
الاقتصاد المصري
المُبررات الحقيقية لمحاولات التقارب التركي مع مصر
- تشهد العلاقات المصرية التُركية دبيب حياة، بعدما بذلت الإدارة التُركية جهودًا ضخمة وقدمت تنازلات عديدة حتى تلفت نظر صانع القرار المصري، وتُدلل على جديتها في بعث العلاقات بين الدولتين أولًا قبل تطبيعها.
- فبعد قدر وافر من تراجع المسؤولين الأتراك عن تصريحاتهم المُتشددة بشأن عدم شرعية الإدارة المصرية، تضمن إعرابهم عن أنهم فهموا الموقف بطريقة خائطة في مصر خلال السنوات السبع الماضية. أصدرت السُلطات التُركية تعليماتها أولًا بتخفيف حدة انتقادات قنوات “الإخوان” التي تُبث من أرضها، الموجهة إلى الإدارة المصرية، ثم تلت ذلك بإغلاق تام مؤقت لها.
- لفت ذلك نظر الغدارة المصرية فجدولت موعدًا للقاء مسؤولين دبلوماسيين من الطرفين على الأراضي المصرية، انتهت إلى لا شيء، فأعادت تُركيا مؤقتًا من جديد بث برامجها وكيل الانتقادات للإدارة المصرية.
- الأمر الذي أثار عددًا كبيرًا من التساؤلات حول ما الذي “أجبر” النظام التُركي على تقديم هذا الكم من “القرابين” الذي يشمل إذلال أقرب أصدقائه الإقليميين من الجماعة الإرهابية، وعلى الرغم من عددًا كبيرًا من التحليلات قد كُتب لتفسير المُحاولات التُركية إلا أن أيًا منها لم يُشف غليل القارئ العادي فضلًا عن الباحث المُتابع، لذا أضع بين أيدي حضراتكم هذا المقال.
أولًا – مأزق الطاقة التُركي ومحاولات حله
- تُعاني تُركيا من نقص شديد في موارد الطاقة المحلية يدفعها إلى استيراد كميات ضخمة لسد الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك، وقد بلغت أدنى تكلفة للطاقة المُستوردة في اثني عشر عامًا على الأقل، نحو 28.9 مليار دولار في عام 2020 من إجمالي الواردات التي بلغت 219.5 مليار دولار، بعد أن كانت قد بلغت 41.7 مليار دولار، في عام 2019، مما إجماليه 210.3 مليار دولار، ويوضح الشكل التالي تطور واردات الطاقة ونسبته من إجمالي الواردات:
شكل 1 – واردات الطاقة التركية مُقارنة بإجمالي الواردات خلال الفترة من 2009 وحتى 2020
- يتضح من الشكل أنه في أدنى الأحوال شكلت النسبة 13%، من إجمالي الصادرات بينما بلغت في بعض السنوات 25% تقريبًا وذلك في عام 2012، الأمر الذي يعني مُلخصه أن الطاقة تضع ضغوطًا لا نهائية على الموازنة العامة والميزان التجاري التُركيين.
- دفع ذلك الحكومة التُركية إلى البحث عن مصادر لتوفير الطاقة أو توفير تدفقات نقدية من مصادر خارجية كنقل الطاقة عبر الأراضي التُركية، توجه لاحقًا لشراء الطاقة بما يُخفض من تكلفة شراء الطاقة على البلاد في ظل أوضاعها الحالية.
- لتنفيذ أيًا من الحليين قام النظام التُركي بترسيم الحدود البحرية مع حكومة السراج في ليبيا، وذلك بأحد غرضين كما توضح الخريطة التالية:
خريطة 1 – توضح تعارض شكل الحدود في شرق المتوسط
- فبداية وفقًا لهذا الترسيم تتمدد الحدود التُركية التي تُحجمها جزيرة Kastellorizio عند أبعد نقطة من الحدود اليونانية بحيث تبعد عن الساحل التُركي بما يقل عن 2 كم، بحيث تُشمل النقطة الصفراء الموضحة على الخريطة السابقة، أو كما توضحها بشكل أفضل الخريطة التالية.
خريطة 2 – توضح الحدود التُركية اليونانية عند جزيرة كاستيلوريزو.
- وبالتالي فإن ترسيم الحدود مع حكومة السراج يجعل النظام التُركي يستحوذ على مساحات واسعة للغاية من مياه البحر المتوسط، ترفع من حظوظها في إيجاد غاز طبيعي في الأعماق.
- وثانيًا يقطع الترسيم الجديد الاتصال الجغرافي بين مصر واليونان بما يمنع وصول كابلات الكهرباء التي يُتوقع مدها بين مصر وقبرص من ناحية، ومصر واليونان من ناحية أخرى، الأمر الذي يجعل النظام التُركي مُتحكمًا إما في السماح بمرور الكابلات أو بين الدولتين مرورًا بحدوده المُدعاة مُقابل تعريفة مرور، أو مُعاملة تفضيلية. أو قد يمنع هذا المرور على وجه العموم بما يوجه المشروع لمسار أخر قد يكون عبر الربط عن طريق المملكة العربية السعودية والعراق ثم تُركيا، لتربط مع الشبكة الأوروبية بحيث تتحول لمحور إقليمي حصري.
ثانيًا – الرد المصري – اليوناني
- لتنفيذ هذه الأهداف السابقة، حاول النظام التُركي فرض الأمر الواقع، بالتدخل في ليبيا غربًا، واحتلال الإقليم وصولًا للساحل الشرقي، بحيث يفرض الاتفاقية إجباريًا على كُلًا من مصر واليونان، عبر قوات تتمركز على الحدود هذه السواحل.
- كان رد مصر وقتها بفرض خط أحمر بين سرت والجفرة، يتدخل الجيش المصري مُباشرة في حال تخطته المليشيات الليبية أو داعميها من المليشيات السورية، كما يوضح الخريطة، التالية:
خريطة 3 – توضح مسار الخط الاحمر المصري في مواجهة المليشيات المدعومة تُركيًا.
- وقد أدى ذلك إلى القضاء على الطموح التُركي في قطع الاتصال الجُغرافي بين الدولتين، بعد السيطرة على الحدود السواحل الليبية الشرقية، فيما ظلت الاطماع التُركية قائمة في منطقة اقتصادية واسعة، تُخالف القانون الدولي للبحار.
- وردًا على ذلك سعت اليونان إلى ترسيم الحدود البحرية مع مصر، وذلك مخافة اقتطاع مساحات شاسعة من مياهها الاقتصادية الإقليمية الخالصة التي يمنحها إيها تواجد جزيرة Kastellorizio على مقربة من السواحل التركية كما أوضحنا سابقَا.
- وبالفعل في السادس من أغسطس وافقت كلا الدولتين على ترسيم جُزء من الحدود الغربية بينهما، دون ترسيم كامل الحدود، وذلك كما توضح الخريطة التالي:
خريطة 4 – توضح نقاط ترسيم الحدود المصرية اليونانية
- رُسمت الحدود على خمسة نقاط تبدأ من النقطة E في الغرب في اتجاه الحدود الليبية، وتنتهي بالنقطة A في الشرق في اتجاه الحدود التركية، مرروًا بالنقاط B، C وD، مع ترك الحدود التُركية مع اليونان وفي مواجهة مصر غير مُرسمة، يوضح الجدول التالي إحداثيات النقاط الخمسة:
- أسفر هذا النمط من الترسيم إلى ضمان الدولتين اتصالًا جغرافيًا بينهما، يسمح بمرور الكابلات في الوقت الحالي والمُستقبل، مع ترك مساحة لليونان لتسوية نزاعاتها مع تُركيا، سواء باستبقاء الحدود التي منحتها إياها جزيرة Kastellorizio، وفقًا لقانون البحار، أو التسامح مع الأتراك ومنحهم جُزء من هذه الحدود، درءً للنزاع في المُستقبل، أو في مُقابل تصفية التواجد التُركي في جزيرة قُبرص، التي يحتل الأتراك الجُزء الشمالي منها.
- لكن مصر قيدت اليونان بأن تستأذن مصر أولًا وأن توافق مصر على هذا الترسيم قبل أن يكون نافذًا أو صحيحًا، حيث ينص البند (د) من المادة الأولى من الاتفاقية على ما يلي:
“يكون تعديل الإحداثيات الجغرافية للنقطة A في اتجاه الشرق والنقطة E في اتجاه الغرب، بموجب اتفاق بين الطرفين، وذلك في حالة التعيين المستقبلي للمنطقة الاقتصادية الخالصة مع الدول المُجاورة المعنية الأخرى، على أن يقتصر التعديل في هذا الصدد على امتداد النقطة (A)، في اتجاه الشرق، وامتداد النقطة (E) في اتجاه الغرب“
- وبذلك تكون مصر ثبتت أساسًا لحدودها مع اليونان، وألزمت اليونان بالموافقة المصرية على أي ترسيم جديد مع تُركيا، وهو ما يعني أن مصر ستُحافظ في المًستقبل على امتداد هذه الحدود الجديدة من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لا يُمكن لتُركيا الترسيم مع اليونان إلى بعد موافقة مصر، وهو ما يعني أن مُستقبل الأحلام التُركية في البحر المتوسط، أصبح يتوقف على الإرادة المصرية، على ما توضح الصورة التالية:
- جدير بالذكر كذلك، أن هذا الترسيم منح مصر مساحة تصل إلى 55% من المسافة بين كُلًا من مصر واليونان، بدلًا من 50% فقط يقضي بها القانون الدولي، كما توضح الخريطة التالية:
- مُحصلة السابق إذن أن الجهود التُركية لتأمين إمدادات الطاقة، سواء بمحاولة تضيق المنطقة اليونانية الاقتصادية الخالصة، أو قطع الاتصال الجغرافي بين الدولتين إنما صبت في النهاية في المصالح المصرية، كما كُنا قد أشرنا في مقال سابق.