الأمريكتان

علاقات متأرجحة.. هل تذهب أنقرة وواشنطن لنقطة اللاعودة؟

يبدو أن العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية قد تشهد مرحلة مختلفة ومتشابكة في عهد الرئيس الأمريكي “جو بايدن”؛ إذ صعدت إدارة البيت الأبيض من تحركاتها ولجأت لعدد من الإجراءات الرامية لتطويق تركيا أو على أقل تقدير للحد من تحركاتها. ورغم أن كافة التقديرات كانت تشير إلى أن العلاقة بين الطرفين قد تختلف بشكل كبير عما كانت عليه في ظل إدارة “ترامب”، إلا أن حدود التعاطي ومستوى الخناق والتحجيم الأمريكي على تركيا بدت ملامحه تظهر بصورة سريعة، ما يعني أن العلاقة بينهما دخلت حيزًا جديدًا يحتاج لتتبع مساراته؛ بهدف معرفة ما إذا كنا على اعتاب انفصال مبكر بين الطرفين، أم أن المصالح المتبادلة قد تتجاوز تلك التحديات.

ضريبة مُكلفة

كان موقف “جو بايدن” واضحًا بشكل كبير تجاه تركيا ونظامها الحاكم، فعندما كان مرشحًا لإدارة البيت الأبيض وصف الرئيس التركي بالمستبد، كما اعتبر أن على أردوغان أن يدفع ثمن تحركاته وسياساته، فهل بدأ أردوغان في دفع الضريبة؟ وللإجابة على هذا السؤال يمكننا الوقوف على ملامح الاشتعال المبكر ومؤشرات التوتر التي ظهرت خلال الأشهر الأولى لولاية بايدن وذلك فيما يلي:

  • أولًا: الاتصال المؤجل، في أغلب الأوقات تعكس الاتصالات والزيارات المبكرة التي يقوم بها الرؤساء والقادة الجدد في أعقاب توليهم إدارة شؤون بلادهم طبيعة ومستوى الأولويات وشكل العلاقة المحتملة مع مختلف الأطراف الدولية. ومن هنا جاء تفسير تأخر الاتصال -بين بايدن وأردوغان- كمؤشر لطبيعة الفتور والتوتر المحتمل بينهما، خاصة وأن التواصل الأول (23 أبريل) جاء بعد نحو ثلاثة أشهر من وصول بايدن للبيت الأبيض، ما يؤكد على أن العلاقات بين الطرفين اتخذت منذ البداية شكلًا مغايرًا لتلك العلاقة الودية والشخصية التي جمعت ترامب بإردوغان والتي تشكلت على أساس المرونة والتساهل في التعاطي مع تركيا وتحركاتها في الإقليم، ويبدو أن إدارة بايدن عازمة على تبني نهج أكثر صرامة وحزمًا مقارنة بالإدارة السابقة. 
  • ثانيًا: إس 400 ومعضلة الانفصال الاستراتيجي، ارتفع منسوب التوتر ودخلت العلاقة بين أنقرة وواشنطن مرحلة من الشد والجذب على خلفية التقارب التركي الروسي، خاصة بعدما أقدمت انقرة على شراء منظومة الصواريخ “إس 400” ما اعتبرته واشنطن خروجًا عن مظلة الدفاع الجماعي للناتو، وتقاربًا يحمل تهديدًا للولايات المتحدة ومنظومة “إف 35”. ومع عدم التفات أنقرة لمخاوف واشنطن وحلفائها في الناتو، وبعدما تعاقدت على المنظومة الروسية؛ بدأت واشنطن تتبني نمطًا متدرجًا في العقاب ظهر في عدة ملامح. أولًا) إعلان الولايات المتحدة (17 يوليو2019) أنهاء مشاركة تركيا في برنامج الطائرات “إف35” بعد نحو 5 أيام من استلام أنقرة لمكونات أربع بطاريات من أنظمة الدفاع الجوي الروسي. ثانيًا) بعد نحو شهرين من قيام أنقرة باختبار منظومة الدفاع الروسية (أكتوبر2020)، قامت واشنطن بتفعيل قانون مكافحة خصوم أمريكا (كاتسا) والذي يقضي بفرض عقوبات على الصناعات الدفاعية التركية (ديسمبر 2020). ثالثًا) وفي تطور أكثر حدة أقدمت إدارة بايدن على فسخ مذكرة التفاهم المشتركة للدول المشاركة في برنامج “إف 35″ والتي وقعت عليه تركيا عام 2007، حيث تم تحديث تلك المذكرة بمشاركة ثمانية دول مع استثناء تركيا ما يعني خروج تركيا بشكل رسمي من برنامج المقاتلات ” إف 35″. 
  • ثالثًا: مذبحة الأرمن من الحذر للاعتراف، رغم رمزية اعتراف بايدن بالجرائم التي ارتكبتها الدولة العثمانية ضد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى ووصفها بالإبادة الجماعية، إلا أن المدلولات السياسية تُشير إلى مستوى التوتر والتعقيد الذي يخيم على العلاقة بين الطرفين، إذ يعد بايدن أول رئيس أمريكي يعترف بها بشكل صريح، وهو ما يأتي في سياق وفاء “بايدن” بوعده الانتخابي الذي قطعه على نفسه تجاه هذه القضية، ويشير هذا الاعتراف لخيارات الرئيس الأمريكي الرامية لفرض مزيد من القيود على أنقرة. ورغم أن القرار لن يرتب أية آثار قانونية، إلا أنه لا يصب في صالح أنقرة، خاصة أنه قد يمنح الضوء لدول أخرى باعتراف مماثل.

من ناحية أخرى يدل الاعتراف على توافق مؤسسي داخل الولايات المتحدة حول الموقف من تركيا وتحديدًا ما تم ارتكابه بحق نحو مليون ونصف المليون أرمني، إذ أصدر الكونجرس خلال عام 2019 قرارات -لا تحمل صفة إلزامية- تعتبر ما حدث بحق الأرمن إبادة جماعية ما رفضه ترامب آنذاك. وعليه يأتي موقف الإدارة الامريكية الحالي مغايرًا لموقف الإدارات المتعاقبة والتي تبنت الحذر وابتعدت عن اتخاذ تلك الخطوة من قبل.

  • رابعًا: الملف الحقوقي الضاغط، ظهرت ملامح التوتر بين الطرفين فيما يرتبط بقضايا حقوق الإنسان، وقد يصبح هذا الملف من القضايا الضاغطة على تركيا حال استمرار أردوغان ونظامه على ذات المنوال، خاصة بعدما تعهد “بايدن” خلال الحملة الانتخابية بتقديم الدعم للمعارضة التركية ضد السياسات الاقصائية والتهميش التي تعيشه المعارضة في الداخل. وقد أوضحت بعض المواقف – مؤخرًا- هذا الاتجاه من بينها مطالبة نحو 170 عضوًا بمجلس النواب (مارس 2021) لبايدن بضرورة التصدي لقضايا حقوق الإنسان، معتبرين أن الوضع بات مقلقًا. وعلى ذات المنوال وجه ما يقرب من 54 عضوَا داخل مجلس الشيوخ رسالة للرئيس الأمريكي (فبراير 2021) تشير للانتهاكات التركية في هذا المجال وحالة التضييق والخناق التي ساهمت في تراجع قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في الداخل. ومن هنا يمكن أن يشهد هذا الملف سجالًا في الفترات القادمة، وسيصبح ضمن محاور التوتر والقلق بين الطرفين.

هل وصلت العلاقات لنقطة اللاعودة؟

تشهد العلاقة بين أنقرة وواشنطن تراجعًا غير مسبوق وحالة من التردي والتراجع الكبير، إلا أن القول بوصول الطرفين لنقطة اللاعودة قد يكون مبالغة، فعلى الرغم من مؤشرات التوتر المتصاعدة وحدود المواجهة الحالية، إلا أن الحاجة المتبادلة والمصالح الاستراتيجية تؤكد أن القطيعة والانفصال التام قد لا تحدث بينهما، إذ سيعمل الطرفان على إدارة الخلافات بينهما والمساومة بما لديهم من أوراق.

وفي هذا الإطار يمكن أن تتخذ العلاقة بين الطرفين مسارات عدة، كأن يتم تجزئة القضايا بينهما، بحيث يمكن تعزيز التعاون في القضايا ذات الاهتمام والعمل على إيجاد أرضية مشتركة في ملفات الخلاف الكبرى.

 فعلى سبيل المثال، وفيما يرتبط بفك الارتباط التركي بروسيا خاصة ما يتعلق بالمشتريات العسكرية وصفقة إس 400 يمكن للولايات المتحدة وأعضاء الناتو أن يعقدوا صفقة مع أنقرة فحواها تعطيل العمل بالمنظومة الروسية مقابل منح تركيا منظومة الباتريوت شريطة أن توفرها بأسعار ملائمة، خاصة وأن تكلفة إس 400 والتي تتراوح ما بين 2 إلى 2.5 مليار دولار أقل من قيمة المنظومة الأمريكية التي تتراوح قيمتها ما بين 3.5 إلى 4 مليار دولار، علاوة على البحث في إمكانية تعويض تركيا قيمة التعاقد على المنظومة الروسية. ويمكن أن يجد هذا الافتراض صداه خاصة في ظل قناعة أعضاء الناتو بمحورية وأهمية تركيا داخل الحلف، فضلًا عن كون موقع تركيا ضمن أكبر العملاء الراغبين في الحصول على “إف 35″، إذ طلبت نحو 100 طائرة.

من ناحية أخرى، لا تزال تركيا ورقة مهمة للولايات المتحدة الأمريكية والناتو في موازنة النفوذ الروسي في عدد من الساحات سواء في سوريا أو منطقة الشرق الأوسط وكذلك في مناطق النفوذ والحضور الآسيوي. ويمكن أن تلعب أنقرة دورًا فاعلًا في أفغانستان كونها طرفًا مقبولًا يمكن التعويل عليه بعد الانسحاب الأمريكي. وكذا، لا يزال الحضور التركي في البحر الأسود كمدخل للناتو والولايات المتحدة الامريكية حيويًا، خاصة إذ ما نجحت جهود أردوغان في استكمال مشروع قناة إسطنبول الذي قد يسمح بمزيد من النفوذ والحضور العسكري للولايات المتحدة والناتو في تلك المنطقة التي تعد مجالًا حيويًا للنفوذ الروسي.

من ناحية أخرى، يمكن أن تتوقف الولايات المتحدة الأمريكية عن ممارسة مزيد من الضغوط على أنقرة وتجميد الموقف على وضعه الراهن على أمل أن الأزمة الاقتصادية الحالية، وتنامي أصوات المعارضة في الداخل مع تراجع شعبية أردوغان يمكن أن تؤدي إلى تغيير النظام الحالي ومن ثم فرض قواعد جديدة للعبة بين الطرفين.

في الأخير، تخيم حالة من عدم الاستقرار والترقب على مسار العلاقة بين أنقرة وواشنطن، رغم ذلك لا يمكن الجزم بأنهما قد وصلا إلى مرحلة اللاعودة في ظل القدرة على إدارة الخلافات ومساحات التباين بينهما، وتظل معضلة الارتباط التركي بروسيا ومحاولة فض هذا التشابك واحدة من القضايا الجوهرية التي قد تحدد مسار العلاقة فيما هو قادم، خاصة في ظل تشابك العلاقة بين أنقرة وموسكو وارتباطها الوثيق في عدة ملفات وعلى مختلف الأصعدة سواء الاقتصادية المتمثلة في رغبة أنقرة في أن تصبح مركزًا لنقل الطاقة الروسية لجنوب أوروبا، أو الاستراتيجية والعسكرية متمثلة في التفاهمات بين الطرفين في عدة ساحات كسوريا أو منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز.

محمود قاسم

باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى