
عندما تتحول الدراما إلى واقع: ”فلاديمير زيلينسكي” بين الممثل ورئيس الدولة
بدأ حياته في مسيرة مهنية فنية مُدهشة، تمزج ما بين كتابة السيناريو والتمثيل وأداء الرقصات وصولًا إلى الإنتاج. بحيث كان كل شيء بالنسبة للرئيس الأوكراني الحالي فلاديمير ألكسندروفيتش زيلينسكي يبدو مثل مشهد سينمائي مُحكم الإتقان، لا ينقصه شيء، بدءًا من إعداد كلمات السيناريو، وصولًا إلى الإضاءة والإعداد الصوتي وما إلى آخره.
بهذه الطريقة، أطل علينا الرئيس الأوكراني الشاب في 2019 من داخل قاعة البرلمان الأوكراني حيث أدى اليمين الدستورية، وجعل يردد كلمات القسم، ويديه تُلامس الكتاب المُقدس بشكل خاص لدى الشعب الأوكراني لما يحتوي عليه من نصوصهم الدستورية، وكتاب آخر إلى جانبه يمثل بطبيعة الحال أهمية قصوى لدى عموم الشعوب المسيحية، وهذا بالطبع كان الإنجيل. وبوجه عام، بدا المشهد العام برمته مثاليًا، عدا أن الشيء الوحيد الذي كان يُثير الشعور بالغرابة يتمثل في سؤال حول إلى أي مدى قد يلتزم رئيس يهودي بالقسم الذي يؤديه على الكتاب المقدس المسيحي؟!
وبطبيعة الحال، لم يكن ذلك هو التساؤل الوحيد الذي قد يتراءى أمام أنظار مُتابعي السياسة الأوكرانية بوجه خاص، والسياسة الدولية بوجه عام، لكن يوجد هناك في حقيقة الأمر عدد من التساؤلات الأخرى التي يتحتم معها التوقف عند عدد من المحطات المُلفتة في مسيرة هذا الشاب، سواء السياسية منها أو الفنية. من ضمنها أسئلة حول كيف تؤثر وتتأثر شخصية زيلينسكي الفنان بالرئيس؟ وهل يوجد هناك أي تداخل فيما بينهم؟ وما هي العوامل النفسية التي قد تكون أدت إلى اتجاه الفنان الشاب نحو عالم السياسة والابتعاد عن الفن الذي قضى حياته فيه؟
السيرة الذاتية لـ “فلاديمير زيلينسكي”
وُلد “فلاديمير ألكسندروفيتش زيلينسكي”، في 25 يناير 1978، في مدينة “كريفوي روج” داخل جمهورية أوكرانيا لدى الاتحاد السوفيتي الاشتراكي السابق، لأم وأب يهوديان. وكسائر أفراد الشعب الأوكراني، يُجيد زيلينسكي الأوكرانية والروسية. وينحدر من نسل سلالة تعرض عدد من أفرادها للفتك في الهولوكست؛ إذ خدم جده، “سيميون إيفانوفيتش زيلينسكي”، في الجيش الأحمر خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد أن قُتل والد جده وإخوته الثلاثة في الهولوكست.
تخرج في معهد “كريفي ريه” الاقتصادي، التابع لجامعة كييف الاقتصادية الوطنية في عام 2000، حيث حصل على شهادة البكالوريوس في القانون، إلا أنه لم يمارس العمل في صميم تخصصه إلا على مدار شهرين فقط. وعلى الرغم من أن المشهد العام يعكس كيف قام زيلينسكي بعمل تغيير محوري بتركه العمل في القانون واتجاهه نحو المجال الفني بعد تخرجه مباشرة، إلا أن الحقيقة تبدو كالعكس، إذ إن ميوله منذ الصبا كانت فنية بالأساس، ودراسة القانون كانت هي الدخيلة على هذه الميول. ومنذ أيام دراسته في المدرسة الثانوية، كان زيلنيسكي منهمكًا في الانضمام لأنشطة فنية مثل تمثيل أعمال مسرحية والعزف على الجيتار وغيرها.
ولقد تنوعت أنشطته ووظائفه خلال الفترة ما بين 1997-2019، ما بين ممثل، وكاتب سيناريو، ومدير فني لفرقة غنائية، ومدير فني لدى شركة استوديوهات. ولا يملك أي نشاط اجتماعي أو أهلي حقيقي سوى تأسيس منظمة غير حكومية لحث الشباب على الانخراط في النشاط الترفيهي، ولم يكن يشغل كذلك، من قبل أي مناصب انتخابية. وشارك في تمثيل 10 أفلام روائية طويلة خلال مسيرته الإبداعية، وحاز على أكثر من 30 جائزة من التليفزيون الوطني الأوكراني، وحصل على جوائز أخرى متعددة من المهرجانات السينمائية والتليفزيونية والمنتديات الإعلامية الدولية، وذلك وفقًا لما ورد على الموقع الرسمي للرئاسة الأوكرانية من معلومات حول مسيرته المهنية قبل أن يشغل منصب الرئاسة.
نقطة التحول: “خادم الشعب” ما بين المُسلسل والحزب السياسي
في نوفمبر 2015، صدر الموسم الأول من مسلسل “خادم الشعب”، باللغة الروسية. وتدور حبكة المسلسل حول شخصية البطل الذي يقوم زيلينسكي بأداء دوره، وهو مدرس تاريخ يُدعى “فاسيلي بتروفيتش جولوبورودوكو”، وتستمر الأحداث فيفقد المُدرس أعصابه بفعل الضغوط الاجتماعية ووحشية ظروف الحياة، ويجلس ويخبر أحد زملائه بما يدور في صدره من غضب إزاء هذه الضغوط التي تعصف بالبلاد. وفي هذه الأثناء يقوم أحد الطلاب بتصويره ونشر المقطع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الذي يحصل بدوره على نسب مشاهدة عالية وصلت إلى ملايين. وعند هذا المنعطف، ينطلق مُدرس التاريخ من موقفه بصفته مُجرد مُدرس، إلى موقف آخر يحصل من خلاله على شعبية جماهيرية عريضة، ثم ينزل بعد ذلك عند رغبة الجماهير الذين جمعوا له مبلغًا ماليًا يكفي لتسجيل ترشحه لانتخابات الرئاسة، وبعد ذلك تسير الأحداث.
وبتاريخ 2 ديسمبر 2017، تم إعادة تسمية الحزب السياسي الأوكراني المعروف بـ”حزب التغيير الحاسم”، بـ”حزب خادم الشعب”، تيمنًا باسم المسلسل التليفزيوني الشهير بأجزائه الثلاثة والذي حقق رواجًا كبيرًا بين المُتابعين. وكان الحزب قبل تغيير اسمه يمضي تحت رئاسة سياسي يُدعى “يفجين يورديها”، ومنذ لحظة تغيير اسمه أصبح يترأسه آخر يُدعى “جون باكانوف”، والذي كان يشغل أيضًا منصب رئيس الاستوديو الفني الفكاهي الأوكراني الذي يُدعى “كوارتر”، وهو أحد الاستوديوهات التي عمل بها زيلينسكي نفسه من قبل.
هل أثر المُسلسل التليفزيوني على مسار الانتخابات الرئاسية لصالح زيلينسكي؟
لم يكن “زيلينسكي”، هو السياسي الأول في العالم الذي يتجه من الفن إلى السياسة. فقد سبقه إلى هذا المسار كثيرون، من ضمنهم؛ “ميشيل مارتي” الذي اشتهر كموسيقي خلال ثمانينات القرن الماضي تحت الاسم المستعار “سويت ميكي”، ثم قاد بعد ذلك دولة هاييتي. كما لنا في وجه الرئيس الأمريكي السابق، “دونالد ترامب” المثال الأشهر على الرؤساء الذين عملوا في الفن ثم اتجهوا بعد ذلك نحو السياسة. حيث ظهر ترامب في عدد من العروض والأفلام، وكان وجهه مألوفًا لكل الأمريكيين الذين شهدوا السبعينيات من القرن الماضي. ومع ذلك، لوحظ أن الشيء المشترك بين كل الرؤساء اللذين اتجهوا إلى السياسة بعد الفن هو أن انشغالهم بالفن لم يكن هو العامل المحوري في نجاحهم كسياسيين، أو بمعنى آخر أن الجانب الفني من شخصياتهم لم يترك بصماته على مسيرتهم السياسية فيما بعد.
لكن في حالة “زيلينسكي”، لم يكن الفن في منأى عن فوزه. فقد لعب مسلسل “خادم الشعب” الذي تحول بعد ذلك إلى اسم الحزب السياسي الذي ينتمي إليه الرئيس دورًا محوريًا من بين العوامل المؤدية لتولي زيلينكسي الرئاسة، وإن لم يكن هو صاحب الدور الأول والأخير في دفعه نحو هذا المنصب. فقد استخدم “زيلينسكي” خلال دعايته الانتخابية أثناء الجولة الأولى من الانتخابات صورًا للشخصية التي قام بأدائها في المسلسل على اللافتات الدعائية، وظهر في كل أرجاء البلاد في صورة الرئيس الذي ينبثق من الشعب ويستقل دراجة عادية في تحركاته، وهو ما كان عليه الوضع بالفعل خلال المسلسل، وكأنه يبعث رسالة للناخبين مفادها أن شخصية مُدرس التاريخ البسيط التي ظهرت في المسلسل هي ذاتها “نفسه” في الحقيقة. بينما كان “زيلينسكي” الفنان في هذه الأثناء يستقل سيارة “لاند روفر” في الحياة الواقعية، وتلك الحقيقة التي لم تتداولها اللافتات الدعائية.
وعلى ذات المنوال، لاقى هذا النوع من الدعاية التي تستند في الأساس إلى المسلسل التليفزيوني رواجًا، فقد صوتت له نسبة لا يُستهان بها من الأوكرانيين، بفعل تأثرهم بأدائه في المسلسل. علاوة على أن صناع المسلسل عكفوا على صناعة موسم جديد من المسلسل وعرضه قبيل موعد الانتخابات تمامًا، بحيث أصبح المسلسل جزءًا لا يتجزأ من الدعاية الانتخابية. وترتب على ذلك، أن نجح “زيلينسكي” وتولى منصب الرئيس الأوكراني في مايو 2019 وهو في الواحد والأربعين من عمره مما يضعه في مصاف الرؤساء الشباب.
هناك عنصر آخر، لعب دورًا مهمًا في نجاحه، وهذا العنصر لا علاقة له بالمسلسل الناجح، لكنه كذلك ليس بعيدًا عن الفن؛ فقد كان “زيلينسكي”، في فترة من فترات حياته أحد العاملين في فريق “كفارتال” الفني، وهي فرقة فنية لطالما أمضت الكثير من الأوقات في السخرية من السياسيين. ولسببٍ ما، رسخت سخرية “زيلينسكي” السابقة من سياسيي بلاده لصورته عند الجمهور بصفته رجل يفهم بشكل جيد كيف من المفترض أن يؤدي السياسي الحقيقي في مهنته. وبهذه الطريقة نتفهم كيف تنظر الجماهير إلى الساخرين بوصفهم أناس يمتلكون صورة أوضح عن حقيقة ما يجري من أحداث بشكل أفضل من الشخصيات التي تتعرض للهجوم.
من منظور نفسي: هل يوجد ثمة تداخل بين شخصيتي “الرئيس” و”الفنان”؟
في عهود سابقة، كانت بعض البلدان تمنع الممثلين من الإدلاء بشهاداتهم أمام القضاء! والسبب في ذلك هو أنه لا يمكن للمشاهدين التفرقة بين اللحظة التي يؤدي فيها الممثل مشهدًا تمثيليًا وبين اللحظة التي يعايش بها الشخص ذاته مشاعر حقيقية ينجم عنها قوله الحقيقة. بحيث يعيش الممثلون حياة مختلفة مع كل شخصية جديدة يؤدونها.
وعند هذه النقطة يوجد عدد من التساؤلات التي تطرح نفسها حول هل من المحتمل أن يندمج الممثل مع الشخصية التي يؤديها إلى حد التلبس الذي تذوب عنده حدود هوية كل شخص مع الآخر في عقل الممثل؟ هل يؤثر إتقان الفنان للدور الذي يؤديه على حقيقة إدراكه لذاته وواقعه؟ وكيف يتعامل العقل مع جسد تتغير هويته مع كل عمل تمثيلي جديد؟ وهل من المحتمل أن تدفعهم تلك التحولات الدائمة إلى الذبول أو الجنون أو الإمعان في تقمص شخصية أخرى للأبد؟
في دراسة نشرها موقع “ريسيرش كتالوج”، أفادت أن الممثلين يشعرون بما تشعر به الشخصية المتقمصة، وأن استجاباتهم العاطفية للمشاهد المختلفة عادة ما تكون حقيقية. وقد أثبتت الدكتورة “سوزانا بلوخ” وهي طبيبة أعصاب تشيلية، إن الإنسان إذا عكف على تجسيد مظهر خارجي لحالة عاطفية معينة، فإنه سوف يبدأ بدوره في الحقيقة بالشعور بهذه المشاعر التي كان يقصد بها التمثيل؛ إذ إن تطوير المشاعر في الأداء مع إمكانية الوصول الفوري إلى الحالة الأساسية للممثل يكون صعبًا في هذه اللحظات.
وفي دراسة أخرى أجرتها جامعة سيدني الأسترالية عام 2015، وجدت أن الممثلين أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب المرضي بضعف نسبة احتمالية إصابة باقي البشر. وأشارت ذات الدراسة إلى أن الممثلين الذين شاركوا بها قالوا إنهم عادة ما يضطرون إلى اللجوء لتناول كميات كبيرة من المشروبات الكحولية كطريقة لكسر حدة التوتر الذي يعانونه أثناء أداء أدوارهم، أو بعدها كطريقة للخروج من الدور والعودة إلى ذواتهم الحقيقية.
أمثلة كثيرة تُبرهن كذلك على حقيقة التداخل بين الشخصيات التي يعكف الممثلون على أدائها وشخصياتهم الحقيقية، تظهر بوضوح في ظرف مثل تجول الفنان “شايا لوبوف”، وهو أحد الفنانين المشاركين في الفيلم الأمريكي “ترانسفورمز”، والذي تجول مُرتديًا كيسًا ورقيًا على رأسه، مكتوب عليه “أنا لم أعد مشهورًا”، وهو الفعل الذي حدث وسط سلسلة أخرى من التصرفات الغريبة لذات الفنان والتي وصفها أطباء نفس بأنها من تأثيرات مشاركاته الفنية السابقة.
مثال آخر على ذلك، هو الرحيل المبكر للفنان الأمريكي “هيث ليدجر” عن عمر لا يزيد عن الثلاثين عامًا، بعد تناوله جرعة كبيرة من المسكنات ومضادات الأرق، بفعل إصابته بالاكتئاب. وكان معروفًا أن “ليدرج” قد عانى أيضًا من الخلط بين شخصيته التمثيلية وشخصيته الحقيقية طوال مشواره الفني في هوليوود.
إذًا، نخلص من كل ما سبق إلى إجابة مفادها، “نعم بالتأكيد”، في الرد على سؤال حول هل يمكن إذًا أن يؤدي تقمص الفنان لأدواره إلى حدوث اضطراب في هويته الشخصية؟ وهل تختلط المشاعر والأفكار والسلوكيات الشخصية حينها مع تلك المستوحاة من دور تمثيلي محدد؟
نعود الآن لمُعاينة ذات التأثيرات السالفة الذكر على حالة الدراسة التي تسلط الضوء على أبعاد شخصية زيلينكسي الرئيس والفنان. وفي مطالعة هذا الأمر، لن نجد أن “زيلنكسي” اعتمد في حملته الانتخابية على صور مأخوذة عن مسلسله الشهير فحسب، بل نجد كذلك أن عمله في مجالات الفن من حيث التمثيل وكتابة السيناريو وكل أفرع المجال قد ترك أثرًا غائرًا على مسيرته السياسية الجارية.
نرى مثالًا دامغًا على ذلك عبر متابعة أدائه في خطاب تهنئة الشعب الأوكراني بمناسبة حلول العام الميلادي 2021 الجديد، فقد احتوى الخطاب على أداء حركي يختلط بأداء تمثيلي مُبهر، لا يختلف أبدًا عن نفس الأداء الذي أفرزه زيلينسكي أثناء متابعة مشاهد شبيهة من مسلسل “خادم الشعب“، وهي نفس المشاهد التي بدت واضحة أثناء أدائه لليمين الدستورية في العالم الحقيقي.
وكذا الحال بالنسبة لمتابعة أدائه أثناء الظهور في عدد من المرات والمقارنة بينهم فيما بين لقطات من المسلسل ولقطات من ممارسة السياسة في الحياة الواقعية، نجد أن شخصية “زيلينسكي” الرئيس لم تنفصم أبدًا عن شخصية “زيلينسكي” الفنان، بل والأكثر من ذلك أنه ربما بالفعل يتضح أن اقتناع زيلنسكي الفنان وتقمصه التام للشخصية أثناء العمل الدرامي ورؤيته للقطات من التحية الجماهيرية، التي كان يتلقاها أثناء أدائه للدور الفني، هي نفسها الدافع الحقيقي وراء رغبته الانسياق تماما وراء الدور وتكملة المسار سعيًا وراء الرئاسة في العالم الحقيقي.
لكن نعود لنتساءل مرة أخرى، حول هل من الممكن لإنسان كان شغفه الأساسي في الحياة منذ لحظات حياته المبكرة قبل حتى البدء في مشوار حياته العملية هو الفن وكل ما يتصل به من أفرع، أن يتخلى فجأة عن الفن لصالح السياسة؟ حتى في حالة توليه الفعلية للرئاسة؟
بالطبع لا، وفي هذا السياق يُشار مرة أخرى إلى الخطاب الرئاسي السالف ذكره، والذي يبدو بوضوح من خلاله كيف أن السيناريو مكتوب بعناية فنية درامية، وكيف تم إخراجه بعناية فنية تليق بعمل درامي له موسيقى تصويرية أخّاذة، وكيف يؤدي الرئيس مشاعر وانفعالات تبدو على وجهه وتتلاءم مع طبيعة الجلوس من جمهوره من الأطفال. وهكذا نخلص إلى أن الرئيس الفنان لم يترك الفن أبدًا، وأنه لا يزال يمارس ما تعلمه من حيل فنية حتى أثناء انخراطه في العمل السياسي.
“زيلينسكي”.. هل هو رئيس بلا إنجازات فعلية؟!
أدى فلاديمير زيلينسكي القسم كرئيس للبلاد بتاريخ 20 مايو 2019، مما يعني أننا نعاصر الآن فترة ما بعد مرور عامين على وجوده في الحكم. ومن هذا المنطلق، نطرح تساؤلًا حول ما فعله “زيلينسكي” الرئيس في بلاده خلال تلك الفترة؟
في خلال السنة الأولى من حكمه، أو تحديدًا فترة ما قبل تفشي وباء كورونا. كان زيلينسكي مهتمًا بفتح آفاق جديدة في علاقات بلاده مع القوى الكبرى الدولية، التي باستطاعتها أن تساعد على دعمه وتقوية موقفه أمام عدوه الكبير الدب الروسي. وكان هذا الانشغال هو ما يمكن أن يُطلق عليه الشاغل الأكبر الذي يستحوذ على اهتمام وعناية الرئيس الشاب. حيث كان من أبرز ما نجم عن تحركاته في مجالات السياسة الخارجية، هو توقيع مبادرات شراكة متعددة مع تركيا علاوة على إعلان تركيا تأييدها لانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، بالإضافة إلى توقيع عدد من الإعلانات المشتركة مع رؤساء ليتوانيا ولاتفيا وبولندا فيما يتعلق بانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي.
لكن اتخذت الأمور منحنى أكثر جدية منذ لحظة تفشي الوباء، بحيث جاءت السنة الثانية من رئاسته وهي تحمل معها تحديات صعبة للغاية ومثيرة للجدل. وكان ينبغي على كل من الرئيس والحكومة التعامل مع العواقب الاجتماعية والاقتصادية السلبية للوباء بطريقة سلسلة، وهو بالفعل ما حاول الرئيس عمله، إلا أن الوباء كان يستمر في ضرب مواقفه بشكل مؤلم. مما تسبب في انخفاض تقييمات الرئيس خلال الفترة ما بين مايو 2020 إلى يناير 2021. فقد أصبحت أوكرانيا خلال الجائحة بعيدة كل البعد عن كونها واحدة من الدول ذات الريادة في مجالات مكافحة تفشي الفيروس ومقاومة تأثيراته.
بالنسبة للمشكلات الجوهرية التي تواجهها البلاد، يكون القول الأمثل في هذا الصدد هو أنها بقيت على حالها، تلك المشكلات يأتي من ضمنها تفشي الفساد والرشاوى. وتبقى هناك نقطة مضيئة واحدة في مسيرة الرئيس على الصعيد المحلي، هي المضي قدمًا في تنفيذ مشروع البناء الكبير؛ وهو مشروع تتخلله إصلاحات في مجالات البنية التحتية واصلاحات في المرافق الاجتماعية والثقافية كذلك. ونقطة أخرى مضيئة، لم يتضح بعد مدى تأثيراتها، تتمثل في القانون الحديث العهد الذي أصدره البرلمان الأوكراني، بتاريخ 6 يونيو 2021، بشأن محاربة نفوذ الأوليجارشية؛ بغرض منع التهديدات المرتبطة بالأمن القومي الأوكراني والتي تترتب على التأثير المفرط للأشخاص ذوي الثقل الاقتصادي أو السياسي الكبير على الحياة العامة. وكان هذا القانون بالأصل نابعًا من مشروع القانون الذي أعلنه زيلينسكي نفسه بتاريخ 15 ابريل، لمكافحة احتكار فئة بسيطة من المواطنون للكثير من النفوذ.
عدا ذلك، فإن كل تحركاته المناوئة للجارة الروسية العملاقة، تتمثل في أنها حرب ثقافية وحرب هوية أكثر من كونها حربًا حقيقيًا بين قوتين يناصب بعضهما البعض العداء. فنجد أن زيلينسكي على سبيل المثال، يمضي في محاربة استخدام اللغة الروسية في كل الأماكن العامة والرسمية داخل البلاد، والاكتفاء بالاعتماد على اللغة الأوكرانية كبديل. وهو الأمر الذي يثير الغرابة، نظرًا لأن زيلينسكي نفسه، كان قدم المسلسل الذي أدى لنجاحه في الفوز بالرئاسة باللغة الروسية وليس الأوكرانية. إذا فإن محاولة طمس معالم الهوية الروسية التي يحملها أغلب مواطني أوكرانيا في أنفسهم تعد أمرًا غريبًا خاصة عندما ينبع من ذات الرئيس.
بالإضافة إلى ذلك، نسلط الضوء على مشروع القانون الجديد، والغريب من نوعه كذلك، الذي تقدم به زيلينسكي، خلال الآونة الأخيرة، للتفرقة بين مواطني بلاده وتقسيمهم إلى نوعين، إما مواطنين من الشعوب الأصلية للبلاد، وآخرين غير أصليين. وهو القانون الذي يضع أوكرانيا في مصاف البلدان العنصرية، ويتنافى بالطبع مع المواثيق والأحكام الدولية في سياق حقوق الإنسان والحفاظ عليها.
باحث أول بالمرصد المصري