هذه التساؤلات تطلب أولًا الوقوف على جملة من التغيُرات الديناميكية التي طالت الأفرع القتالية للجيش المصري على المستوي التخطيطي والعملياتي.
التغيُر الأبرز: امتلاك قدرة النقل التعبوي الاستراتيجي للقوات خارج الحدود الدولية
على نار هادئة، كانت تجرى الصفقات التسليحية للجيش المصري منذ العام 2014. إذ ركزت جهود القيادة السياسية والعسكرية على وضع أولويات التحرك لإجراء أكبر عملية تحديث شامل في تاريخ القوات المسلحة المصرية منذ تدشين الجمهورية الأولي 23 يوليو 1952.
وجاءت الأولويات، لتضع تحديث سلاحي الجو والبحرية في صدارة مشهد التحديث، على الرغم من اشتمال كافة الأفرع الميدانية ضمن عملية التحديث الشامل. وكان الهدف الأساسي لعمليات تحديث سلاحي الجو والبحرية هو إحداث “النقلة النوعية” بما يُحدث تغييرًا ثوريًا على الصعيد التخطيطي والعملياتي للجيش المصري الذي يستند إلى عقيدة قتالية راسخة من أبرز ركائزها التكتيكية “الدفاع الهجومي” نظرًا لعدم نزوع الجيش المصري لمبادرة الاعتداء في المنطقة.
إلا أن الظروف والسياقات الميدانية التي دارت رحاها حول المجال الاستراتيجي المصري من سوريا شمالًا لليبيا غربًا، للبحر الأحمر ومضيق باب المندب ومنطقة القرن الأفريقي جنوبًا؛ فرضت على الجيش المصري حتمية امتلاكه لأدوات هجومية تعزز قدرات الردع لديه، وتنتقل به من الدفاع الهجومي، للهجوم الدفاعي لصون مقدرات الأمة المصرية إن اقتضي الأمر.
وعلى هذه التراتبية السببية، تحولت النار الهادئة التي ضبطت إيقاع تحديث الجيش المصري؛ إلى لهيب. وذلك نتيجة استقدام الجيش المصري لحاملتي المروحيات وسفينتي الإنزال والهجوم البرمائي “الميسترال”. إذ مثلتا وبحق نقطة تغيير لقدرات الجيش المصري على الصعيد التخطيطي والعملياتي، حيث أكسبتا “الميسترال” الجيش المصري قدرة النقل التعبوي الاستراتيجي خارج الحدود الدولية لقدراتهما التعبوية على حمل 900 فرد مقاتل –لكل حاملة– بكامل تجهيزات الإعاشة والقتال، فضلًا عن استيعاب تشكيل مدرع يصل لـ 70 مركبة مدرعة أو 40 دبابة إبرامز. أو تشكيل هجين من 13 دبابة أبرامز + 58 مركبة مدرعة. وتسمح حظيرة المروحيات بحمل نحو 35 مركبة مدرعة بوزن 13 طنًا لكل منها.
وبجانب القدرة التعبوية للميسترال، تبرز محوريتها أكثر إذا ما تم الأخذ في الحسبان قدراتها المتقدمة في القيادة والسيطرة وإدارة معركة الأسلحة المشتركة، وامتلاكها لوصلات بيانات وأنظمة الاتصالات التي تتضمن أنظمة اتصال مع الأقمار الصناعية، وعليه نقلت “الميسترال” البحرية المصرية من مستوى “بحرية تأمين سواحل” لـ “بحرية زرقاء” قادرة على ارتياد أعالي البحار، الأمر الذي رفع من القيمة الاستراتيجية لهذه القطع البحرية العملاقة، وحولها إلى أهداف عالية القيمة في عرض البحر، ما تطلب توفير دائرة تأمين بحرية وجوية لهذه القطع، وعليه شُكِلت مجموعتان قتاليتان لمرافقة كل حاملة على حدة، وشهد الجيش المصري تدشين أسطولين بحريين، الأول في مسرح عمليات البحر المتوسط، والثاني يعمل بمسرح عمليات البحر الأحمر وبمدى عملياتي يغطي المساحة الممتدة من ميناء بورسعيد شمالًا إلى باب المندب. جنوبًا.
وتباعًا عززت القيادة العسكرية قدرات الأساطيل المصرية الناشئة بمزيج منسجم من الطيران المروحي القتالي (الكاموف + الأباتشي + ميل مي 35 + مي24)، وقطع السطح والأعماق (الفرقاطات فريم الفرنسية + بيرجاميني الإيطالية + كورفيتات الجويند + لانشات الصواريخ الهجومية الثقيلة إمباسيدور + غواصات التايب 209 الهجومية). ما فرض دائرة تأمين حول “الميسترال” لا يقل نصف قطرها عن 300 كم. ما أكسب الجيش المصري قدرة أخري معززة لعمليات الاقتحام والإنزال البرمائي لتشكيلات من المشاة الميكانيكي المدرع.
علاقة طردية بين تطور القدرات القتالية والبني التحتية العسكرية
في سياق العرض السابق، تحتم على الجيش المصري تطوير البني التحتية العسكرية داخل حدود الدولة، لاستيعاب التطور الكبير الكمي والكيفي للقدرات القتالية. إذ بدأت القيادة المصرية في تدشين سلسلة متصلة من القواعد العسكرية البرية – البحرية – الجوية المشتركة، لتفعيل الكفاءة التشغيلية القصوى لقطع السلاح الجديدة، ما يُمكّن القيادة المصرية من الاستجابة الاستباقية لجملة من التحديات والتهديدات التي تمس دوائر الأمن القومي.
فقد دشنت القيادة المصرية، في الفترة الممتدة من العام الماضي حتى الآن حوالي 3 قواعد بحرية (قاعدة شرق بورسعيد “بحرية” + قاعدة برنيس “جو/بحرية” + قاعدة 3 يوليو جو/بحرية)، مع الأخذ في الاعتبار قاعدة محمد نجيب البرية، أكبر قاعدة عسكرية في الشرق الأوسط، التي يتمركز بها فوج لنقل الدبابات يشتمل على نحو (451) ناقلة حديثة لنقل الدبابات الثقيلة من منطقة العامرية، كذلك إعادة تمركز مزيج من أسلحة مختلفة تضم مدرعات ومدفعية ثقيلة وتشكيلات لقوات التدخل السريع وعدد من المروحيات القتالية والمخصصة لأغراض النقل.
الضيف الجديد.. قاعدة 3 يوليو البحرية
تقع في منطقة جرجوب، على مقربة من الحدود الليبية، وتطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وتقع القاعدة على مساحة تزيد على 10 ملايين متر مربع بموقع جغرافي يتوافق مع كود القواعد البحرية العالمية –أي أكبر من قاعدة برنيس بـ 4 مرات-. وتعد نقطة انطلاق هي الأكثر قربًا لمواجهة أي مخاطر على امتداد البحر المتوسط. وتختص بتأمين البلاد في الاتجاه الاستراتيجي الشمالي والغربي وحماية المقدرات الاقتصادية في البحر المتوسط. وتوفر ميزة تأمين خطوط النقل البحرية والمحافظة على الأمن البحري باستخدام المجموعات القتالية من الوحدات السطحية والغواصات والمجهود الجوي.
ولدي القاعدة 74 منشأة بالإضافة إلى مهبط طائرات ورصيف حربي بطول 1000 متر، ومهبط للطائرات، وحاجزين للأمواج بطول 3650 متر. وتجمع القاعدة أكبر مجمع للوحدات البحرية وبها أكثر من 70 وحدة بحرية و47 قطعة بحرية متنوعة.
ما القيمة الاستراتيجية المضافة لقاعدة 3 يوليو البحرية
لا تكتمل النظرة الكلية لما ستضيفه قاعدة 3 يوليو إلا إذا ما تم ربطها بقاعدة محمد نجيب البرية، التي تقع على مقربها منها، فوجودهما سويًا يحقق الآتي:
- تكوين حائط صد منيع في الاتجاه الاستراتيجي الغربي: وجود قاعدة محمد نجيب البرية محصلة ما يقذفه الميدان الليبي “عسكريا” من تفاعلات بين الفواعل الإقليمية والدولية المتصارعة هناك، إذ تعد القاعدة بمثابة قلعة في الصحراء توفر للدولة المصرية ميزة الاستجابة بقوات سريعة –ثقيلة الحركة لمختلف التهديدات “النظامية– اللا متماثلة”- وهذا ما أظهرته سلسلة مناورات رعد في الاتجاه الاستراتيجي الغربي. وتعد قاعدة 3 يوليو منفذًا لقاعدة محمد نجيب على البحر، ليكتمل ما يشبه حزام أمني يتيح لمصر التحرك على المسرح البري والبحري في إطار تكاملي.
- تعزيز القدرات المصرية لخوض معركة الأسلحة المشتركة Combined Arms: يمكن تعريف معركة الأسلحة المشتركة بأنها المعركة التي تتطلب تنسيقًا أو تناوبًا بين سلاح “الجو – البحرية – القوات البرية – الدفاع الجوي” على استهداف “هدف” محدد لدى العدو. ما يعني أن للجيش المصري ذراعين للضرب وليست ذراع واحدة. وأنه يمكن لسلاح الطيران الحربي المساندة والمساعدة في تنفيذ العمليات البحرية، والقطع البحرية يمكنها مساندة القوات البرية في مسرح “ساحلي”. ويتضح ذلك من التشكيلات البرية والجوية والبحرية التي تقع في المنطقة التي تضم القاعدتين “3 يوليو + محمد نجيب”.
- توسيع المدي العملياتي للأسطول الشمالي: إذ اعتمد الاسطول الشمالي على نقطتين رئيسيتين لحصوله على الخدمات اللوجيستية “بورسعيد + الإسكندرية”، بيد أن وجود نقطة ثالثة على البحر المتوسط “قاعدة 3 يوليو”، وتقترب من الحدود الليبية؛ سيمنح الأسطول الشمالي ومجموعته القتالية المرافقة للميسترال “السادات”، مدىً عملياتيًا أوسع يغطي كامل السواحل الليبية من أول نقطة في الشرق لأخر نقطة في الغرب.
- صقل خطوط مصر الحمراء بمزيد من الأذرع الطولي: مر عام على إعلان القاهرة خط سرت الجفرة، بمثابة خط أحمر، وقد أخذت الفواعل الإقليمية المناوئة لعملية التسوية الشاملة في ليبيا، الإعلان المصري على محمل الجد، نظرًا لتقديراتها الاستخباراتية عن قدرة الجيش المصري نظريًا وعمليًا على التدخل وفق ما حددته القيادة السياسية. وبمزيد من تدشين القواعد العسكرية بالقرب من المناطق الحدودية يُتاح للجيش المصري مزايا لوجيستية تضيف لقوته الشاملة.
ما القاسم المشترك بين القواعد العسكرية الجديدة؟
إذا ما نظرنا إلى القواسم المشتركة بين القواعد العسكرية الجديدة التي جري تدشينها، منذ العام 2017، سنجد الآتي:
- قدرة تنفيذ إجراءات الفتح الاستراتيجي: حيث تمتلك القواعد الجديدة قدرة تنفيذ عمليات نقل القوات “الخفيفة/ الثقيلة” من وحداتها ونقاط التمركز إلى اتجاهات مختلفة في وقت متزامن.
- من المركز للأطراف: يُلاحظ لجوء القيادة المصرية لتدشين القواعد الجديدة على أطراف الجغرافيا المصرية “قاعدتي برنيس + 3 يوليو”، ما يعكس الرغبة المصرية في الاستفادة القصوى من المدي العملياتي للقطع العسكرية الجديدة، وإضافة 1000 كم لمديات هذه القطع وفق ميزة الانتقال لأطراف الجغرافيا المصرية. ليصبح لدى الجيش المصري قدرة على معالجة التهديدات في منطقة تبدأ من شرق المتوسط شمالًا وصولًا للقرن الأفريقي جنوبًا، وكامل الجغرافيا الليبية غربًا.
خاتمة: تذهب الفلسفة العسكرية المصرية في تحديث قواتها المسلحة إلى نمط مغاير في التفكير على المستوي الاستراتيجي والتكتيكي قياسًا بالعقود الماضية. إذ برهنت الفلسفة الجديدة على دراية المُخطط العسكري بمزايا الجغرافيا المصرية وأطرافها النائية، لتدير القيادة السياسية معركة الاشتباك مع الفواعل الإقليمية المناوئة للدور المصري في المنطقة على اعتبارات الجغرافيا السياسية، ما جعل حجم الاستفادة من المنظومات التسليحية الجديدة بالجيش المصري يتعدى مواصفاتها الفنية البحتة. على أن تتولي القواعد العسكرية الجديدة مهمة رئيسية في تحقيق الكفاءة التشغيلية القصوى من هذه المنظومات، وهو ما برهنت عليه مناورة قادر 2021 في قاعدة 3 يوليو اليوم.