
” كارنيجي” ينشر تقريرًا حول “محورية البحر المتوسط ” في الاستراتيجية الروسية
عرض- آية عبد العزيز وفردوس عبد الباقي
نشر مركز “كارنيجي” للسلام الدولي تقريرًا بعنوان “روسيا في البحر المتوسط: وُجدت لتبقى” في مايو 2021، لمناقشة استراتيجية روسيا في تلك المنطقة.
ذكر التقرير، في بدايته، أن استراتيجية روسيا في البحر المتوسط تعد ضمن استراتيجيتها الأوسع على المستوى الأوروبي الذي كان الساحة الرئيسية لانتصاراتها ونكساتها في سياستها الخارجية، إذ تأتي هيمنة أوروبا على السياسة الخارجية الروسية كنتاج للجغرافيا والإرث التاريخي ونظرة النخبة للعالم التي تعتبر الغرب تهديدًا للنظام السياسي المحلي. ويعتبر اندفاع روسيا نحو البحر المتوسط، الذي تزايد منذ انتشارها العسكري في سوريا في عام 2015، هو أكثر من مجرد مسألة طموح للاعتراف بها كلاعب عالمي، ولكنه نتاج متطلبات الأمن القومي المستمرة والمصالح الاقتصادية.
لفت التقرير إلى أنه خلال الفترة بين نهاية الحرب الباردة إلى ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، كانت روسيا غائبة إلى حد كبير عن البحر المتوسط، إذ استؤنفت العلاقة العدائية بين روسيا والغرب، ويُظهر وجود روسيا في المنطقة بعد عام 2014 قدرًا كبيرًا من الاستمرارية مع الحقبة السوفيتية وما قبل الاتحاد السوفيتي، عندما كانت التطورات في أوروبا هي المحركات الرئيسية للسياسة، ومن المرجح أن تكون الديناميكيات المهيمنة فيها نتاجًا لقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية.
الجغرافيا هي المصير
اعتبر التقرير أن أصول انخراط روسيا في منطقة البحر المتوسط تعود إلى القرن العاشر الميلادي عبر تجارة روس كييف مع القسطنطينية، وإنشاء العلاقات الدينية بين الدولة الروسية الناشئة وبيزنطة بعد تحول روس كييف إلى المسيحية في عام 988 في عهد الأمير فلاديمير الذي تزوج من أخت الإمبراطور البيزنطي.
وفقًا للتقرير، يمكن إرجاع الطموحات الجيوسياسية للإمبراطورية الروسية إلى سلسلة غير منقطعة من المساعي العسكرية والدبلوماسية في أواخر القرن السابع عشر مع توسع روسيا وظهورها كمشارك أساسي في السياسة الأوروبية. على مدى القرنين التاليين، اتخذ اندفاعها نحو البحر المتوسط شكل حملات عسكرية متتالية ضد الإمبراطورية العثمانية. وساهم كل غزو في خلق الأساس المنطقي للعقد التالي. وفي حين أن الجزء الأكبر من غزوات “بطرس الأكبر” كان على شواطئ البلطيق، ركزت الحاكمة الروسية “كاثرين” طموحاتها الجيوسياسية وفتوحاتها على تأمين الوصول إلى البحر الأسود في سلسلة من الحروب مع تركيا أدت إلى قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم والاستيلاء على الأراضي الواقعة على طول الساحل الشمالي للبحر في أواخر القرن الثامن عشر.
ومع غزو “نوفوروسيا” وتأسيس “أوديسا” و”سيفاستوبول” ومدن أخرى، تم إنشاء نقطة انطلاق للبحث عن الوصول إلى البحر المتوسط. شهدت أولى حروب كاترين العظمى مع تركيا في 1768-1774 أول انتشار لسرب بحري روسي في البحر المتوسط. وفي يونيو عام 1770، حقق الأسطول البحري الروسي انتصارًا كبيرًا على الأسطول التركي في معركة “شيسمي”، وهو ما أكد أهمية تأمين الوصول البحري إلى البحر المتوسط حيث ظل التنافس مع تركيا الشغل الشاغل للسياسة الخارجية الروسية.
بجانب هذا، ذكر التقرير أن الطموح الجيوسياسي استلزم إيجاد دوافع دينية، فقد تم تدعيم استقلال اليونانيين الأرثوذكس عن تركيا وإنشاء دولة يونانية يحكمها “قسطنطين”، وعاصمتها “كونستانتينو”. بجانب ذلك، تم تدعيم الحق في التدخل لصالح عدد كبير من السكان المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية من البلقان إلى جورجيا، مما زرع بذور المزيد من النزاعات بين الإمبراطوريتين.
يستهدف كل هذا السيطرة على مضيق البوسفور والدردنيل لضمان المرور غير المقيد للسفن التجارية والبحرية الروسية وإبقاء القوى الأوروبية المعادية خارج البحر الأسود لتجنب تكرار حرب القرم في 1853-1856، وتم تحقيق هذا الهدف جزئيًا في عام 1936 بتوقيع اتفاقية “مونترو” التي سمحت بمرور السفن الحربية من وإلى البحر الأسود، لكنها وضعت قيودًا صارمة على حجم وعدد وتوقيت ومدة البقاء والمرور في البحر الأسود للسفن الحربية التابعة للدول غير الساحلية. ظلت تركيا تسيطر على المضائق، واحتفظت بسلطة إغلاق المضائق أمام جميع السفن الحربية الأجنبية طوال فترة الحرب العالمية الثانية.
التحديات القديمة لا تزال قائمة بعد عام 1945
أشار التقرير إلى أنه مع سقوط الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة، شهد البحر المتوسط توسعًا غير مسبوق للتواجد السوفيتي عسكريًا وبحريًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا. اتخذت البحرية السوفيتية خطواتها الأولى نحو إقامة وجود مستمر هناك في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، والتي احتفظت بها طوال الحرب الباردة. وشملت قائمة الدول العميلة السوفيتية أو الشركاء حول البحر المتوسط ألبانيا والجزائر ومصر وليبيا وسوريا.
اجتذب السباق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لتأمين شركاء وعملاء بين دول ما بعد الاستعمار في شمال إفريقيا والشرق الأوسط قدرًا كبيرًا من الاهتمام خلال الستينيات والسبعينيات، كما فعلت توترات القوتين العظميين خلال الحروب العربية مع إسرائيل وحربي 1967 و1973. ومع ذلك، غالبًا ما تم التغاضي عن دافع القيادة السوفيتية للبحث عن موطئ قدم في البحر المتوسط في سياق مواجهة الحرب الباردة في المسرح الأوروبي: الطائرات الأمريكية القائمة على حاملات الطائرات والغواصات المسلحة نوويًا (SSBNs) شكلت دورية في البحر المتوسط تهديدا مباشرا للقلب السوفيتي.
كما أعاق الوجود السوفيتي في البحر المتوسط العديد من القيود أمام القادة العسكريين ودبلوماسيي الإمبراطورية الروسية، إذ بحكم الجغرافيا والسياسة، كانت البحرية السوفيتية محدودة في قدرتها على الانتشار والحفاظ على وجود دائم كبير هناك. وسيطرت تركيا التي باتت عضوًا في حلف الناتو المعادي على المضائق بينما أثبت شركاء موسكو الإقليميون أنهم غير موثوقين للغاية في دعم الوجود السوفيتي.
نتيجة للاختلافات الأيديولوجية بين الاتحاد السوفيتي وألبانيا في عام 1961، نوّه التقرير إلى أن البحرية السوفيتية اضطرت إلى مغادرة القاعدة في فلور التي حصلت عليها في الخمسينيات. وفي عام 1972، أمر الرئيس “أنور السادات” الجيش السوفيتي بمغادرة البلاد بسبب إحباطه مما اعتبره دعمًا غير كافٍ من موسكو. وأثبت “معمر القذافي” الليبي أنه صعب المراس رغم أنه كان مشتريًا متعطشًا للأسلحة السوفيتية وقبل المستشارين العسكريين السوفييت. باتت سوريا الشريك السوفيتي الوحيد الموثوق به في البحر المتوسط لأنها تمتلك فيها تواجد بحري وعسكري واسع في منطقة تهيمن عليها الولايات المتحدة.
عمل الاتحاد السوفيتي على استغلال أدواته -الوجود الدبلوماسي، والتغلغل السياسي، والمساعدات الاقتصادية، ومبيعات الأسلحة والمستشارين العسكريين- في محاولة لتوسيع شبكة علاقاته عبر البحر المتوسط. وقد رحبت دول ما بعد الاستعمار في شمال إفريقيا في البداية بدعم الاتحاد السوفيتي وبدت كمرشحين واعدين لبناء شبكة من العملاء في البحر المتوسط من شأنها أن تمكن من الوجود لمواجهة الموقف المهيمن للولايات المتحدة. وبمرور الوقت، أثبتت الجزائر –على سبيل المثال- أثناء تأمينها لمشتريات كبيرة من الأسلحة وأشكال المساعدة الأخرى من الاتحاد السوفيتي، أنها مترددة في الانضمام إلى معسكرها واحتضنت حركة عدم الانحياز، مستفيدة من المواءمة مع موسكو وواشنطن لأنها حرصا على ضمها لصفوفهما. تونس، رغم أنها اسمًا غير منحازة، فضلت إقامة علاقات أوثق مع الغرب.
واعتبر التقرير أنه برغم من الطموحات والاستثمارات الكبيرة والنجاحات القليلة، كانت نتائج سعي الاتحاد السوفيتي لمجال نفوذ في البحر المتوسط متواضعة في أحسن الأحوال ومخيبة للآمال بشكل متكرر. طوال الحرب الباردة، تم احتواء طموحاتها من خلال مزيج من جغرافية البلاد ومنافسة الشرق والغرب، وانتهى الوجود البحري الراسخ والمستمر في عام 1993.
وقفة قبل العمل كالمعتاد
شكلت نهاية الحرب الباردة بداية إعادة تنظيم استراتيجي رئيسي في أوروبا والبحر المتوسط، إذ انسحبت روسيا من إمبراطوريتها الخارجية للتركيز على مشاكلها الداخلية التي جعلتها منشغلة طوال التسعينيات. ومع استنزاف مواردها وانهيار مؤسستها الدفاعية، اختفت روسيا فعليًا من البحر المتوسط كفاعل بحري وعسكري وجيوسياسي. واجه استمرار وجود الأسطول الروسي في “سيفاستوبول” -بناءً على معاهدة تم التفاوض عليها مع أوكرانيا في عام 1997- مستقبلًا غامضًا نظرًا لتطلعات الأخيرة للانضمام إلى الناتو. وباتت طموحات روسيا في البحر الأسود محل تساؤل خاصةً مع تحوله إلى بحيرة تابعة للناتو، وانضمام بلغاريا ورومانيا إلى الحلف في عام 2004، وموافقة الولايات المتحدة على نشر موقع دفاع صاروخي في رومانيا عام 2011، وهو ما رآه المسؤولون الروس أنه يمكن أن يشكل تهديدًا.
وفقًا للتقرير، كانت هذه اعتبارات مهمة في قرارات الكرملين بشن حرب في عام 2008 ضد جورجيا وغزو أوكرانيا بعد ست سنوات. وعدت احتمالات انضمامهم لعضوية الناتو وحتى ذلك الحين بشراكة أوثق مع الحلف بتحول كبير في منطقة البحر الأسود، وتهديدات جديدة لقدرة روسيا على عرض قوتها في البحر المتوسط والدفاع عن موقعها في البحر الأسود، وتحول في الناتو بشكل عام. أعادت الحربان أيضًا سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم – وهي نقطة محورية مهمة للدفاع عن جنوب روسيا ومنصة لإبراز القوة والنفوذ في البحر الأسود والبحر المتوسط.
كانت هناك تخوفات من أن تصبح شبه جزيرة القرم وسيفاستوبول -على حد تعبير الرئيس “فلاديمير بوتين”- منصة أخرى لمكونات الدفاع الصاروخي الأمريكية ومنصات إطلاق لشن ضربات صاروخية ضد روسيا. وقد اكتسبت النزاعات مع جورجيا وأوكرانيا أهمية أكبر بكثير من تصريحات الكرملين الطموحة ولكن الغامضة حول مجال “المصالح الخاصة”، لكن خلقت الصراعات دولتين معاديتين على الحدود الجنوبية الغربية لروسيا.
ومع ذلك، فإن صراعات جورجيا وأوكرانيا -والإصلاح العسكري الهائل وتحديث القوات المسلحة، بما في ذلك القدرات البحرية، التي بدأت بعد حرب عام 2008 مع جورجيا -لا يمكن أن تعوض عن التحدي الذي شكلته الجغرافيا والجغرافيا السياسية الأوروبية لروسيا لمدة قرن من الزمان. لا يزال يتعين على سفنها الحربية عبور المضائق التي تسيطر عليها تركيا أو الإبحار حول أوروبا، ويجب أن تحلق الطائرات الحربية الروسية عبر أجواء غير ودية إذا أرادت الوصول إلى البحر المتوسط.
المحور السوري
وفقًا للتقرير ركزت العديد من التفسيرات التي حاولت تحليل التدخل الروسي في روسيا على إنه جاء نتيجة رغبة روسيا في إعادة وضعها السابق كقوة رئيسية في الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط، وبالفعل فقد ساهم هذا القرار في جعل روسيا فاعل رئيسي في المنطقة، كما أكسبها حالة من الزخم في شرق المتوسط. فيما ركزت تفسيرات أخرى على إنه كان بسبب قلق الكرملين بشأن التهديد الإرهابي الذي ينتشر من سوريا إلى شمال القوقاز وما وراءها.
واستكمل التقرير أن سوريا كانت أقدم حليف روسي وآخر متبقٍ في الشرق الأوسط والبحر المتوسط، لديها قوات بحرية موجودة، لذا فإنها بالنسبة للكرملين ليست مجرد منطقة للنفوذ ولكنها كانت البؤرة الاستيطانية الوحيدة له في المنطقة. فمن خلال تدخلها العسكري، أعادت روسيا ترسيخ نفسها عسكريًا في شرق المتوسط باتفاقية طويلة الأمد مع سوريا تضمن وجودها في قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية، وكلاهما يخضع لتوسع كبير من أجل استيعاب وجود بحري وجوي أكبر لا يقل أهمية عن تموضع الجيش الروسي في مسرح تعتبره تركيا حاسمًا لأمنها واستقرارها الداخلي.
ومع تأمين وجودها العسكري في سوريا الآن على المدى الطويل، اكتسبت موسكو مصدرًا رئيسيًا للضغط في علاقاتها مع أنقرة لا يختلف عن موقف تركيا فيما يتعلق بروسيا أثناء الحرب في الشيشان في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين. كما يعد هذا المكسب مهم لروسيا في مواجهتها مع حلف شمال الأطلسي؛ حيث من المحتمل أن تكون تركيا اللاعب المحوري في سياق الجناح الجنوبي لأوروبا والبحر المتوسط، لذا فقد انخرطت روسيا في عملية توازن مع تركيا في لتحقيق هدفين في نفس الوقت وهو إحداث تصدع في العلاقات بين تركيا وباقي دول الناتو. وبالرغم من انتشار موسكو في سوريا قد مكنها من الضغط على تركيا عسكريًا وتهديدها بملف اللاجئين إلا إنها دعمت “أردوغان” في أعقاب محاولة الانقلاب عام 2016 بينما ترددت الولايات المتحدة وأوروبا.
كما أوضح التقرير إلى أن ليبيا أيضًا قدمت الفرصة الرئيسية التالية لتوسيع شبكة النفوذ الروسي في البحر المتوسط، فمع تصاعد الحرب الأهلية في البلاد، برزت روسيا كداعم رئيسي للجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال “خليفة حفتر”؛ حيث شمل الدعم شحنات أسلحة، ونشر مرتزقة وطائرات روسية من سوريا، ومساعدة مالية على شكل عملة مزورة. وفي الوقت نفسه، تحوّط الكرملين على رهاناته وحافظ على علاقاته مع الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس. لذا يشير موقفها في الحرب الأهلية الليبية إلى أنها مستعدة للعبة طويلة بغض النظر عن كيفية تسوية النزاع وتخطط للبقاء متورطة في شئون البلاد.
وفقًا للتقرير استخدمت روسيا أيضًا أصول النفط والغاز وخبرتها في التنقيب والتطوير لمحاولة التأثير على الحكومات في جميع أنحاء البحر المتوسط؛ حيث كانت هذه الجهود أكثر نجاحًا في تركيا، التي تريد أن تضع نفسها كمركز لتوزيع الطاقة في أوروبا لكنها فشلت في بلدان أخرى، لا سيما تلك التي يتنافس منتجوها المحليون مع الشركات الروسية. وقد استثمرت شركات الطاقة الروسية في مشاريع في عدة دول حول البحر المتوسط (مصر والجزائر) وتسعى وراء المزيد من الفرص (ليبيا)، ولكن بالنسبة لهذه البلدان، تعتبر روسيا أيضًا منافسًا في سوق الطاقة الأوروبية التي تزداد تنافسية. كانت أكبر آلية لروسيا هي مبيعات الأسلحة، لا سيما في العلاقات مع الجزائر، حيث توجد ترسانة كبيرة من الأنظمة القديمة من الحقبة السوفيتية.
الخلاصة والآثار المترتبة على المصالح والسياسات الأمريكية
خلص التقرير إلى أن توسع روسيا في المنطقة في ظل إمكانياتها المحدودة يشير إلى أنه، بقدر ما قد ترغب روسيا في أن تصبح فاعل جيوسياسي وعسكري مهيمن هناك، فإنها لا تمتلك هذه الآلية للقيام بذلك. فيما تشير هذه القدرات إلى هدف أكثر محدودية وهو: حرمان الناتو من القدرة على السيطرة على البحر المتوسط كما فعل بعد انسحاب روسيا منه في نهاية الحرب الباردة، بدلاً من محاولة السيطرة عليه.
بالنظر إلى إمكانياتها المحدودة، يجب أن يُنظر إلى عودة روسيا إلى البحر المتوسط على أنها ناجحة، فقد كان الكرملين حازمًا وصبورًا وماهرًا وانتهازيًا في السعي والاستيلاء على الانفتاحات التي خلقتها التطورات المحلية في المنطقة، مثل الاضطرابات التي أثارها الربيع العربي، وسياسات الولايات المتحدة وحلفائها، ولا سيما الرغبة لتقليل الالتزامات في المنطقة وتجنب التشابكات الأعمق في سوريا أو ليبيا، الأمر الذي دفع روسيا للانخراط المحسوب دون الإفراط في تكريس مواردها ومكانتها ومصداقيتها للسعي لتحقيق أهداف غير واقعية، والأهم من ذلك، إثارة مواجهة صريحة مع الولايات المتحدة.
وعليه فقد عادت روسيا للظهور كفاعل عسكري لا يستهان به فيه شرق المتوسط، وهو ما أدى إلى تعقيد التخطيط والعمليات للولايات المتحدة والناتو، وطرح مطالبة قوية لاستعادة موقعه في البحر الأسود، ورسخ نفسه كوجود رئيسي في سوريا وليبيا، وصنع علاقة جيدة مع إسرائيل وعلاقة جيدة إلى حد معقول وإن كانت غير مريحة مع تركيا، كما أعيد الاتصال بالجزائر ومصر، وصقل أوراق اعتمادها كقوة عظمى. هذه مكاسب روسية مهمة.
ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في التهديد الذي تشكله عودة روسيا إلى البحر المتوسط على المصالح الجوهرية للولايات المتحدة. لا تزال الولايات المتحدة في موقع فريد في المنطقة لمنع الهجمات الإرهابية ضد وطنها. كما أن العلاقات الروسية الإسرائيلية لا تقوض التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل. ولم يشكل الوجود البحري الروسي أي تهديد لحرية الملاحة في البحر المتوسط. لقد تم في بعض الأحيان تضخيم أهمية “فقاعة” A2 / AD الروسية على سوريا – فهذه الأصول محدودة النطاق، وفي نزاع مع الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو ستكون عرضة لأسلحة بعيدة المدى يتم إطلاقها من مجموعة متنوعة من المنصات البرية والجوية والبحرية.
لذا تواجه روسيا قيودًا كبيرة طويلة الأجل في الحفاظ على نفوذها وقدرتها على إبراز القوة في البحر المتوسط، ليس لديها مصلحة أو قدرة على الشراكة مع الدول هناك لحل التحديات العديدة التي تواجهها لأمنها واستقرارها وازدهارها، الأمر الذي يتطلب التزامًا كبيرًا بالموارد وانخراطًا أعمق في صراعات المنطقة، مع كل المخاطر التي قد تترتب على ذلك، لا توجد مؤشرات على أن روسيا مستعدة للقيام بهذه الأنواع من الاستثمارات. وبالرغم من أن الخطاب المثار حول روسيا بإنها جريئة ومتهورة، فقد تصرفت بحذر وضبط النفس في المنطقة، وأظهرت عدم تحمل للمخاطر.
وأخيرًا أوضح التقرير إنه توصل إلى استنتاجات رئيسية بشأن تواجد روسيا في منطقة شرق المتوسط، تتمثل على النحو التالي:
- قدرات روسيا في المنطقة متواضعة، وتواجه عقبات هائلة في تحقيق طموحاتها.
- – كان الأساس المنطقي لعودة روسيا إلى البحر المتوسط هو احتمال حدوث مواجهة عسكرية في المسرح الأوروبي بدلاً من الرغبة في استعادة مكانة القوة العظمى. وبالتالي فإن المنطقة هي ساحة تابعة للمواجهة الرئيسية بين روسيا والغرب.
- تهدف عودة روسيا إلى البحر المتوسط إلى استعادة مكانتها القديمة في الحرب الباردة، وإن كان ذلك بموارد متناقصة، مدفوعة بأهداف دائمة في مواجهتها مع الغرب، وبطموحات ومصالح وتصورات التهديد التي استمرت لقرون.
لا يوجد سبب لتوقع تغيير هذا الموقف في المستقبل القريب أو البعيد، كما سيستمر عزمها على توسيع وجودها البحري والجوي والبري هناك.