المراكز الأوروبية

“مراكز فكر أوروبية” تسلط الضوء على القوة الناعمة الصينية في أوروبا

عرض – ايه عبد العزيز

استعرضت الشبكة الأوروبية للمؤسسات الفكرية حول الصين (ETNC) -عبارة عن تجمع لخبراء الصين من مختلف معاهد البحوث الأوروبية لدراسة السياسة الخارجية الصينية والعلاقات بين الصين والدول الأوروبية، وكذلك الصين والاتحاد الأوروبي- في تقرير مُحرر بعنوان “القوة الناعمة للصين في أوروبا: الوقوع في الأوقات الصعبة”، نُشر في أبريل 2021، مجموعة من التحليلات الخاصة بتأثر القوى الناعمة الصينية على عدد من الدول الأوروبية التي يبلغ عددها 17 دولة، من خلال توضيح آليات التحرك، والاختلافات في التأثير بين الدول، ومدى تقبل الأوروبيين لهذه السياسة، علاوة على تقييم هذه الجهود.
وركز التقرير على تعريف “جوزيف ناي” للقوة الناعمة التي تعني “القدرة على التأثير على الآخرين للحصول على نتائج مفضلة من خلال الجذب والإقناع، بدلاً من الإكراه أو الدفع، مضيفًا أن المصادر الرئيسية للقوة الناعمة لأي بلد هي ثقافتها وقيمها السياسية وسياساتها الخارجية”. ويجادل “ناي” بأن القوة العسكرية والاقتصادية قد يكون لها تأثير ثانوي، لذا فإن تطبيق ذلك على الحالة الصينية فيما يتعلق بالاستثمار قد يوفر فرصة للصين للتأثير وتعزيز صورتها ولكن ليس في حد ذاته يُعد علامة على القوة الناعمة.

آليات فعالة

يتبنى التقرير مفهوم للقوة الناعمة الصينية؛ حيث اعتبارها قدرة الحكومة على التأثير على تفضيلات وسلوك الجهات الأجنبية من خلال الجذب أو الإقناع، وليس من خلال التدخلات المباشرة التي تنطوي إما على الإكراه أو الدفع، وتتكون مقاربات القوة الناعمة الصينية تجاه الدول الأوروبية من ثلاث مجموعات واسعة من الآليات الأساسية التي تتمثل في: تعزيز الثقافة الصينية والتبادلات في التعليم والبحث، والثانية التعاون الاقتصادي، أخيرًا -وليس آخرًا- استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل السياسية؛ وعليه يتم التطرق إلى كل آلية على النحو التالي:
تعزيز الثقافة والتبادل التعليمي؛ أوضح التقرير أن الترويج للثقافة الصينية هو أساس سياسات القوة الناعمة الصينية؛ إذ تم تصنيف معاهد كونفوشيوس على أنها رواد الترويج الثقافي الصيني والتبادل التعليمي، وذلك باستثناء السويد. ففي العديد من البلدان، سعت منظمة Hanban -المنظمة الصينية الحكومية الخاصة بمعاهد كونفوشيوس حول العالم- إلى تحقيق زيادة كبيرة في عدد معاهد الكونفوشيوس، كما أفادت معظم الدول أن المعاهد تسهل ما يسمى بفصول كونفوشيوس الدراسية أي الشراكات مع المدارس الثانوية للتدريس اللغة والثقافة الصينية. وتعد السويد الدولة الوحيدة التي ليس لديها معاهد أو فصول دراسية، كما تراجع أعدادهم في بعض الدول في المقابل من المتوقع إطلاق معهد في البرتغال واليونان. كما أعلن معهد كونفوشيوس للموسيقى الدنماركي عن إنهاء أنشطته بالسفارات الصينية في جميع أنحاء أوروبا التي تنظم الأحداث والاحتفالات الثقافية. أما السويد فقد أنهت الصين التبادل الثقافي رسميًا مع استمرار التبادلات غير الرسمية. وفي البرتغال واليونان وإيطاليا، تطرح الصين فكرة القرابة الثقافية، ويتم التعامل مع اليونان وإيطاليا على أنهما “الحضارات القديمة” للصين.
التعاون الاقتصادي الصيني: كشف التقرير أن التعاون بين بكين والقوى الأوروبية أسفر عن تأثيرات ثانوية مهمة على القوة الناعمة، وفي هذا الإطار تستند بكين على مسارين لخدمة مصالحها تتجلى في: مبادرة الحزام والطريق ومبادرة 17 + 1 في وسط وشرق أوروبا. من بين البلدان السبعة عشر، وُقعت عشر مذكرات تفاهم مع الصين بشأن مبادرة الحزام والطريق: المجر (2015)، رومانيا (2015)، جمهورية التشيك (2015)، بولندا (2015)، سلوفاكيا (2015)، لاتفيا (2016)، اليونان (2018)، البرتغال (2018)، النمسا (2018)، وإيطاليا (2019). وفي هذا الإطار تُقام العديد من الأحداث المُتعلقة بالرياضة والموسيقى والأفلام وفنون الدفاع عن النفس والكتب والمسرح والفنون الشعبية تحت شعار (17 + 1) في بولندا وسلوفاكيا ولاتفيا. فيما يُنظر إلى نهج القوة الناعمة الصينية تجاه اليونان، بما في ذلك دبلوماسيتها الثقافية الاستباقية، بشكل أساسي على أنه وسيلة للسعي لتحقيق الأهداف الاقتصادية. وفي بلدان أخرى، مثل النمسا والمجر، تركز الصين بشكل شبه كامل على التعاون الاقتصادي، من خلال استخدام الأحداث الثقافية لإيصال الرسائل الاقتصادية.
وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والرسائل السياسية؛ أفاد التقرير إلى الصين استثمرت على مدى العقد الماضي في وسائل الإعلام الأوروبية التقليدية، عبر إنشاء فروع لوسائل الإعلام الصينية في أوروبا، وإقامة شراكات وتعاون مؤسسي بين الصينيين ووكالات الأنباء ووسائل الإعلام الأوروبية، والوصول بنشاط أكبر إلى وسائل الإعلام الأوروبية في شكل مقالات ومقابلات وشراء إعلانات؛ حيث يبث راديو الصين الدولي باللغة المحلية في جمهورية التشيك وألمانيا وفرنسا وبولندا ورومانيا. كما تتمتع فرنسا بأكبر حضور وطني لوسائل الإعلام التقليدية الصينية؛ حيث تبث “شينخوا” وشبكة تلفزيون الصين العالمية المحتوى الفرنسي إلى جانب راديو الصين الدولي، كما تنشر صحيفة Le Figaro ملحق “” China Watch من قبلChina Daily. وتتبع جمهورية التشيك التغطية المؤيدة للصين لوسائل الإعلام التشيكية التي يملكها مستثمرون صينيون. في المقابل ألغت هيئة الرقابة على وسائل الإعلام البريطانية Ofcom ترخيص CGTN للبث. بالإضافة إلى ذلك، وقعت وكالة الأنباء الحكومية اليونانية مذكرة تفاهم مع “شينخوا”. كما وقعت وكالة الأنباء الإيطالية الأبرز “أنسا” اتفاقية شراكة مع “شينخوا” كجزء من مذكرة تفاهم مبادرة الحزام والطريق، والتي أدت إلى قيام وكالة الأنباء الإيطالية بنشر مقالات مترجمة من “شينخوا”. وفي رومانيا كانت “شينخوا” حاضرة ولديها اتفاقية شراكة مع وكالة الصحافة الوطنية AGERPRES. وفي ألمانيا وقعت “شينخوا” اتفاقية مع وكالة الأنباء الألمانية “دويتشه بريس أجنتور” لنشر مقالات من “شينخوا” مدفوعة الأجر على منصات “دويتشه بريس أجنتور” بهدف وضع تغطية إيجابية لمبادرة الحزام والطريق الصينية على منصات إدارة الشئون السياسية. هذا بجانب وسائل التواصل الاجتماعي مثل Twitter وFacebook، على الرغم من حظرهما في الصين، إلا أن بكين تُظهر موقفًا أكثر استباقية ينبع بشكل أكبر من المنافسة العالمية مع الولايات المتحدة، وليس من استراتيجية القوة الناعمة المصممة خصيصًا لجماهير أوروبية مختلفة. كما تم توظيفها إبان أزمة “كوفيد-19” بما يعزز صورة الصين عالميًا في إدارة هذه الجائحة، وذلك وفقًا لما أشار إليه التقرير.

مواقف مُتباينة

وفقًا للتقرير جاءت ردود الفعل الأوروبي بشأن التحرك الصيني الناعم مختلفة بين الدول نتيجة عدد من الأسباب التي ترجع في بعض الأحيان إلى طبيعة العلاقات مع الصين، وعليه فقد تم تقسيم الدول محل الدراسة إلى أبع مجموعات تتمثل على النحو التالي:
عدم الاحتياج إلى آليات للتأثير: ذكر التقرير أن هذه المجموعة تميزت بكونها لا تحتاج إلى استراتيجية يمكن للصين التحرك من خلالها، نتيجة مجموعة من المحددات التي تتجسد في وجود علاقات ودية مثل المجر، وعدم وجود مصالح واضحة وعلاقات وثيقة مع النخب السياسية في النمسا بالرغم من انضمامها إلى مبادرة الحزام والطريق. كما يتراجع الاهتمام بتفعيل آليات القوة الناعمة في بولندا وسلوفاكيا. أما في البرتغال فتشكل الروابط الثقافية والتاريخية والاقتصادية مع الصين أساس للعلاقات يمكن الاعتماد عليه بشكل كبير.
تحركات لم تؤت بنتائج إيجابية: أشار التقرير إلى أن هذه المجموعة التي تتضمن كل من اليونان وإيطاليا تتسم بعلاقات متناقضة مع الصين؛ حيث اتبعت الصين رسائل قوية من القوة الناعمة المُتمثلة في الآليات الاقتصادية والثقافية، إلا إن ذلك لم يؤتي بثماره فهناك شعور متزايد بأن حجم الاستثمار الصيني في اليونان مخيب للآمال بالنسبة للتوقعات الأولية وأن تأثيرات القوة الناعمة الثانوية الاقتصادية الصينية تتلاشى. أما إيطاليا كانت الوجهة الأولى لـ “دبلوماسية الأقنعة” في بكين في عام 2020، وكانت واحدة من أكبر نجاحات الصين، وكان لها تأثير إيجابي على التصورات عن الصين بين المواطنين الإيطاليين. على الرغم من تتصرف الحكومة الإيطالية بشكل متزايد وفقًا لوجهة نظر الصين كمنافس.
تقارب حذر: أوضح التقرير إلى أن هذه المجموعة التي تتكون من (ألمانيا، ولاتفيا، وهولندا، ورومانيا، وإسبانيا، والمملكة المتحدة) تترقب التحركات الصينية وتنظر إليها على كونها مُسيسة، بينما تظل القوة الاقتصادية عاملاً مهم في التعاطي مع الصين. وعليه فقد أصبحت كل من ألمانيا، والمملكة المتحدة أكثر تشككًا ويقظة تجاه الصين. وبالمثل ولكن بدرجة أقل هولندا ولاتفيا ورومانيا. فيما كانت جائحة “كوفيد” نقطة تحول بالنسبة لرومانيا؛ حيث أدى إلى تصور أسوأ للصين وأصبح هذا أحدث عائق أمام التبادل الصيني الروماني.
فاعلية مُتراجعة: وفقًا للتقرير تأثرت هذه المجموعة بشكل سلبي بالنهج الصيني الخارجي، نتيجة تصوراتهم بشأن النظام السياسي، وجائحة كورونا، علاوة على الرسائل العامة الصينية سواء في التغريدات أو المقابلات، وتعامل المسؤولون الصينيون لتهدئة الانتقادات حول السياسة الصينية فيما يتعلق بهونغ كونغ، وشينجيانغ، وهواوي، و (G -5). عليه تشير بيانات المسح التي تم جمعها من قبل Sinophone Borderlands Europe Survey في خريف 2020 إلى أن التصورات العامة للصين في السويد وفرنسا وجمهورية التشيك قد ساءت، فيما وجد مسح ECFR اتجاهًا مشابهًا في الدنمارك.
وعليه فقد توصل التقرير إلى أن جهود القوة الناعمة التي تسعى الصين إلى تفعيلها في أوروبا، لا تزال قيد التقييم كما إنها لم تأتي بنتائج إيجابية، تساهم في تعزيز صورة بكين في النظام العالمي. بالرغم من ذلك لا تزال هناك جاذبية للبعد الاقتصادي في العلاقات ولكنه يظل محدود بالنظر إلى تأثيرات القوة الناعمة الثانوية، والأحداث الخارجية التي تكشف الاختلافات في القيم السياسية بين الصين والدول الأوروبية.

آية عبد العزيز

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى