
“مسارات متعددة”.. كيف أعادت مصر تقديم نفسها للعالم؟
“أصبحت مصر نموذجًا وقصة نجاح على الساحة الدولية يحتذى بها” هكذا وصفت غرفة التجارة الأمريكية مصر خلال عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهكذا استطاعت مصر رسم صورتها الذهنية في وجدان الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي، أو ما يروق للبعض تسميته بالعلامة التجارية للدولة Nation Branding، بعدما نفضت عن نفسها صورة مشوهة قوامها عدم الاستقرار وانتشار الفوضى والإرهاب وتوقعات بمصير الدولة الفاشلة، إلى واحة الأمن والاستقرار والتنمية وسط محيط مشتعل ومضطرب. وقد كانت تلك الصورة من الشواغل الملحة للقيادة السياسية كونها تؤثر في معطيات الأمن القومي للدولة وتحكم علاقاتها الخارجية ومكانتها الدولية وتمثل عنصر جذب للمستثمرين والسائحين ووسائل الإعلام الدولية.
مظاهر عودة قوة الدولة المصرية
كان لازمًا على مصر وهي تعيد تقديم نفسها للعالم أن تعيد اكتشاف قدرات الإنسان المصري صانع الحضارة المحرك الأساسي للتنمية، فكان الاعتماد على فكره وتخطيطه وإمكانياته في خطة العبور للمستقبل، والتي شملت عدة محاور نستعرضها كالتالي:
• استعادة الدور: استعادت مصر ثقلها الإقليمي ودورها المركزي كقوة محورية في الشرق الأوسط بعد فترة من التركيز على الداخل، عبر الاندماج في قضايا المنطقة والسعي لحلها والحفاظ على بنية الدولة الوطنية العربية، وتجسد ذلك في استضافت اجتماعات الفصائل الفلسطينية للاتفاق بشأن القضايا الرئيسية المرتبطة بالانتخابات العامة المقررة في مايو المقبل وضمن جهود تحقيق المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية، إلى جانب استضافة اجتماع وزراء خارجية مجموعة ميونيخ المعنية بدعم عملية السلام في الشرق الأوسط. فضلًا عن الدخول على خط الأزمة اللبنانية باستضافة رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري، والسعي لتفعيل آلية النفط مقابل إعادة الإعمار مع العراق والأردن، وتوسيع آفاق التعاون الاقتصادي الثنائي ومتعدد الأطراف ليشمل دول جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وشرق المتوسط.
وانتهجت مصر نمطًا جديدًا في التفاعلات الخارجية قوامه تأسيس شراكات وتحالفات استراتيجية عربية وإقليمية، انطلاقًا من موقعها الجيوستراتيجي وثقلها الإقليمي ودورها على المستوى الدولي ودبلوماسيتها النشطة؛ فانخرطت ضمن آلية التعاون الثلاثي مع قبرص واليونان، وتحالف الرباعي العربي مع السعودية والبحرين والإمارات، ومنظمة غاز شرق المتوسط، ومنظمة الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، ومنتدى الصداقة “فيليا”.
علاوة على ذلك، لعبت القاهرة دورًا محوريًا في منع انقسام ليبيا بعدما وضعت خطًا أحمر للطموحات التركية التوسعية، وفتحت قنوات الاتصال مع كافة الأطراف الليبية بما في ذلك حكومة الوفاق السابقة، واستضافت اجتماعات المسار الدستوري الليبي لمناقشة الترتيبات الدستورية المؤدية للانتخابات العامة في ديسمبر 2021، مما مهد الطريق أمام التوصل إلى اتفاق بشأن حكومة وحدة انتقالية حظيت بدعم القاهرة. وعلى الصعيد الإفريقي، ساهمت القاهرة في إنجاح مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة القارية الأفريقية، وترأست الاتحاد الإفريقي بما أكسبها ثقة شعوب القارة في دورها لتحقيق التنمية والرخاء وترسيخ السلم والأمن. كما تنفذ مصر مشروعات ضخمة في الخارج كأكبر سد في تنزانيا، وتقدم مساعدات لعدد من الدول.
وقد ساهمت مجموعة من العوامل في استعادة الدور المصري إقليميًا في مقدمها إرادة القيادة السياسية، وحسابات القوة الشاملة لمصر، وتنويع مصادر السلاح، والتعامل بندية فى العلاقات الدولية والإقليمية، وإقامة علاقات جيدة مع الجانبين الروسي والصيني توازن العلاقات مع الولايات المتحدة، فضلًا عن مصداقية الدور المصري فى الإقليم كونها ليست متورطة فى أي قضية إقليمية.
• تعزيز الهوية: يرتبط بناء صورة إيجابية عن الدولة بتحديد هويتها وما يتصل بذلك من اهتمام بالحضارة المصرية القديمة والآثار وترويجها داخليًا وخارجيًا. ومن هذا المنطلق، أعادت مصر اكتشاف وتقديم وإنتاج حضارتها القديمة إلى العالم، فنشطت حركة الاكتشافات الأثرية خلال السنوات الفائتة في طول البلاد وعرضها مسفرة عن عدد ضخم من الكشوفات أبرزها؛ كشف سقارة الذي حوى 59 تابوتًا وعشرات التماثيل الفريدة، ومقبرة خوي بسقارة، والعثور على 40 مومياء في منطقة تونا الجبل، وخبيئة الحيوانات المقدسة بسقارة، فضلًا عن مدن قيمة تعود لآلاف السنين كالمدينة المفقودة “صعود آتون”، وجبانة ومدينة سكنية قديمة التي تعود لعصر بداية الأسرات بأبيدوس بسوهاج، وقرية من العصر الحجري بمنطقة سايس بالغربية، إضافة إلى عدد ضخم من القطع الأثرية المتنوعة. كما تم استرداد أكثر من 1700 قطعة أثرية والآلاف من العملات الأثرية المهربة.
وكان لقطاع الآثار والمتاحف نصيبه من مخطط التنمية الشاملة عبر تنفيذ مشاريع أثرية قومية على رأسها المتحف المصري الكبير الذي سيتم افتتاحه بنهاية العام الجاري، وتطوير منطقة الأهرامات، وتطوير القاهرة الخديوية، وتطوير المتحف المصري، وإنشاء متحف العاصمة الإدارية، وترميم متحف الفن الإسلامي، ومشروع طريق الكباش بالأقصر، وتطوير مدينة رشيد لتكون متحف مفتوح للأثار الإسلامية، وإحياء مسار العائلة المقدسة، ومشروع الهوية البصرية بالأقصر، ومشروع خفض المياه الجوفية بكوم الشقافة وكوم أمبو وتطوير منطقة أثار أبيدوس بسوهاج، واستكمال واجهة معبد الأقصر، والانتهاء من المشروع القومي لجرد وتسجيل القطع الأثرية في المخازن. علاوة على مشروعات ترميم كنوز مصر الأثرية كقصر البارون، وقصر محمد علي باشا، ومسجد الفتح الأثري بقصر عابدين، والمعبد اليهودي بالإسكندرية، وقصر ألكسان بأسيوط، واستراحة الملك فاروق بالجيزة، وهرم زوسر المدرج، وتطوير منطقة سان الحجر بالشرقية.
وقد انتهجت مصر سياسة إعادة توزيع أثارها لتحقيق أقصى جذب ممكن للسياح والاستفادة المثلى من كنوزها، ومن هنا جاء إنشاء وافتتاح متاحف جديدة بالمحافظات منها متحف آثار مطروح (مارس 2018)، ومتحف سوهاج القومي (أغسطس 2018)، ومتحف الغردقة، ومتحف نجيب محفوظ بالأزهر، ومتحف الحضارة بالفساط الذي كان محور التغطيات العالمية المحلية والعالمية لأكثر من 400 قناة بالتزامن مع موكب نقل المومياوات الملكية، وكان بمثابة إعلان رسمي عن استعادة الدولة المصرية لدورها الحيوي إقليميًا ودوليًا وعكس مستوى الأمان الذي تتمتع به، وذكَّر بدورها الحضاري في التاريخ الإنساني.
وخارجيًا، نُظم الكثير من المعارض للترويج للآثار المصرية في مقدمتها معرض آثار الملك توت عنخ آمون بباريس، ومعرض الاثار الغارقة بقاعة مكتبة رونالد ريجين بولاية كاليفورنيا الأمريكية، ومعرض آثار الملك توت عنخ آمون بلندن “كنوز الفرعون الذهبي”، ومعرض الآثار الإسلامية المؤقت “عالم الفاطميين” بمتحف الأغاخان بتورونتو بكندا، ومعرض “ذهب وكنوز الفراعنة” بموناكو، ومعرض للمستنسخات الأثرية بإيطاليا.
• بناء عناصر القوى الشاملة: إن امتلاك جيش واقتصاد ومؤسسات قوية ونمط تعليم جذاب وخدمات صحية ومرافق جيدة يعزز صورة الدولة ومكانتها. ومن هنا، تحركت مصر بالتوازي على تلك المحاور فتبنت استراتيجية لتحديث وتعزيز قدرات كافة أفرع قواتها المسلحة على مستويي التدريب والتسليح عبر إبرام صفقات تسليح وإدخال معدات عالية التكنولوجيا وإقامة قواعد عسكرية ووضع استراتيجية للتصنيع الحربي والانخراط في تدريبات خارجية مشتركة وتحديث خطط التدريب، وعليه احتل الجيش المصري الترتيب الـ 12 عالميًا وفقًا لتصنيف جلوبال فاير باور لعام 2021.
أما اقتصاديًا، التزمت مصر ببرنامج إصلاح اقتصادي انتشل اقتصاد البلاد من مسارات خانقة ومؤشرات متدنية ما أفضى إلى تحسين بيئة الاستثمار وتشجيعه، واتجهت نحو الشمول المالي والاقتصاد الرقمي. وفي شأن بناء المؤسسات، حرصت القيادة السياسية على ترسيخ مؤسسات الدولة المصرية وحمايتها من الانهيار والفشل، واستكمال البناء الدستوري بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية دورية في موعدها كان آخرها انتخاب مجلسي النواب والشيوخ العام الماضي وقد أجريا في موعدهما رغم جائحة كورونا وسط تنظيم صحي وأمني عالي المستوى أظهر كفاءة القدرة التنظيمية للدولة في الظروف الاستثنائية.
وتعليمًا، أطلقت مصر مشروعًا لتحديث نظام التعليم بكافة مراحله جوهرة التعليم التفاعلي بالاعتماد على التحول الرقمي والبنية التكنولوجية عبر تقديم “تابلت” لكل طالب يتيح له الوصول إلى المنصات الإلكترونية والمكتبات الرقمية كبنك المعرفة، ووضع مناهج جديدة تحفز على التفكير والإبداع وتنمية الهوية الوطنية بعيدًا عن الحفظ والتلقين، وتبني طرق للتقييم تقيس مهارات التحليل وليس الحفظ والاسترجاع. أما صحيًا، نفذت مصر العديد من المبادرات بهدف تحسين الصحة العامة والكشف المبكر عن الأمراض وعلاجها، بالتوازي مع إطلاق نظام التأمين الصحي الشامل الذي يغطى كافة المواطنين عبر خدمة صحية متطورة ومجانية.
وتبنت مصر شرعية الإنجاز من خلال سلسلة من المشروعات القومية الكبرى اعتمدت أحدث التكنولوجيات العالمية؛ من إنشاء مدن الجيل الرابع الذكية كالعاصمة الإدارية والعلمين، إلى إنشاء مدن صناعية تكنولوجية متخصصة كمجمع الوثائق المؤمنة ومدينة الأثاث بدمياط والجلود بالروبيكي والدواء بالخانكة ومجمع التكسير الهيدروجيني بمسطرد، إلى إقامة بنية تحتية من محطات كهرباء ومياه وصرف الصحي ووسائل مواصلات عامة (القطار الكهربائي والمونوريل وخطوط مترو الانفاق) وطرق وأنفاق (قناة السويس) ومشروعات زراعية، تعتمد جميعها أحدث التكنولوجيا العالمية وتراعي أعلى المعايير. وقاربت مصر على إنهاء صورة كانت ملاصقة لها على مدار سنوات بالقضاء على المناطق العشوائية والخطرة لتحل محلها تجمعات سكانية متكاملة في دلالة على قدرة الدولة لحل قضايا كانت تبدو مستحيلة وقوة مؤسساتها.
كما أنه من خلال اكتشافات غاز المتوسط ومشروعات الطاقة الكهربائية وتطوير بنيتهما التحتية حجزت مصر مقعدها على خريطة تداول الطاقة التقليدية والمتجددة خلال العقود المقبلة، بما يعزز موقعها الجيوسياسي. ولعل من المفيد ذكر أن أول مشروع قومي أطلقه الرئيس السيسي –قناة السويس الجديدة -حمل شعار “هدية مصر للعالم” في إشارة لما تمثله الدولة من إضافة للقدرات العالمية ومساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي.
وانخرطت مصر إيجابيًا في القضايا العالمية الملحة كقضية التغيرات المناخية عبر الانضمام للاتفاقيات والمشاركة في الفعاليات الدولية ذات الصلة، وتضمينها في مخططات التنمية الشاملة المحلية كالتحول نحو الطاقة المستدامة، ومراعاة الاعتبارات البيئية خلال تنفيذ المشروعات القومية. وقضية الحفاظ على التنوع البيولوجي، فقد حصل وادي الحيتان على العديد من الجوائز الدولية كأكبر موقع تراث طبيعي يدار على مستوى العالم، وحصلت وزارة البيئة على جائزة صون الطيور المائية الأوروآسيوية المهاجرة “الايوا”، وجائزة “صون الطيور الحوامة” لنجاحها في حماية الطيور الحوامة التي تمر بمنطقة أساسية لإنتاج طاقة الرياح.
• تنمية قدرات القوة الناعمة: تعتبر القوة الناعمة أحد المحددات الرئيسية لقوة الدولة إلى حد يفوق في بعض الأحيان القوة الصلبية التقليدية السياسية والاقتصادية والعسكرية، كونها وسيلة فعالة لتشكيل الوعي والإدراك وأطر التفكير وأداة لتسوية النزاعات والقضاء على التطرف والعنف والإرهاب. وبعد فترة من التأزم بين عامي 2011 و2013 إثر عدم الاستقرار السياسي وتراجع معدلات النمو الاقتصادي وتوتر العلاقات الخارجية، حظيت القوة الناعمة بدفعة من القيادة السياسية على كافة الأصعدة الثقافية والدينية والفنية والتعليمية والرياضية والعلمية والإنسانية انطلاقًا من إدراكها لدورها في تعزيز مكانة مصر دوليًا وإقليميًا.
وتمثلت مظاهر القوة الناعمة المصرية في المشاركة في المسابقات الرياضية العامة والفوز بالعديد منها، واستضافة الفعاليات الرياضية كتنظيم كأس الأمم الإفريقية عدة مرات أخرها عام 2019، وكأس العالم السابع والعشرين لكرة اليد للرجال 2021، بما أظهر قدرة مصرية عالية على حسن التنظيم والإدارة في ظل ظروف استثنائية، ومن المقرر استضافة بطولة كأس العالم للرماية 2022. وفي هذا الصدد، يعد محمد صلاح أحد أدوات القوة الناعمة المصرية، فقد كشفت الأبحاث التي أجرتها جامعة ستانفورد أن جرائم الكراهية ضد المسلمين انخفضت بنسبة 19.9% في بريطانيا نتيجة لمكانة صلاح.
فضلًا عن استضافة الفعاليات الثقافية والمهرجانات بمشاركة نجوم وشخصيات عالمية، وتجديد الخطاب الديني وترسيخ قيم المواطنة والقضاء على التمييز. كما حظي الإبداع بجميع أشكاله بمساحة أكبر كون المنتَجات الإبداعية تقع في قلب منظومة القوى الناعمة، وعليه جاءت مصر في المرتبة 43 على مؤشر صادرات الخدمات الإبداعية والثقافية، والمرتبة 39 على مؤشر صادرات السلع الإبداعية، والمرتبة 28 في مجال السلع الإبداعية، والمرتبة 57 في مجال التصميمات، والمركز 69 في مجال حقوق الملكية الفكرية، وفقًا لدليل المعرفة العالمي عام 2018 ويصنف 126 دولة.
علاوة على تنظيم المنتديات الاقتصادية والمؤتمرات الدولية والإقليمية والمعارض التجارية والاستثمارية، وعلى رأسها منتدى شباب العالم، بما أظهر القدرات التنظيمية للدولة وعكس حالة الاستقرار السياسي والأمن وجعل مصر منصة حوارية فعالة وجسرًا للتواصل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وتبادل الخبرات بين الشعوب. وقد انعكس النجاح المصري في اعتماد الأمم المتحدة منتدى شباب العالم “منصة دولية” لدوره في مناقشة القضايا المعاصرة الخاصة بالشباب وتحقيق أجندة التنمية المستدامة 2030.
ومع ذلك، فإن القوى الصلبة أو التقليدية تُعتبر أحد موارد القوة الناعمة فقد تنتج جاذبية الدولة من إعجاب الآخرين بصورتها كنموذج للنجاح الاقتصادي أو التفوق العسكري (سمعة امتلاك القوة)، أو عبر تبنيها سياسة خارجية تقوم على مبادئ ذات قبول وإعجاب. وبالتطبيق على الحالة المصرية، فقد حظي نموذج الإصلاح الاقتصادي باحترام دولي بعدما تمكن من الصمود أمام جائحة كورونا محققًا ثاني أعلى معدل نمو اقتصادي على مستوى الاقتصادات الناشئة بنسبة 3.6%، واستطاعت القاهرة بما تملكه من قدرات عسكرية ضخمة ومتطورة تحقيق الردع للمشاريع الإقليمية التوسعية في المنطقة وبسط الأمن والسيطرة على كافة الاتجاهات الاستراتيجية وحماية خطط التنمية.
أما على صعيد السياسة الخارجية فاعتمدت مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والحفاظ على الدولة الوطنية، وحماية وحدة واستقلال الدولة، واعتماد الحل السياسي السلمي منهجًا لتصفية الصراعات القائمة عبر سُبل الوساطة والتوفيق، وعدم التورط لصالح طرف بعينه، بما أهلها للعب دور محوري في القضايا العربية والإفريقية وخاصة القضية الفلسطينية، ومنحها صورة “صانعة وحافظة السلام”، وجعلها أيقونة قادرة على الاقناع وجذب الفاعلين الدوليين والإقليميين وتحقيق التقارب بين الشعوب.
ومن مظاهر تحويل القوة الصلبة إلى ناعمة استخدام “الدبلوماسية الحربية” التي تنطوي على التهديد باستخدام القوة والعمليات العسكرية إذا كانت مشروعة وتهدف إلى الدفاع عن الحقوق أو حماية المدنيين وتوسيع نطاق الحماية والأمن للأصدقاء والحلفاء، وهي سياسة اتبعتها مصر عندما هددت على لسان الرئيس السيسي باستخدام القوة إذا ما تجاوزت القوات التركية خط “سرت-الجفرة” بما يهدد الأمن القومي المصري والليبي على السواء، وفي تحذير إثيوبيا من المساس بأمن مصر المائي، وفي عبارة “مسافة السكة” التي استخدمها السيسي للتعبير عن سرعة تدخل مصر إلى جانب أشقائها في الخليج إذا ما تهدد أمنهم، وفي مشاركة مصر ضمن عاصفة الحزم، فضلًا عن مشاركتها في عمليات حفظ السلام الدولية.
وأيضًا ضمن تحويل القوة الصلبة إلى ناعمة الحد من تدفق اللاجئين عبر الحدود؛ وقد أوقفت مصر حركة الهجرة غير الشرعية والتجارة غير المشروعة بالبشر عبر حدودها، وكان هذا الأمر موضع تقدير وإشادة من العالم، ومحدد رئيسي في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. كذلك يعتبر توفير المساعدات الإنسانية والإغاثة في حالات الطوارئ طريقة أخرى من هذا القبيل؛ فخلال أزمة وباء كورونا أرسلت الدولة شحنات من المساعدات الإنسانية والطبية للدول المتضررة بما في ذلك الصين والولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا وفلسطين واليمن و30 دولة أفريقيا منها السودان وجنوب السودان والكونغو وزامبيا، بما يظهر قدرة الدولة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية وتمسكها بقيم الإنسانية والتضامن بين الشعوب، وبناء صورة ذهنية قائمة على التفوق والريادة العالمية.
كيف يرى العالم مصر؟
انعكست الجهود المتواصلة والنجاحات المحققة على تصنيف مصر في المؤشرات الدولية المتنوعة التي تقيم أداء الحكومات والدول في الشؤون الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والتنموية، حيث أحرزت تقدمًا في بعض المؤشرات بينما دخلت للمرة الأولى في أخرى؛ ووفقًا لبيانات عام 2020، صعدت مصر إلى المرتبة 36 عالميًا والثانية عربيًا على مؤشر “أفضل الدول” لعام 2019 من المرتبة 40 خلال 2018 استنادًا إلى قوتها السياسية والاستراتيجية والثقافية وتراثها التاريخي وقدرتها على مواكبة محركات التغيير ودفع التنمية. وعلى مؤشر القوى الناعمة، جاءت مصر في المرتبة 34 عالميًا من أصل 100 دولة في نسخته الثانية لعام 2021، متقدمة 4 نقاط عن العام السابق مدفوعة بالتقدم في محور الوعي والمعرفة بالدولة.
وبالنسبة للمؤشرات ذات الطابع الاقتصادي، تقدمت مصر 6 مراكز على مؤشر “مرونة العمل العالمي 2020” لتحتل موقعًا ضمن أعلى 5 دول قادرة على تحسين السياسات لتعزيز مرونة الأسواق، بما في ذلك التقدم 18 مركزًا في محور السياسات و3 مراكز في مجال ريادة الأعمال كنتيجة منطقية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي وتحسين بيئة التعليم والتوظيف، وللسبب نفسه، جاءت مصر في المرتبة الـ 24 عالميًا من أصل 100 ضمن مؤشر “أكثر المدن الاقتصادية تأثيرًا”، واختار منتدى بلومبيرج للاقتصاديات الجديدة مصر كنموذج للاقتصاديات الصاعدة في المنطقة عقب جائحة كورونا، بعدما صمدت في وجه تداعيات الوباء محققة معدلات نمو إيجابية واستقرار في قيمة العملة.
كما تربعت مصر على عرش الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مؤشر “صفقات الشركات الناشئة” لعام 2019 بنسبة 25% من إجمالي الصفقات في المنطقة، بينما أتت في المرتبة الثانية حصولًا على التمويل بنسبة 14%. وعلى مؤشر “إنتاجية العامل في أفريقيا 2020″، احتلت مصر عرش القارة مدفوعة بامتلاكها نسبة مرتفعة من العمالة الماهرة مقابل نسبة تسرب من التعليم منخفضة، وإدخال الوسائل التكنولوجية الحديثة في منظومة التعليم ما قبل الجامعي، فيما حصدت المركز الثالث على مؤشر “التكامل الاقتصادي” الصادر عن الاتحاد الأفريقي، ودخل صندوق مصر السيادي للمرة الأولى تصنيف الصناديق السيادية العالمية في المرتبة 43 عالمًا من بين 39 صندوقًا سياديًا.
ووفقًا لمسح الموازنة المفتوحة الصادر عن منظمة شراكة الموازنة الدولية حققت مصر 27 نقطة تراكمية خلال العامين السابقين لتصل إلى 43 نقطة مئوية متجاوزة المتوسط العام لدول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا البالغ 22 نقطة مئوية، لتقترب إلى متوسط المعدل العالمي البالغ 45 نقطة. واستمر التحسن في مؤشرات “التنافسية العالمية” لتحتل مصر المرتبة الـ 93 من أصل 141 دولة، و”سهولة ممارسة الأعمال” لتصبح في المرتبة 114 من أصل 190 دولة متقدمة 6 مراكز، و”جودة الأطر التنظيمية” لتأتي في المرتبة 142 من 186 دولة.
ونتيجة لتحسين بيئة الأعمال ورقمنة الخدمات واختصار الإجراءات البيروقراطية المعقدة التي تعوق الاستثمارات وتأسيس الشركات وتوحيد الجهات المقدمة لتلك الخدمات، جاءت مصر في المرتبة الـ 9 على مؤشر “نضوج ريادة الأعمال” الذي يضم 13 دولة عربية، وارتفعت إلى المرتبة 111 من أصل 193 دولة على مؤشر “تطوير الحكومة الإلكترونية” من المركز 114 عام 2018، وانضمت القاهرة لأول مرة إلى مؤشر “مارفون ويرهاوس 2020 للمدن الأفضل للأعمال الحرة” في المرتبة الـ 28 من أصل 30 دولة بعدما حققت المركز الرابع في تكلفة المعيشة ومتوسط سعر أماكن المعيشة والثامن في أماكن العمل المشتركة.
وعلاوة على ذلك احتلت مصر المرتبة التاسعة عالميًا والأولى عربيًا وأفريقيًا على مؤشر أبحاث فيروس كورونا، وحصدت المرتبة الـ 84 عالميًا على مؤشر “التحول في مجال الطاقة” عام 2020 متقدمة مركزين عن العام السابق له، وقفزت إلى المركز الـ 62 عالميًا على مؤشر “المخاطر الاجتماعية” خلال عام 2020 متقدمة 13 نقطة عن 2015. وحققت مصر تحسنًا كبيرًا في مؤشرات المؤسسات ومدركات الفساد وفعالية الحكومة وسيادة القانون والاستقرار السياسي وغياب العنف والإرهاب والتمكين السياسي والجودة التنظيمية.
وتكتسب تلك المؤشرات أهمية كونها تصدر من هيئات وجهات مستقلة بناء على معطيات علمية وأوزان منهجية، بما يعزز مكانة الدولة أمام الرأي العام العالمي، والجهات الاستثمارية والمانحة وصناديق الاستثمار والشركات الاستثمارية ومتعددة الجنسيات.ختامًا، نجحت مصر في عبور حقبة صعبة من الاضطرابات التي عصفت بالمنطقة واستطاعت تجاوز حملات التشوية التي قادتها القوى المعادية داخليًا وخارجيًا عبر جماعات الضغط ووسائل الإعلام الموجهة والحملات على وسائل التواصل الاجتماعي، وقدمت نفسها كنموذج للنجاح على كافة الأصعدة وللاستقرار السياسي والأمني في إقليم مضطرب، ورسخت دورها كدولة محورية ومركز ثقل إقليمي وعالمي فاستطاعت كسب احترام وتقدير العالم وتقديم نموذج للمنطقة يحتذى به.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية