مصر

الدراما الوطنية تطارد فلول الوعي الزائف

مع عزم الدولة المصرية منذ 30 يونيو 2013 على تصفية خطاب المؤامرة وروافده وفلوله، يأتي الدور على السرديات والروايات الإخوانية للتاريخ والواقع، وهي مجالات شهدت تراجعًا لدور الدولة منذ سبعينات القرن العشرين وحتى تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي المسؤولية في يونيو 2014، إذ أوقن صانع القرار في مصر أن الوعي الزائف كان المرجعية الشعبية للفوضى الخلاقة التي ضربت مصر ما بين عامي 2011 و2013 وما تلاها من موجة إرهاب جديدة لم تنته إلا بحلول أكتوبر 2016 حينما تم تصفية القيادي الإخواني محمد كمال.

ولقد بحثت الدولة المصرية عن قنوات الاتصال اللازمة للتواصل مع الشعب المصري عبر سنوات، ما بين تحديث صفحات الدولة المصرية وتدشين صفحات غير مسبوقة سواء للقوات المسلحة والداخلية والمتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية المصرية إضافة إلى مجلس الوزراء المصري والنيابة العامة، إضافة إلى عدد من نشرات الأخبار الاحترافية وبرامج “التوك شو” التي تقدم التوعية الوطنية جنبًا إلى جنب مع فقرات الترفيه حتى لا يصبح البرنامج أشبه بنص حكومي صارم، ولكن الدولة المصرية بعد سنوات من العمل عبر السوشيال ميديا والصحافة والإعلام قد وجدت ضالتها في الدراما الوطنية، سواء السينمائية أو التلفزيونية.

تعاقب نجاح فيلم الممر ومسلسل الاختيار في موسمه الأول، كان مفاجأة على ضوء ادعاء صناع الدراما في بلادنا طيلة سنوات أن الجمهور لا يتعاطى مع الأعمال الثقيلة، حتى أن الرئيس عبد الفتاح السيسي في الندوة الثقافية الـ32 للقوات المسلحة يوم 11 أكتوبر 2020 والتي أتت احتفالًا بذكرى الانتصار في حرب 6 أكتوبر 1973، قد قال نصًا لإبطال مسلسل الاختيار الذين صعدوا للمنصة إنه “خلال سنين كثيرة من التناول الإعلامي لموضوعات تتم في سيناء، لم تصل للناس بنفس المستوى الذى وصل خلال شهر رمضان” في إشارة إلى النجاح الباهر لمسلسل الاختيار في موسمه الأول.

وفى الساعات الأخيرة من رمضان 2020، كانت الشركة المنتجة للاختيار (المتحدة للخدمات الإعلامية) تعلن عن ثلاثة مسلسلات جديدة لرمضان 2021، “الاختيار” في موسمه الثاني و”هجمة مرتدة” بالإضافة إلى “القاهرة: كابول”، مما شكل جرعة مكثفة من الدراما الوطنية في رمضان 2021 بعد غياب سنين.

إن اهم ما يميز الدراما الوطنية في سنوات ما بعد ثورة يونيو 2013، هو عدم المبالغة، والتوازن ما بين الشق الوثائقي والشق الدرامي، فلا يجوز من الناحية الفنية أن يتحول المسلسل إلى مشاهد وثائقية بحتة، وإلا انتقل من خانة المسلسل الدرامي إلى المسلسل الوثائقي.

ولكن الضربة الكبرى كانت في مناقشة والرد على مرجعيات المظلومية الإخوانية أو المظلومية الشعبية التي صنعها التنظيم الإخواني، سواء عبر الإخوان أو باقي تنظيمات الإسلام السياسي التي تعمل تحت عباءة مكتب الإرشاد، وحتى عبر الظهير المدني للإخوان في التيارات اليسارية والليبرالية والحقوقية، في اشتباك حاد لم يتعود عليه هؤلاء الذين امتلكوا ناصية تشكيل الوعي الجمعي المصري طيلة 40 عامًا من غياب دور الدولة في تنظيم وضبط إيقاع قطاعات الصحافة والإعلام والتلفزيون والسينما والفكر والثقافة والوسط الأكاديمي حتى نجحت المؤامرة في مصادرة القوى المصرية الناعمة وأصبحت قوى ناعمة في أرصدة المؤامرة وخنجرًا في ظهر الشعب المصري في أحلك الأوقات.

بعد سنوات من الحق الحصري للإخوان وظهيرهم المدني في سرد التاريخ وروايات الواقع، وتوزيع صكوك الوطنية والخيانة والثورة والدين على الرئاسة والجيش والشرطة والنيابة ورجالات الدولة وحتى المواطن العادي المحب لوطنه والرافض للانخراط في دروب الإخوان وظهيرهم المدني، ظهر بغتة “الند” القادر على مقارعة هؤلاء، بل ونسف ديباجتهم الهزلية واحدة تلو الأخرى.

ولعل نجاح الدراما الوطنية في جيلها الأول بمسلسل “كلبش” والجيل الثاني بفيلم “الممر” ومسلسلات رمضان 2020 و2021، يوضح بجلاء جريمة ترك الوعي الجمعي المصري أسيرًا لخطاب المؤامرة، ما ساهم في تشكيل ما أطلق عليه الرئيس السيسي في المؤتمر الوطني للشباب الثالث بالإسماعيلية أبريل 2017 “وعي زائف”. وعي زائف شاركت فيه أنظمة سابقة لم تكلف خاطرها شرح الموقف للشعب المصري، ومتآمرون استغلوا الفراغ وغياب النظام في ممارسة دوره وملؤوا الوعي المصري بالزيف والدونية والمظلومية والاستحقاق على حساب الواقع.

هزيمة الخطاب الإخواني، وتآكل مظلوميته، وتلك المطاردة الحثيثة لبقايا وفلول الوعي الزائف، من أجل تغذية الوعي الجمعي المصري بالحقائق دون مواربة، ففي مسلسل “الاختيار -2” يتم مناقشة انحراف وانشقاق عناصر من الشرطة المصرية لا تعبر عن عراقة وقيم هذا الجهاز الرفيع، بكل شفافية أمام الشعب المصري ودون تجميل للمشهد، وكذا في مسلسل “هجمة مرتدة” و”القاهرة: كابول” يتم مناقشة بجلاء أن أجهزة الدولة المصرية قد حققت اختراقًا مهمًا لتنظيمات الإسلام السياسي في العراق وأفغانستان قبل الربيع العربي، وكذلك كشفت عن الاختراق الإسرائيلي لتلك التنظيمات وكيف استطاعت الدولة المصرية أن يكون لها أعين في لعبة صناعة النشطاء والحقوقيين منذ مرحلة التدريب في شرق أوروبا وحتى ما جرى عشية 25 يناير 2011، ولكن – وفقًا للمسلسلين وبكل شفافية– كان للإدارة السياسية وقتذاك تقدير خاطئ وتشخيص خاطئ لكل المعلومات التي توفرت لها ما أدى إلى الإخفاق الأمني الذى أوصلنا إلى أحداث 28 يناير 2011.

هل هنالك دولة أو نظام ممن صدع القاهرة بالشفافية واحترام حرية الشعب في المعرفة، قد ناقش تفاصيل بتلك الحساسية علنًا أمام شعبه، في مسلسلات جماهيرية خلابة تعرض في أوقات الذروة؟

من أجل هزيمة الزيف كان يجب سرد الحقيقة كاملة مهما كانت موجعة، أو ما بدا من عدم توفيق في بعض المراحل، وكانت النتيجة أن عناصر التنظيم الهاربة إلى الخارج، أو ظهيرهم المدني، قد سارعوا إلى تشكيل حملة تدوين منظمة استخدمت فيها لجان إلكترونية، من أجل مهاجمة المسلسلات الثلاثة، سواء عبر محاولة التأكيد على السرديات المزيفة، أو تأليف وقائع بديلة كاذبة، إضافة إلى تحريك صفحات فنية وكوميدية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لشن حملة سخرية وتسفيه من المسلسلات الثلاث، وصولًا إلى إطلاق شائعات على مسلسل بعينه في حادثة ربما هي الأولى من نوعها، حينما ادعت بعض المواقع الصحفية وصفحات “السوشيال ميديا” أن شخصية “يوسف الرفاعي” التي جسدها الفنان أحمد مكي عبر مسلسل “الاختيار 2” سوف تنشق لاحقًا وطالب مروجو تلك الشائعة بعدم التعاطف مع بطل المسلسل لأنه سوف ينشق لاحقاً! وهي الشائعة التي ثبت كذبها.

وكذا، شكل العدو لجانًا إلكترونية الغرض منها ممارسة الإعدام المعنوي بحق أبطال تلك المسلسلات، عبر التعليق في صفحاتهم الرسمية وعبر حساباتهم الشخصية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مهددين إياهم بخسارة شعبيتهم، ومقاطعة أعمالهم، وخسارة تاريخهم الفني. وللمفارقة فإن نسبة التعليق والمشاركة والمشاهدة على تلك الصفحات كانت الرد الأمثل على تلك اللجان، حيث حصدت أرقامًا مليونيه غير مسبوقة.

خسارة مدعي المعارضة لذلك الحق الحصري في كتابة الواقع والتاريخ، وتقديم التاريخ الحقيقي والإجابات الصريحة دون تجميل لما جرى، وذلك في قالب درامي ممتع مهنيًا؛ تلك كانت أهم ضربة في حروب الوعي، حتى أصبحت الدراما الوطنية هي دراما الوعي في زمن محاولة إنتاج وعي زائف وتاريخ بديل وإبادة الذاكرة الجمعية للشعوب من أجل إنتاج ذاكرة بديلة مزيفة تخدم خطاب المؤامرة والفوضى الخلاقة.

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى