القضية الفلسطينيةسياسة

موقف ثابت ودور محوري.. قراءة في التحركات المصرية في التصعيد الإسرائيلي-الفلسطيني

تتواصل الجهود الدولية عمومًا والمصرية على وجه التحديد لإنهاء حالة التصعيد في قطاع غزة والقدس المحتلة، والتي دخلت أسبوعها الثاني منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي قصفه على قطاع غزة (10 مايو). وبينما تستمر ضربات الطائرات والزوارق البحرية الإسرائيلية على قطاع غزة ضمن عملية “حارس الأسوار”، مخلفة أضرارًا هائلة في البنى التحتية ومئات الشهداء والجرحى، وفي المقابل تستمر الرشقات الصاروخية التي تطلقها الفصائل الفلسطينية والتي تصل إلى العمق الإسرائيلي مخلفة خسائر بشرية ومادية كبيرة لإسرائيل؛ تبذل القاهرة جهدًا دبلوماسيًا مضنيًا للوصول إلى وقف لإطلاق النار، تمهيدًا لهدنة طويلة الأمد بين الجانبين، وهو ما أكده الرئيس السيسي في تصريحاته من العاصمة الفرنسية باريس (16 مايو).

مواقف ثابتة

كانت وما زالت القضية الفلسطينية أهم أولويات السياسة المصرية، وقضيتها المركزية، وثابتًا لا يتغير في عقيدة سياستها الخارجية على مر التاريخ وفقًا لمعطيات تفرضها حقائق الجغرافيا والتاريخ والدور والتأثير، وضرورات صيانة الدوائر المباشرة للأمن القومي المصري والعربي. برهن على ذلك الكثير من الوقائع التاريخية التي كان التحرك المصري فيها حاسمًا في دعم القضية الفلسطينية رغم كل ما طرأ من تغيرات إقليمية ودولية جعلت حق الفلسطينيين يتراجع في ترتيب القضايا الأكثر إلحاحًا –حتى على المستوى العربي- التي يتعين النظر فيها بشكل عاجل والوصول إلى حل لها.

  • تحرك سريع

بدأت مصر تفاعلها مع ما يجري مؤخرًا في الأراضي المحتلة بشكل سريع منذ أحداث تهجير أهالي حي الشيخ جراح ضمن النشاطات الإسرائيلية المستمرة لتهويد القدس، وما تبعها من عمليات اقتحام لباحات المسجد الأقصى من قبل المستوطنين الإسرائيليين بحماية من قوات الاحتلال، ومنع المصلين من دخول المسجد. إذ أدانت الخارجية المصرية في بيان (7 مايو) قيام السلطات الإسرائيلية باقتحام المسجد الأقصى والاعتداء على المقدسيين.

وأكدت كذلك في لقاء مساعد وزير الخارجية السفير نزيه النجاري مع سفيرة إسرائيل لدى القاهرة أميرة أورون (9 مايو) وفي بيان (10 مايو) ضرورة احترام المقدسات الإسلامية، وتحمل السلطات الإسرائيلية مسؤوليتها إزاء هذه التطورات المتسارعة والخطيرة، والتي تُنبئ بمزيد من الاحتقان والتصعيد الذي لا يُحمد عُقباه، مشددة على ضرورة وقف كافة الممارسات التي تنتهك حُرمة المسجد الأقصى المبارك.

ومع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أجرى وزير الخارجية سامح شكري اتصالًا بنظيره الإسرائيلي جابي اشكنازي (12 مايو) أكد خلاله ضرورة وقف الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. وهو الموقف ذاته الذي كان قد أكده شكري في كلمته في الاجتماع الوزاري الطارئ لجامعة الدول العربية (11 مايو). وقامت مصر بنقل رسائل إلى إسرائيل وكافــة الدول الفاعلة والمعنية لحثها على بذل ما يمكن من جهود لمنع تدهور الأوضاع في القدس. ذلك علاوة على إرسال القاهرة لوفد أمني إلى تل أبيب وقطاع غزة (13 مايو) لبحث التوصل إلى وقف إطلاق النار بعدما لم تجد رسائلها الصدى اللازم، حسبما أوضح شكري في كلمته أمام الجامعة العربية.

الموقف ذاته أكدته مصر في بيانها الذي ألقاه وزير الخارجية سامح شكري أمام الجلسة العلنية لمجلس الأمن لمناقشة الوضع في الشرق الأوسط (16 مايو) إذ شددت على أن العرب والمسلمين ضاقوا على مدى العقود الثلاثة الماضية مما بدا تغييباً وتسويفاً لا نهائياً لوعود وتعهدات دولية ذات طابع قانوني بالتفاوض الجاد حــول إنشاء دولة فلسطينية على الأراضي التي تم احتلالها عام 1967 والتي تشمل القدس الشرقية، وأن مشهد الصراع العسكري الحالي يهدد مستقبل السلام والاستقرار في المنطقة، داعيًا مجلس الأمن حثيثًا لأن يلتفت لهذا الوضع المتأزم، وأن يرتقي إلى حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقه لإنهاء جولة الصراع الحالية،

ذلك فضلًا عن فتح معبر رفح وتوجيه القيادة السياسية بتقديم كافة المساعدات اللازمة للأشقاء في قطاع غزة، ورفع حالة الاستعداد في المستشفيات المصرية لاستقبال المصابين والجرحى جراء القصف الإسرائيلي على القطاع.

  • توصيف دقيق

يُلاحظ في هذه التحركات المصرية السابق ذكرها وغيرها –والتي لم تتوقف عند حد الشجب والإدانة- وخاصة كلمة وزير الخارجية أمام الاجتماع الطارئ لجامعة الدول العربية أنها حملت توصيفات دقيقة وذات رسائل ومغزى واضح ومهم لما يجري على أرض الواقع؛ إذ أكدت “المسؤولية القومية لمصر إزاء الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة”، مشددة على أن “حي الشيخ جراح بات عنوانًا للصمود ومرادفًا للكرامة ينظر إليه كل عربي بفخر واعتزاز” وأن “الاهتمام العربي –شعبيًا ورسميًا- بما يحدث في القدس لهو أكبر رسالة تؤكد أن فلسطين كانت وستظل هي قضية العرب المركزية”. 

وكذلك الأمر بالنسبة لما جاء على المستوى الديني من توصيف الأزهر الشريف لما يجري بأنه “إرهاب صهيوني غاشم”. “وأن الاحتلال الصهيوني انتهك حرمة المسجد الأقصى” وضرورة “استخلاص القدس الشريف من أيدي شُذّاذ الأرض” حسبما قال الدكتور أحمد عمر هاشم عضو هيئة كبار العلماء من على منبر الجامع الأزهر.

دعم دولي

اتصالًا بمواقفها التاريخية ودورها المحوري في هذا الملف الحيوي للسلم والأمن الدوليين وعلاقاتها الوطيدة مع الفصائل الفلسطينية، وخطوط الاتصال المفتوحة مع إسرائيل، كانت مصر محور اتصالات وجهود دبلوماسية من أطراف دولية وإقليمية عديدة بهدف تنسيق المواقف، ودعم جهود الوساطة المصرية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية للتوصل إلى وقف إطلاق النار. ولذلك تلقى وزير الخارجية سامح شكري اتصالًا من المبعوث الأممي للسلام في الشرق الأوسط تور وينسلاند (10 مايو)، وأجرى اتصالًا مع وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان (10 مايو)، وتلقى اتصالين من كل من وزير الخارجية الألماني هايكو ماس والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيف بوريل (12 مايو) لبحث جهود إنهاء الأزمة.

وأجرى شكري كذلك اتصالًا بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف (13 مايو)، واتصالًا بوزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان وتلقى اتصالًا من وزير خارجية أيرلندا سيمون كوفيني (13 مايو)، وتباحث الأزمة مع وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي (14 مايو)، وبحث التحرك العربي في مجلس الأمن الدولي من خلال اتصال مع وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي (14 مايو)، ثم تباحث التطورات مع وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان (15 مايو) ووزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثان (16 مايو)، وصولًا إلى تلقيه اتصالًا من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن (16 مايو)،  ووزير خارجية اليونان “نيكوس ديندياس” ووزير الخارجية الهولندي “ستيف بلوك” (17 مايو).

وتشير هذه المعطيات إلى أن الجميع بات يعول على الدور المصري في خفض التصعيد انطلاقًا من دورها التاريخي في القضية الفلسطينية، وخطوط الاتصال مع إسرائيل والعلاقات الوطيدة مع الفصائل الفلسطينية كافة، وما يمكن أن تنجزه جهود القاهرة المكثفة والمتسارعة من وقف لإطلاق النار والخروج من الأزمة. وذلك استمرارًا للجهود المصرية التي أسفرت عن نتائج مشابهة في عديد المواقف السابقة. 

ولذلك تحظى هذه التحركات المصرية بدعم دولي واسع، منه ما قاله المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس (13 مايو) بأن “واشنطن تركز على الجهود الدبلوماسية مع الإسرائيليين والفلسطينيين والأطراف الإقليمية كمصر وقطر”. وكذلك وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلال اتصال مع السفير المصري في لندن (13 مايو). وأكدت جين ساكي المتحدثة باسم البيت الأبيض (13 مايو) أن “مصر وتونس ودولًا أخرى في المنطقة يمكنها أن تلعب دورًا في المدى القريب لتهدئة الصراع الدائر بين الإسرائيليين والفلسطينيين”.

وتعمل الولايات المتحدة على استكمال هذه الجهود من خلال إرسال مساعد وزير الخارجية للشؤون الفلسطينية والإسرائيلية هادي عمرو (14 مايو) تزامنًا مع استمرار زيارة الوفد المصري إلى تل أبيب؛ لتعزيز الضغط على مختلف الأطراف لقبول الهدنة.

متغيرات وثوابت

على الرغم من تشابه التصعيد الحالي مع أحداث سابقة في العديد من المؤشرات، إلا أنه يحمل متغيرًا غاية في الأهمية تم بجهود مصرية أيضَا؛ وهو الالتئام النسبي للفُرقة بين الفصائل الفلسطينية بناء على جهود حثيثة بذلتها مصر لإنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية، لا سيّما وأن هذا الانقسام هو أحد الأسباب التي أدت إلى الجمود الراهن في عملية السلام، وتعمل إسرائيل على إذكائه لاستمرار الأمر الواقع الذي يصب في مصلحتها. 

فقد شهدت الشهور الأخيرة عشرات الزيارات لوفود مصرية إلى رام الله وقطاع غزة لتحقيق هذه المصالحة، وصولًا إلى عقد الحوار الوطني الفلسطيني خلال شهري فبراير ومارس الماضيين، والذي تم خلاله التوصل لاتفاق حول الشراكة الوطنية والانتخابات العامة والتوقيع على “ميثاق الشرف”. وهو ما أدى إلى تماسك الجبهة الداخلية الفلسطينية في مواجهة العدوان الإسرائيلي، واسترعى موقفًا أكثر قوة من الجميع للدفاع عن حقوق الفلسطينيين ورفضًا للانتهاكات الإسرائيلية.

الثابت في هذا الإطار أن هذا الموقف القوي والدور المهم لم يصدر إلا عن القاهرة، ولم يصدر عن دول أخرى، سواء تلك الدول التي تراجعت القضية الفلسطينية في ترتيب أولويات اهتماماتها بفعل التحولات الإقليمية والدولية التي حدثت خلال الفترات الأخيرة، أو تلك الدول التي اكتفت بالشجب والإدانة رغم أنها حاولت خلال الأعوام الأخيرة أن تظهر بمظهر المدافع الأوحد عن القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين، وحماية المسلمين والمقدسات الإسلامية في كافة البقاع دون تقديم ما يستوجبه هذا الدفاع.

الهدنة وما بعدها

  • هدنة حتمية

تشير الوقائع التاريخية المشابهة من التصعيد العسكري بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية إلى أنه حتمًا سينتهي بقبول جميع الأطراف للوساطات الدولية وصولًا إلى وقف إطلاق النار. إلا أن التوصل إلى هذه الصيغ من التفاهمات والاتفاقات قد يتطلب وقتًا أطول في ضوء الطلبات التي سيقدمها كلا الطرفين والتي يُتوقع أن تكون أكثر تشددًا بعد أن شهدت المواجهة الدائرة حاليًا تغيرًا تكتيكيًا عسكريًا استطاعت بموجبه فصائل المقاومة الوصول عمق إسرائيل باستخدام أنواع مختلفة وجديدة من الصواريخ والطائرات المسيّرة مخلفة خسائر بشرية ومادية.

تحاول تل أبيب تجاوز هذه الخسائر من خلال إطالة أمد غاراتها وقصفها على قطاع غزة بهدف تدمير القدرات العسكرية للفصائل، واستهداف بعض قادة المقاومة، مثلما حدث بمقتل عدد من قادة كتائب عز الدين القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) منهم باسم عيسى أبو عماد قائد لواء غزة (12 مايو)، واستهداف منزل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار (16 مايو)، ومقتل قائد لواء الشمال في سرايا القدس (الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) حسام أبو هربيد (17 مايو).

وهي ضربات تستطيع حكومة تصريف الأعمال برئاسة بنيامين نتنياهو تسويقها للداخل الإسرائيلي بوصفها قد حققت الهدف المرجو من الحرب، لا سيّما وأنها تواجه مأزقًا سياسيًا داخليًا قد يجعلها تقبل على انتخابات جديدة هي الخامسة في غضون نحو عامين فقط، ذلك فضلًا عن الحراك الشعبي الفلسطيني الذي يشبه الانتفاضة داخل المدن المحتلة مثل القدس واللد وحيفا وعكا، والذي يهدد بانفجار الأوضاع داخل هذه البلدات، ويزيد الأمور تعقيدًا أمام الساسة الإسرائيليين.

ومن ثم، فمن المتوقع أن تسفر التحركات الكثيفة التي تقوم بها مصر بدعم دولي إلى خفض وتيرة التصعيد بين الجانبين، وصولًا إلى هدنة طويلة الأمد تتحقق بضمانة مصرية ودولية، وبالتزامات محددة على عاتق كلا الطرفين، لعل من أهمها وقف الممارسات الاستفزازية في القدس، ووقف عمليات إخلاء الأحياء الفلسطينية وهدم منازل الفلسطينيين ووقف الاعتقالات العشوائية بحقهم، ووقف الجهود الإسرائيلية لتهويد القدس ومساندة المستوطنين في اقتحام باحات المسجد الأقصى ومنع المصلين من دخوله.

  • إحياء القضية

أثبتت الأحداث الأخيرة وردات الفعل الرسمية والشعبية عليها أن القضية الفلسطينية لا تزال القضية المركزية للعرب، وأن محاولات تصفية القضية بعد اشتعال المنطقة عام 2011 وتراجعها في ترتيب أولويات المجتمع الدولي قد باءت بالفشل. وهو ما أكدته مصر في أكثر من محفل، مشددة على أنه لن تنعم المنطقة بالأمن والاستقرار ما لم يتم الوصول إلى حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية يراعي حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967. 

ومن ثم فإن هذه الأحداث الأخيرة قد تعيد لفت أنظار المجتمع الدولي إلى أهمية ومحورية القضية الفلسطينية لأمن المنطقة بالكامل، وهو ما يتطلب جهدًا دوليًا عاجلًا وبنّاءً للوصول إلى حل لهذه القضية، وإعادة بناء الثقة بين الطرفين، عبر وقف الأعمال الاستفزازية، والبناء على الجهود التي بذلتها مصر خلال السنوات الأخيرة لإعادة إحياء القضية ورسم خارطة طريق جديدة لها، وذلك عبر حواراتها مع مختلف القادة الإقليميين والدوليين، وخاصة من خلال اللجنة الرباعية الدولية (مصر – الأردن – ألمانيا – فرنسا) لخلق بيئة مواتية لاستئناف الحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين من منطلق أن تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل الدولتين هو مطلب لا غنى عنه لتحقيق سلام شامل في المنطقة.

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى