السودان

رؤية استراتيجية: الرؤية المصرية لعملية التحول الديمقراطي في السودان

عكست كلمة الرئيس، عبد الفتاح السيسي، على هامش مشاركته في مؤتمر باريس لدعم السودان، رؤية استراتيجية وثوابت السياسة الخارجية المصرية، ليس إزاء السودان فحسب، بل تجاه كافة الدول الإقليمية.

وتستند هذه الرؤية بالأساس على وحدة وتماسك الدولة الوطنية، ودعم كل ما يدفع في هذا الاتجاه، بما يسهم في إرساء الاستقرار والتنمية الوطنية من جهة، وكذلك إرساء دعائم الاستقرار الإقليمي من جهة أخرى. 

وفقَا لتلك الرؤية؛ فإن السياسة المصرية تجاه السودان، التي تتسم بكونها شراكة استراتيجية، تستند إلى حجم وعمق الروابط التاريخية؛ ترتكز على محددات وثوابت سياسية واستراتيجية راسخة، وقد يكون من القصور في الرؤية من يرى أن الزخم في العلاقات المصرية السودانية، راجع إلى عوامل مرحلية، ترتبط بالملف المائي، أو سياسة عشوائية متخبطة، لا تقدر أبعاد المصالح والأهداف الاستراتيجية، وأنها لا زالت في مرحلة استكشاف لماهية دوائر المصالح المشتركة وإمكانية العودة بعد عقود من الجمود. 

لكن هذا الزخم في العلاقات، وما بلغته من مستوى متقدم على مختلف الأصعدة خلال الفترة الأخيرة؛ الذي جاء كنتيجة مباشرة لرحيل النظام الذي ساهم في توتر العلاقات بين البلدين لعقود؛ يستند إلى رؤية استراتيجية ثابتة ومستدامة، تكشف عن عمق الإدراك والتقدير المصري لحقيقة الأبعاد والروابط الاستراتيجية.

في ضوء، ذلك؛ تأتي مشاركة مصر في مؤتمر دعم المرحلة الانتقالية السودانية، بدافع دعم مصر الكامل في كافة المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، انطلاقًا من التزام مصر وإرادتها السياسية الثابتة بألّا تدخر جهداً لدعم استدامة السلام والتنمية والاستقرار في السودان، والحفاظ على وحدة أراضيه. وهو ما يأتي بالتوازي مع ما تشهده العلاقات الثنائية من قفزات متسارعة لتحقيق التكامل الفعلي بين البلدين في عدد من المجالات الحيوية، بما يدعم الحكومة الانتقالية السودانية في مساعيها لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني، وكذلك الاستقرار الاقتصادي والتخلص من ديونه المتراكمة وتخفيف أعبائه التمويلية.

رؤى وتحركات استراتيجية

عكس السيسي رؤية مصر الاستراتيجية تجاه السودان، والتي تنطلق من إيمان راسخ بأن أمن واستقرار السودان هو جزء لا يتجزأ من أمن واستقرار مصر والمنطقة. وعليه، عكست الرؤية المصرية لسبل دعم المرحلة الانتقالية، عن ثوابت مصرية استراتيجية تجاه السودان والدول الإقليمية، تجلت فيما حملته الكلمة من رسائل ودلالات:

  • تحقيق الاستقرار الأمني: 

انطلاقًا من الرؤية المصرية، بأن توفير البيئة الأمنية وتحقيق الاستقرار، هو الركيزة الأساسية لتماسك الدول والمجتمعات، ومن ثمّ انطلاق التنمية الشاملة، فإنها تولي جهود مكافحة الإرهاب وكذلك كافة سبل تحقيق وإرساء الأمن أولوية في تدخلاتها لحل الصراعات الممتدة. وعليه، تدعم مصر قيادة كافة جهود جهود بناء السلام وإحلال الاستقرار في السودان. وفي سبيل ذلك، أولت الجهود التي بذلتها الحكومة السودانية بهدف الوصول إلى اتفاق السلام في أكتوبر الماضي أهمية خاصة، ولا زالت تدفع في اتجاه إنجاح تطبيق متطلبات تنفيذ ذلك الاتفاق.

  • دعم الدولة الوطنية:

 دعم بقاء واستقرار الدولة الوطنية، هو الخط الثابت للسياسة الخارجية المصرية، تجاه كافة دول الإقليم التي لا زالت تكافح الصراعات الممتدة. ويرتبط بقاء الدولة الوطنية في السياسة المصرية بمجموعة من المؤشرات، التي تنطلق منها تلك السياسية، أهمها بناء دعائم مؤسسات الدولة المختلفة على أسس قوية وسليمة، خاصة الجيش الوطني الموحد، باعتباره الركيزة الأساسية للسلام والاستقرار، وعليه تلزم مصر بدعم جهود السودان في برامج نزع السلاح وتسريح المقاتلين وإعادة دمجهم، كخطوة نحو إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية، ووضع اتفاق السلام موضع التنفيذ. وكذلك تعمل مصر على نقل الخبرات الفنية العسكرية من خلال تدريب الجيوش والمؤسسات الأمنية، ورفع مستوى التعاون الأمني والعسكري في هذا الصدد، وصل أعلى مراحله في اتفاق التعاون العسكري المشترك، الذي وقّعه الجانبان في مارس الماضي. 

  • إرساء أسس المواطنة:

 بناء توافق وطني شامل، وكذلك إعادة بناء المجتمعات في مرحلة ما بعد الصراعات أو التحولات السياسية الجذرية، هي ركيزة مصرية ثابتة، انطلاقًا من قناعة راسخة أن الدولة ليست مؤسسات وهياكل راسخة ومتماسكة فحسب، بل تدرك السياسة المصرية أهمية بناء مجتمع وطني متماسك يعكس القيم والمبادئ المجتمعية والوطنية والهوية المشتركة للمجتمع. وهو في تعكسه الرؤية المصرية، سواء في السياسات على المستوى الوطني من خلال التركيز على قيم ومبادئ كبناء الإنسان وقيم الأسرة باعتبارها ركيزة المجتمع، وكذلك البحث في التاريخ عن الهوية الجامعة والثقافة المشتركة للمجتمع. وهو ما يتجلى في السياسة الخارجية من خلال دعم مبادئ المواطنة وإعادة بناء المجتمعات على أسس وهوية مشتركة، لا تستند للتعصب القلبي والإثني والمناطقي، كما تعاني أغلب الدول التي تشهد صراعات. وبذلك تدعو مصر دائمًا إلى معالجة القضايا القبلية والإثنية السودانية، والعمل على بناء نسيج وطني جامع يؤسس لمرحلة الاندماج الوطني في سودان ما بعد البشير. 

  • تحقيق التنمية الاقتصادية: 

انطلاقًا من أن التماسك المجتمعي وبناء مؤسسات دولة راسخة، في بيئة أمنية مستقرة، لا يسهم في النهاية في خلق نظام وبقاء دولة ومجتمع مستقرين، دون تحقيق تنمية وطنية شاملة؛ فإن الرؤية المصرية لا يغب عنها دعم عوامل التنمية الشاملة. وعلى ضوء ذلك، تدعم مصر جهود الحكومة الانتقالية في دعم الاقتصاد السوداني الذي يعاني من أزمات هيكلية مزمنة؛ سواء ذلك عن طريق دعم التعاون الاقتصادي وتكثيف التبادل التجاري، أو تعزيز التعاون الفني من خلال نقل الخبرات الفنية وتجربة الإصلاح الاقتصادي المصرية، وكذلك تقديم التدريب الفني والخبرات للمؤسسات والكوادر السوداني،  فضلًا عن تقديم الدعم الدبلوماسي ودعم الجهود الرامية إلى دمج الاقتصاد السوداني دوليًا، وتأتي المشاركة المصرية في قمة باريس، في إطار خطوات دعم المبادرات الدولية الرامية إلى تسوية ديون السودان.

  • دعم الاستقرار الإقليمي للسودان:

 في ضوء إعادة صياغة السياسة الخارجية السودانية، وإعادة صياغة وبناء التحالفات الخارجية، تأتي التوجهات المصرية داعمة لإعادة تموضع السودان إقليميًا، من خلال بناء رؤية وتحالفات ثنائية، تستند إلى رؤى متسقة، رامية إلى توفير بيئة أمنية وسياسية مواتية في المحيط الإقليمي للسودان. وعليه جاءت التحركات المصرية السودانية متسقة خلال التعامل مع القضايا الإقليمية، سواء فيما يتعلق بقضايا المياه أو الحدود السودانية، بما يعمل على دعم وحدة وسيادة الدولة في محيطها الإقليمي.

في الأخير، لا يمكن رؤية التنسيق المصري السوداني، وكذلك التوجه الفرنسي ناحية دعم السودان في المرحلة الانتقالية، بعيدًا عن التقاطع في الرؤية الاستراتيجية، الرامية إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي، وكذلك رفع مستويات التعاون الاقتصادية وكذلك السياسية والأمنية، خاصة مع أهمية السودان في محيطه الإقليمي، وارتباط الأمن القومي السوداني بدوائر الاهتمام الاستراتيجي المصري وكذلك الفرنسي في كل من ليبيا وتشاد، وكذلك الامتداد الجغرافي لخط الساحل والصحراء. 

وبذلك فإن دعم الانتقال الديمقراطي في السودان، وكذلك دعم استقراره الأمني، هو أولوية مصرية سودانية تشترك معهما فيها الرؤية الفرنسية، التي ترى في الامتدادات الجغرافية والقبلية، أحد العوامل الحاكمة لأمن منطقة نفوذها التقليدي في منطقة الساحل والصحراء.

ولأن المعادلة الأمنية لا تنفصل عن التنمية، فإن كل عوامل انجاح المرحلة الانتقالية السودانية، ودعم اقتصادية، يعد أولوية استراتيجية لتحقيق الاستقرار والأمن، في ذلك البلد الذي لا زال يعاني من الصراعات القبلية والتحديات الانتقالية، بما قد يؤثر على أمنه وأمن المنطقة ككل. كذلك، بعد رفع السودان من قوائم الإرهاب، أصبح سوقًا جاذبة للاستثمارات الدولية، التي ترى فيها فرنسا فرصة واعدة لإعادة صياغة انخراطها إفريقيا، بعد أن أظهرت المقاربة العسكرية عدم فاعليتها في تحقيق مصالح فرنسا الاستراتيجية، وكذلك استمرار التنافس والتدافع الدولي المهدد للمصالح الفرنسية في مناطق نفوذها التقليدية، بما يجعل من أهمية تعزيز وإعادة بناء تحالفات وإعادة صياغة حضورها في المنطقة أولوية استراتيجية، تجّلت أبرز ملامحها في تحركها الأخير نحو دعم المرحلة الانتقالية السودانية والاقتصاد السوداني، وكذلك دعم الاقتصادات الإفريقية التي تعاني من تداعيات جائحة كورونا.

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى