مكافحة الإرهاب

المعضلة الأخلاقية في تحويل الأحداث التاريخية إلى نصوص دينية “بذور الإرهاب”

المرويات التاريخية عماد تستند إليه الجماعات الإسلامية المتطرفة لشرعنة جرائمها، ضاربة بعرض الحائط أن التعامل مع النصوص الدينية يجب أن يكون في سياقاتها وأن يكون بحذر، وتلك الجماعات تتجاوز ذلك عن عمد وليس عن جهل.

تتعمد الجماعات الراديكالية العودة إلى التاريخ من بوابة انتقاء مرويات ترفع من شأن انتهاج العنف والرد على الإساءة بالقتل، حكايات بعينها تكرر بشكل يومي من أمراء الإرهاب والسائرين على خطواتهم تبرر الإرهاب وتشرعنه ضد أصحاب العقائد الأخرى.

ومما يثير الأسف أن الجماعات الراديكالية تجيد انتقاء الروايات التاريخية التي تقنع بوجهات النظر المتطرفة فيما تبوء محاولات رجال الدين بنشر قصص تسامح النبي أدراج الرياح لأن الخطاب المتطرف يلاقي رواجًا أكبر لأسباب متعددة.

كعب الأشرف

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Downloads\364e55334396159b99f22e3875600c1e.jpg

ذلك الشاعر المقيم في حصن بني النضير حكايته هي الأشهر، الرواية أوردها البخاري في “صحيحه” جاء فيها أن كتابات كعب أثارت اهتمام النبي عليه الصلاة والسلام فتطوع محمد بن مسلمة ومعه نفر من المسلمين بقتل كعب الأشرف.

وتتواصل رواية البخاري فتشير إلى أن مسلمة ذهب مع بعض المسلمين في الليل إلى حصن كعب وكان صديق بن مسلمة صديقا له في الماضي، فنادى عليه، فلما عرفه قابله، لكن فرقة الاغتيال قامت بالالتفاف حوله وقُتل غدرًا، ثُم عاد القتلة إلى النبي وأخبروه بما فعلوا.

وبالتركيز في الرواية فإن ما يلفت الانتباه فيها أنها تشير إلى أن المسلمين اعتمدوا مبدأ الغدر لقتل كعب الأشرف، عدا عن كون عدم المنطقية يشوبها حيث تتناول الرواية الواردة في صحيح البخاري أنه عندما نودي كعب من قبل زوجته رد فقال ” الكريم إذا دعي لطعنه بليل لأجاب”.

كما أن الإشارة إلى أن النبي قد علم برواية مقتل كعب ولم يجب يناقض كل تصرفاته الرحيمة عليه الصلاة والسلام ضد خصومه وأعدائه، والتاريخ يشهد على تصرفات النبي مع خصومه في الطائف وكيف أنه قال لقريش التي آذته “اذهبوا فأنتم الطلقاء” فكيف به يغض الطرف عن قتل شاعر لم يقدم سوى على كتابة أبيات منكرة أو ناقدة وهو الذي نزلت عليه رسالة “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”. 

خصوصًا أن هذه الرواية تتخذ كقرينة للتدليل على جواز قتل غير المسلم إذا تطاول أو سب النبي وهو ما أكد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية وتناقله كل أمراء الإرهاب والإسلام السياسي.

خلط متعمد

الحكاية لون من ألوان التاريخ وهو ما لا يختلف عليه أحد، ولكن في ظل الخلط المتعمد بين ما هو ديني وما هو تاريخي عدا كل ما هو مروي عن فترات سابقة يدخل في إطار الحكم الإلزامي للمسلمين مع تناسي أن أفعال الناس في ذلك الوقت حدثت في سياقها السياسي والتاريخي وأن ما ناسب تلك العصور إن كان قد ناسبها في شيء لا يصلح لكل زمان ومكان. 

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Pictures\10177 (2).jpg

وفي هذا الإطار يقول المفكرون الذين ما يتبنون عادة دعوات الإصلاح أن صحة الروايات التاريخية من عدم صحتها لا تنبغي أن تكون المعيار الذي يتم القياس عليه وإنما ينبغي التركيز على اختلاف العصور والأزمنة، وعدم أخلاقية استدعاء أحداث تاريخية لبناء أوامر أو نواهٍ دينية. خصوصًا أن هذه الروايات أو الأحداث التاريخية تمثل من قاموا بها في بيئتهم وليست ممثلًا للإسلام أو انعكاس له.

هذا الإطار التفسيري هو ما يركز عليه دعاة الإصلاح الذين يرغبون في توجيه عقل المتلقي نحو التعامل مع أي من النصوص الدينية في ” السياق التاريخي”، ويرون أن هذا هو السبيل الوحيد للخروج من دائرة العنف والتطرف.

بل أن بعضهم ذهب إلى أن هناك حالة من محاولات تقديس التاريخ إلى الحد الذي أصبح الكثيرون يخلطون فيه بين الدين والتراث، ولا شك أنه شتان بين الأمرين. وعلى سبيل المثال فإن التاريخ السياسي لشبه جزيرة العرب يزخر بالعديد من المصطلحات مثل “الجهاد- الخلافة- السبايا- أهل الذمة – الجزية.. إلخ” وهي تعبيرات تحمل العديد من ملامح العنصرية التي كانت لا بد أن تختفي مع تطور المجتمعات الإنسانية. لأن حتى ما كان يتقبله الناس في تلك العصور لم يعد له تقبل على نطاق واسع في العصر الذي نعيش فيه. فقتل فرج فودة على سبيل المثال وإذا ما قورن بواقعة قتل كعب الأشرف هو جريمة مكتملة الأركان يعاقب عليها القانون في القرن الواحد والعشرين فهل كانت كذلك قبل 1400 سنة؟!

ونخلص من ذلك إلى أن محاولات تديين التاريخ أو إكساب الروايات التاريخية صفة القدسية للبناء عليها هو أخطر ما قام به الراديكاليون الإسلاميون حتى الآن لأنهم استطاعوا النفاذ إلى عقول قطاعات عريضة ممن لا يفكرون في كل ما ينسب لنص ديني حتى وإن خالف العقل والفطرة تنفيذًا للمعنى الشهير بأن الدين لا يؤخذ بالعقل.

حتى أن هناك دراسات بأكملها تم إعدادها حول محاولات تديين التاريخ. وفي دراسة حديثة للمفكر أحمد صبحي منصور حذر من سقوط الدين في دائرة تاريخية يصعب فيها التفريق بين ما هو إلهي وبين ما هو بشري، حيث يعمد الراديكاليون إلى تحويل ما هو بشري إلى ما هو مقدس، وهو ما يؤدي بالناس الذين يؤمنون بسيرة أولئك المقدسين إلى التحول إلى قنابل بشرية قادرة على الانفجار في أي لحظة في قيم الحضارة والإنسانية.

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Downloads\maxresdefault (2).jpg

ويمضي أحمد صبحي منصور فيؤكد أن هناك اختلافًا كبيرًا بين منهج القرآن ومنهج التاريخ، ذلك أن النص القرآني تنبغي قراءته دون وجود أية آراء مسبقة واستلهام مفاهيمه من خلال المعاني الواردة في الآيات الأخرى، أما المنهج التاريخي فيعتمد بشكل أساسي على تحديد الزمان والمكان ومضمون الرواية وفرض الثقة في الراوي حتى يتم تناقل حكايته.

المنظور التاريخي للدين

إذا كنا أوردنا وجهة النظر الأولى وهي الخاصة باختلاف الوقائع التاريخية عن الدين أو عما نزل به ” الوحي” فإن هناك آراء لمفكرين آخرين تركز على أن الدين في نهاية الأمر له جانب تاريخي لأنه نزل في فترة محددة بعينها وارتبط بسكان منطقة معينة وتاريخهم، لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن نحول التاريخ إلى دين لأنه أمر في غاية الخطورة، والشرق الأوسط بأكمله يشهد انعكاسات هذه الخطورة منذ تسعينيات القرن الماضي.

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Downloads\83607-الإرهاب-يحاصر-الشرق-الأوسط.jpg

وربما ما يفسر أن أغلب الخلفاء الراشدين ماتوا مقتولين فضلًا على أن تاريخ جزيرة العرب السياسي يزخر بالعديد من حوادث القتل والعنف هو أن النص القرآني إلهي المصدر لكن الوسيط اللغوي الذي قام بتفسيره “بشري”.

وهناك من طرح قضايا أكثر اتساعًا استلزمت التفريق بين مصطلحي الدين والتدين؛ ويشير الباحثون إلى أن الدين يشمل كل ما هو مطلق ومقدس وقادم من الله، بينما التدين فهو الثقافة التاريخية التي يتم تقديمها للعامة بعد إكسابها قدسية بوصفها الدين نفسه. والخلط الفادح بين المفهومين هو ما أدى في النهاية إلى انفجار الصراع السياسي. ولذلك فإنه لا مناص من فض الاشتباك بين ما هو إلهي مطلق وما هو اجتماعي وتاريخي. 

ومن هنا ينطلق دعاة الإسلام السياسي والحركات الأصولية المتطرفة لمهاجمة كل ما هو على صلة بالعلمانية رغم أنها في جوهرها تضمن التعدد والاختلاف الديني والمذهبي.

فالعلمانية في جوهرها لا تعادي الأديان ولكن الأصوليين هم من يعادون التنوع والتعددية. وفي هذا المقام تمكن الإشارة إلى أن من الأمثلة التي يستند إليها دعاة معسكر الإسلام السياسي التجربة التركية، إلا أنه من الواضح أنهم يغفلون أن تركيا شهدت تأسيسًا قويًا في الناحية العلمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك ولا يخفى على سبيل المثال أن الرئيس التركي لم يستطع تسويق تجربته إلا عندما تماهى مع الإرث والتاريخ العلماني لتركيا، وعلى الجانب الآخر فشلت التجربة الدينية للملالي في إيران لأنها انقلبت على علمانية الدولة وقت الشاه.

خلط الدين بالسياسة.. لماذا؟

عموماً فإن إصرار التيارات الأصولية وتيارات الإسلام السياسي على خلط ما هو ديني بما هو سياسي لا ينطلق بحال من الأحوال من حرص تلك التيارات على الدين، لكنه يشير إلى اختلال فكري يعكس مزيجًا من أزمة الهوية التي أفضت إليها الأصولية الدينية. 

C:\Users\Nermeen.Saeed.ecss\Downloads\ter000.jpg

لقد تمكنت الإنسانية من النجاة لعصور طويلة بتوظيف الأفكار الأصيلة في العقيدة والسياسة والآداب والفنون، وقد استطاعت هذه القيم والأفكار أن تؤسس لمنظومة عاشت طويلًا، ولكن مع ظهور الجماعات الأصولية والراديكالية بدأ الاتجاه نحو الاقتداء بالجماعة وليس المجتمع على أن يكون على رأس هذه الجماعة مرشد يدان له بالسمع والطاعة، والطاعة ليست قائمة على مبدأ احترام حرية الاختيار وإنما بالتسليم بمبدأ الحاكمية والخضوع الأعمى لسلطة الإمارة.

وفي نهاية المطاف نبقى أمام معضلة أن المؤرخ هو مؤلف في نهاية المطاف لأنه وحسب اختلاف توجهه وبيئته والظرف الإنساني والتاريخي يحاول أن يعد وثيقة صالحة مهما مر عليها الزمان، ويحاول أن يكسب تلك الوثيقة من الشرعية ما يؤهلها للاستمرار حتى إن أضاف أحداثًا غير ذات معنى مجتزأة من سياقاتها.. نحن أمام معضلة أخلاقية بالأساس.

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى