السد الإثيوبي

صفقة اللحظة الأخيرة.. هل لا زال بالإمكان التوصل لاتفاق قبل فوات الأوان

مع الإصرار الإثيوبي على التصرف الأحادي، والمضيّ قدمًا في مراحل إنشاء وملء السدّ، دون التقيد القانوني بالتوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، ينظم قواعد ملء وتشغيل السدّ، مع دولتي المصبّ، مصر والسودان، والإمعان في التلاعب والمماطلة، أخذت وتيرة الأحداث مسارًا تصاعديًا، في الأشهر الأولى من العام الجاري 2021.

وانتهت حالة الاستقطاب والتصعيد بين الأطراف الثلاثة مع فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات، بعد تعنت وانسحاب الطرف الإثيوبي من الجولة الأخيرة من المفاوضات، على نحوٍ يفتح كافة الخيارات أمام دولتي المصبّ. فقد حذّر الوفد السوداني خلال جلسات التفاوض، من التعنت الإثيوبي، وأكدّ أن هذا التعنت الإثيوبي يحتم على السودان التفكير في كل الخيارات الممكنة لحماية أمنه ومواطنيه بما يكفله له القانون الدولي.

صفقة اللحظة الأخيرة

دعت الكونغو الديمقراطية الأطراف الثلاثة لاجتماع في كينشاسا، بشأنه تقريب وجهات النظر بين أطراف العملية التفاوضية. ذلك بعدما جاءت تصريحات الرئيس السيسي، الإسبوع الماضي، حاسمة فيما يتعلق بقضية المياه، وتصريحه على الهواء، ما يحمل معنى أنه لا يمكن أن تفرض على مصر حلولًا أحادية، ولا يتوقع أحد أنه بعيد عن رد الفعل حينما يتعلق الأمر بأمن مصر المائي، على نحوٍ قد يعرض الإقليم لعدم الاستقرار، في ظل التصرفات الأحادية الإثيوبية. 

يفرض هذا الواقع على دولتي المصبّ تداعيات وخيمة، في ظل الشح المائي الذي عانت منه مصر، والسلبيات التي تواجهها السودان، والتي واجهت بوادرها مع الملء الأول، وما شهدته أراضيها الزراعة ومحطات توليد الكهرباء من تعطل، مع تأثر معدل تشغيل سد الروصيرص.

وارتبط هذا التصعيد بشكل رئيسي بالتصريحات الإثيوبية المتمثلة في المضيّ قدمًا نحو الملء الثاني في يوليو المقبل، دون التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، ينظم عملية ملء وتشغيل السدّ. في ضوء ذلك التعنت وفي ظلّ رئاسة الكونغو الديمقراطية للاتحاد الإفريقي، عادت الأطراف الثلاثة للتفاوض مرة أخرى، على مدار الأيام الثلاثة الأخيرة الماضية، على أمل تقريب وجهات النظر والحيلولة دون ظهور البجعة السوداء، “black swan” مع عدم توقع ما ستؤول إليه مسارات الأحداث فيما بعد. 

تم عقد جولة تشاورية في كينشاسا، تحت رعاية الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي؛ بعد توقفها لثلاثة أشهر، على أمل التوصل إلى صفقة في اللحظة الأخيرة ” Last minute deal”، من خلال  التوصل إلى توافق على منهاجية جديدة للتفاوض، وفقًا للمقترح السوداني، بتبني آلية ” 3+1″ ؛ الدول الثلاثة بالإضافة إلى الوسطاء الدوليين( الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة والولايات المتحدة)، وهو المقترح الذي أيدته مصر، بينما رفضه الجانب الإثيوبي، وأعلن تمسكه بمبدأ الحلول الإفريقي للمشكلات الإفريقي، وبقاء المفاوضات بين الأطراف الثلاثة داخل البيت الإفريقي. 

وعلى هامش الجلسات، أوضحت  الوزيرة أن الجولات السابقة تحت رعاية الاتحاد الإفريقى برئاسة جنوب إفريقيا، لم تكن مجدية وأهدرت 200 يوم فى المفاوضات، وكانت نتيجتها تراجعًا حتى عما تم تحقيقه بالفعل والاتفاق عليه فى الجولات السابقة، وأن الملء الأول للسد الذى تم بشكل أحادى بواسطة إثيوبيا رغم تحذير السودان من الملء دون اتفاق، وتبادل بيانات فى الوقت المناسب مع سد الروصيرص، أدى إلى ما يقارب أسبوع من العطش، وأثر على الرى واحتياجات الثروة الحيوانية والمنازل والصناعة وخاصة فى العاصمة الخرطوم.

وقد حذّرت المهدي المزارعين السودانيين والرعاة من تداعيات ذلك الملء، مع توضيح التأثر الذي ستشهده محطات الشرب ومياه الري في مناطق النيل الأزرق (الدمازين إلى الخرطوم)، من انخفاض كميات المياه الواردة من النيل الأزرق خلال الفترة من أبريل حتى نهاية سبتمبر. 

وبذلك أجهضت الجولة الأخيرة أية محاولات توفيقية، بعدما أبدى المفاوض الإثيوبي قدرًا كبيرًا من التعنت وانسحب من الجلسة الأخيرة للتفاوض، رفضًا للمقترح السوداني – المصري، بتعديل آلية التفاوض، وانسحاب الوفد الإثيوبي في اليوم الأخير، بما يعكس صعوبة التوصل إلى صفقة في اللحظات الأخيرة. 

المبارة الصفرية

يفرض هذا السلوك المتعنت على الجانب المصري خيارات أخرى، قد لا ترغبها جميع الأطراف. وحتى اللحظة الأخيرة، لا تزال دولتي المصب حريصتان على عدم الانجرار إلى أسوأ السيناريوهات، فكثف الطرفان من درجات التنسيق المشترك بينهما، على المستوى الدبلوماسي والعسكري. 

وقد كثّف الطرفان المصري والسوداني التعاون فيما بينهما مؤخرًا، واتفقا على رفع درجات التعاون العسكري بينهما، في الاتفاق الذي وقّعه رئيسا أركان البلدين في مطلع مارس الماضي. يتزامن مع هذا الاتفاق، رفع مستوى التنسيق العملياتي بين الطرفين، فقد أجرى البلدان تدريبًا عسكريًا مشتركًا ” نسور النيل 1″ في نوفمبر الماضي. وتزامنًا مع الجلسات الأخيرة عقد التدريب الثاني ” نسور النيل 2″، 

ودبلوماسيًا، كثّف الطرفان من التواصل على المستوى الإقليمي والدولي، لتوضيح مواقف الأطراف التفاوضية، وهي التحركات التي يرى المراقبون تحمل في طياتها نوعًا من إبراء الموقف أمام المجتمعين الإقليمي والدولي. ذلك بعد سنوات من التسويف والمماطلة الإثيوبية، جنبًا إلى جنب مع ترسيخ لواقع جديد.

وفي خطوة جديدة أقبلت عليها السودان، تمّ شرح قضية السد للجاليات السودانية في الخارج؛ ألمانيا وبولندا وسويسرا؛ ذلك لإشراك كافة السودانيين في الملف وتطوراته. وعكف الجانبان المصري والسوداني على توضيح وجهتي النظر للشركاء الإقليميين والدوليين، في محاولة للضغط على الجانب الإثيوبي للتخلى عن موقفه المتصلب. 

فحاول الطرفان استقطاب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، للعب دورًا إيجابيًا يمكنه دفع إثيوبيا إلى إبداء مزيدًا من المرونة في التفاوض، والتخلي عن منطق المباراة الصفرية. خاصة مع التداعيات الوخيمة التي قد تطال الإقليم ككل، بعد الآثار السلبية التي ستشهدها دولتي المصبّ. 

ويفتح هذا الباب للتساؤل عما إذا بإمكان أي وسيط لعب هذا الدور، أو إمكانية تحلي المفاوض الإثيوبي بأية مرونة في اللحظات الأخيرة. فتزامنًا مع الجولة الأخيرة، أعلنت الخارجية الأمريكية، أن الوزير أنتوني بلينكن تحدث، أمس، مع رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك بشأن الجهود المبذولة لدفع عملية السلام، وتعزيز الإصلاحات السياسية. وحث السفير الأميركي لدى جمهورية الكونجو الديمقراطية مايكل هامر الوفد الإثيوبي المشارك في مفاوضات «سد النهضة» على تبادل البيانات مع مصر والسودان، لتلافي حالات طارئة في البلدين. 

غير أن الموقف الإثيوبي من هذه الوساطة لا يدعو إلى التفاؤل، بعدما شكك في موقف الأطراف الدولية، واتهمّ التدخل الأمريكي، بأنه يعمل على تقويض المصالح الإثيوبية.  كما أنه موقفه من السد وقضية المياه بشكل عام، تؤكد أنه لا أمل في هذا المسار التفاوضي، ففي فاعلية لوزارة المياه والري الإثيوبية، عقدت في مارس، بمناسبة ذكرى مرور عشرة سنوات على إطلاق سدّ النهضة في 3 إبريل الجاري، أكدّ وزير خارجيتها بأن السدّ ليس من أجل مستقبل الأجيال القادمة وإنما مسألة حماية لسيادة الدولة، وأكد المتحدث باطسم الخارجية ” دينا مفتي” تمسك إثيوبيا بالوساطة الإفريقية. 

وهو الموقف المناوئ لقواعد القانون الدولي، واتفاق المبادئ الذي وقّع بين الأطراف الثلاثة 2015، استنادًا إلى رؤية شعبوية داخليًا، وعدائية إقليميًا؛ من خلال السعي للهيمنة الإقليمية، والاتجاه نحو تقويض القوى الإقليمية، عبر ورقة المياه. فلن يتوقف الأمر عند حدود الملء الثاني، وإنما اتضحت النوايا الإثيوبية في “بيع حصص المياه”، بعد أن يتعذر على دولتي المصب تغيير الواقع بعد الملء الثاني، فلن يصبح أمامهما سوى الرضوخ إلى وجهة النظر الإثيوبية، وإلا ستطال التداعيات السلبية السودان قبل إثيوبيا. 

وقد كشف عن ذلك السيناريو الخبيث، تصريح للمتحدث بإسم الخارجية الإثيوبية ” دينا مفتي” في حديث له لقناة الجزيرة، قال خلاله أن بلاده ستبيع المياه لمن يريدها، على نحوٍ ينذر بمرحلة جديدة من التنافس على الموارد المائية في إطار حوض النيل. 

أخيرًا

 يفرض هذا السياق المأزوم على كافة الأطراف الإقليمية أو الدولية، الاختيار بين الدفع نحو التعاون الإقليمي بهدف التنمية لكافة شعوب دول حوض النيل، أو فتح فصل جديد من الصراع على الموارد، في ذلك الإقليم المأزوم، بما يهدد الأمن الإقليمي والدولي على السواء. وقد يكون ذلك التهديد هو أحد المحركات للقوى الدولية للعمل على وأد أزمة إقليمية، باتت بوادرها تلوّح في الأفق، بما يهدد أمن القرن الإفريقي والبحر الأحمر على السواء. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى