أفريقيا

تحركات متتالية: مصر في العمق الإفريقي.. سياقات متباينة ودلالات متعددة

شهدت الأيام المنصرمة من شهر مايو 2021 تكثيفًا للتحرك المصري في العمق الأفريقي على طول خط دول حوض النيل، في إطار استراتيجية سياسية وعسكرية متزنة تستهدف ربط القاهرة والقارة الأفريقية على كافة الأصعدة. غير أن تلك التحركات المتسارعة جاءت في صورة عسكرية لتضمن تنسيقًا واسع المجال بين كل من كينيا ورواندا وأوغندا والسودان، فضلًا عن الزيارة التاريخية للرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي في السابع والعشرين من مايو للتباحث حول تحقيق تنسيق عسكري مشترك.

ولعل هذا التعاطي الجديد مع دول القارة يُمثل ركنًا جوهريًا في المساعي المصرية للحضور في العمق الأفريقي، بعدما كانت تشهد تفاعلًا ضعيفًا نسبيًا على مدار الفترات السابقة على ثورة الثلاثين من يونيو 2013، وكذا يُرسخ لمرحلة جديدة تتماشى مع المتغيرات الإقليمية المتباينة التي تمس المصالح المصرية وتؤثر على أمنها القومي.

حوض النيل ومصالح مشتركة

تُمثل دول حوض النيل مرتكزًا مهمًا للتحركات المصرية والتفاعل بصورة مختلفة عن الماضي مع تلك الدول، نظرًا لاشتراكها في أحد مرتكزات الأمن القومي والمتمثل في الأمن المائي، ولعل تلك الخطوات المتسارعة نحو توطيد العلاقات المصرية ودول حوض النيل تأتي لتحقيق مزيدًا من التنسيق في كافة الملفات محل الاهتمام، علاوة على أنها تُمثل نقطة قوية لعودة القاهرة إلى قلب القارة الأفريقية.

ويأتي التعاون مع دول حوض النيل بعدما تأزم الموقف بين إثيوبيا وكل من السودان ومصر حول ملف المياه، علاوة على تعقيدات المشهد السوداني الإثيوبي في ضوء تفاقم أزمة الحدود المشتركة والتعنت الإثيوبي المعتاد انتهاجه في القضايا الحرجة، لذلك فالتعاون الذي يُرسخ لصفحة جديدة مع دول العمق الأفريقي يُعزز من موقف كل من القاهرة والخرطوم، ويحافظ بقدر كبير على المكتسبات المصرية المائية على مدار تاريخها.

ولعل الأهمية الاستراتيجية لتلك الدول تكمن بصورة أساسية في امتداد العمق المصري في القارة الأفريقية، وأنها تمثل جزءًا من الامتداد الأمني المائي لمصر؛ إذ تمتلك تلك الدول المجريين المائيين الجوهريين لنهر النيل وهما النيل الأزرق والنيل الأبيض، ويمتد الأخير من رواندا حتى الخرطوم.

واتصالًا بالموقع الجغرافي فإن كلًا من أوغندا وبوروندي من بين الدول المهمة التي تتقارب جغرافيًا مع إثيوبيا، وبالتالي فهي من الدول المهم التعاون معهًا على كافة الأصعدة.

ملاحظات متعددة

إن المتأمل للزيارات المتلاحقة لمصر في أفريقيا خلال الفترة الأخيرة يجد أنها تجتمع في جملة من السمات/ الملاحظات تتجلى في الآتي:

  1. جاءت الزيارات في صورتها العسكرية لتؤكد الرغبة المصرية في توسيع دوائر التفاعل والتعاون مع الدول الأفريقية الصديقة، للاستفادة من الخبرات المختلفة خاصة فيما يتعلق بمجال محاربة الإرهاب، وذلك نظرًا لما تمتلكه القاهرة من خبرة ممتدة في مواجهة الإرهاب، علاوة على الربط العسكري المشترك بينها وبين دول القارة.
  2. أما على صعيد النطاق الجغرافي، نجد أنها تضمنت نطاقًا إقليميًا واقعًا في حوض النيل والمتمثلة في كل من (كينيا – رواندا – أوغندا – السودان) وتربطها مصالح مائية مشتركة وذلك لتحقيق قدر من التفاهمات المستقبلية حيال هذا الملف.
  3. تشابه مخرجات الزيارات والتي تمثلت في توقيع اتفاقيات للتعاون العسكري والاستخباراتي المشترك؛ كما هو الحال بالنسبة لاتفاقية التعاون الاستخباراتي العسكري المشترك مع “كامبالا” في مجال تبادل المعلومات ومكافحة الإرهاب، وكذا اتفاقية دفاعية مع كينيا، واتفاقية عسكرية مع بوروندي في مجالات التدريب والتمارين المشتركة، وقد سبق ذلك توقيع اتفاقية دفاع مع السودان خلال شهر مارس المنصرم.
  4. اتخاذ المناورات العسكرية كحلقة وصل جوهرية لمسرح العمليات المشتركة بين كل من الخرطوم والقاهرة، حيث نجد أن هناك سلسلة ممتدة من المناورات التي تحمل اسم “نسور النيل 1 و2″، إضافة إلى المناورة العسكرية الأخيرة التي حملت اسم “حماة النيل” والتي تمت داخل قاعدة مروي التي تقع شمال السودان، مما يشير إلى أن مياه النيل أصبحت أهم مفردات التحركات المصرية السودانية مؤخرًا وفي المستقبل المنظور.

أهداف ورسائل متباينة

اتصالًا بالسابق؛ فإن جوهر الزيارات المصرية لتلك الدول جاء ليحمل في طياته جملة من الأهداف والرسائل والتي يمكن توضيحها في الآتي:

  1. العمل على توسيع دائرة التفاعل في العمق الإقليمي في منطقة القرن للقاهرة، خاصة في المجال الحيوي المائي، والتعاون المشترك مع دول حوض النيل أحد دوائر مصالح مصر الحيوية، وذلك كرصيد قوي في ميزان الدعم المقدم من جانب دول حوض النيل لمصر في مواجهة التهديدات الخاصة بالموارد المائية.

وعلى زاوية أخرى، من أجل العمل على تحقيق أكبر استفادة ممكنة من الموارد المختلفة التي تمتلكها تلك الدول، كما هو الحال بالنسبة لكينيا وتنزانيا وأوغندا والسودان، فبالنظر إلى تنزانيا نجد أن مصر قد ساهمت بصورة كبيرة في تشييد وبناء “سد تنزانيا”، إلى جانب كون أوغندا أحد أهم المحطات المائية الخاصة بنهر الكونغو، وبالتالي هي نافذة جيدة للبحث حول مصادر للمياه تحقق استقرارًا مائيًا لمصر.

  1. الحفاظ على المصالح الحيوية المصرية، فالخطوات التي تحركت في ضوئها القاهرة تستهدف بصورة رئيسة تعزيز امتدادها للمحور الجنوبي الواصل إلى منابع نهر النيل، وذلك لتعظيم الاستفادة من هذا الامتداد الجغرافي وللمحفزات المختلفة لكافة الدول المطلة على نهر النيل، وكسر دائرة التوسع للقوى المناوئة للقاهرة والتي تمس مصالحها الحيوية.
  2. تُشكل تلك التحركات أداة قوية وسياسة ردع واضحة للقوى المناوئة للقاهرة والتي تمس مصالحها الحيوية، كما تأتي في ضوء معادلة الخيارات المفتوحة للتعامل مع كافة التحديات التي تواجه الدولة المصرية في عمقها الأفريقي، خاصة بعد فشل مفاوضات كينشاسا التي جاءت تحت رعاية الاتحاد الأفريقي في ضوء التعنت المستمر من جانب إثيوبيا في هذا الملف، وبالتالي فهي رسائل نحو العودة القوية للبيئة والحاضنة الأفريقية والجاهزية لحماية الأمن القومي المصري.
  3. تحمل تلك التنسيقات الواسعة رسالة مفادها القدرة المصرية على الوصول إلى أي نقطة بصورة مباشرة. وتثبت كذلك قدرتها على لعب دور كبير في صناعة القرار داخل البيت الأفريقي، وتعزيز مسارات السلام وإقرار الأمن الداخلي كواحدة من أجندة مصر المُعلنة إبان توليها رئاسة الاتحاد الأفريقي 2019.

ختامًا؛ إن التحركات المصرية تستهدف بصورة كبيرة تصويب معادلة التفاعل مع العمق الأفريقي بعدما شهدت حالة من التراجع خلال الآونة الماضية، مع العمل على تنويع سبل التعاون المشترك التي لم تعد فقط قاصرة على النافذة السياسية والدبلوماسية، بل امتدت لترسخ علاقات عسكرية تستهدف تأمين المصالح المشتركة، ومجابهة التهديدات والتحديات المشتركة الجامعة بين القاهرة ودول حوض النيل على وجه التحديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى