
سياسة “الخط الأحمر”.. النهج المصري في إرساء الردع وفرض القوة
مثّلت تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال زيارته التفقدية للمجرى الملاحي لقناة السويس بعد نجاح تعويم السفينة البنمية الجانحة “إيفر جيفن” حول أن مصر لن تقبل المساس بحقوقها المائية في نهر النيل وأن “المساس بمياه مصر خط أحمر” تحولًا فارقًا في لغة الخطاب السياسي المصري إزاء ملف سد النهضة الإثيوبي والتطورات التي يشهدها الملف في ضوء إصرار أديس أبابا على إتمام الملء الثاني للسد خلال موسم الأمطار المقبل.
تصريحات الرئيس التي جاءت بلهجة حازمة وحملت إشارات غير مسبوقة عن سيناريوهات التعامل المصري مع الملف الذي يراوح مكانه منذ نحو عشر سنوات لم تغفل أيضًا الإشارة إلى أن مصر بدأت “معركة التفاوض” وأصرت عليها، وأنها تتمنى التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن ملء وتشغيل السد. بيد أن حديث الرئيس حمل أسلوبًا في التعاطي السياسي سبق وأن انتهجته مصر بنفس الألفاظ “الخط الأحمر” في تعاملها مع الأزمة الليبية في وقت كانت تتجه فيه مجريات الأمور في الميدان الليبي إلى نحوٍ يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة واهتزاز معادلة الأمن القومي المصري في أحد دوائره المباشرة وكذلك الأمن القومي العربي.
التجربة المصرية
كان الانخراط المصري في الأزمة الليبية منذ نشوبها يقوم على أنه لا حل عسكري للأزمة، ولا مناص من الحل السياسي القائم على وحدة الدولة الوطنية الليبية ذات السيادة على كامل أراضيها، واحترام إرادة واختيار الشعب الليبي دون التدخل في شؤونه الداخلية أو فرض أية مصالح خارجية عليه، ودعم مؤسسات الدولة الوطنية.
وذلك ما عبّر عنه “إعلان القاهرة” (6 يونيو 2020) ونصّ على التأكيد على وحدة وسلامة الأراضي الليبية واحترام كافة الجهود والمبادرات الدولية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وبناء حل سياسي شامل يتضمن خطوات تنفيذية واضحة للمسارات السياسية والأمنية والاقتصادية واحترام حقوق الإنسان. في حين كانت قوى أخرى تعول على الحل العسكري للأزمة، وعملت على إزكاء كل محفزات الصراع وأوفدت المرتزقة الأجانب إلى الميدان الليبي، وصرّحت (8 يونيو 2020) بأن “مساعي السيطرة على مدينة سرت مستمرة، وفي الوقت ذاته هناك عمليات جارية للسيطرة على قاعدة الجفرة الجوية”.
وهو ما رأته الدولة المصرية تهديدًا لأمنها القومي أولًا، وللأمن القومي العربي ثانيًا، مما دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الدعوة أثناء زيارته قاعدة سيدي براني على الحدود الغربية (20 يونيو 2020) إلى توقف القوات الليبية من المنطقة الشرقية والمنطقة الغربية عند الخط الذي وصلت إليه حينها، وبدء إجراءات مباحثات وتفاوض للوصول إلى حل سياسي للأزمة الليبية، معلنًا أن هذا الخط (سرت-الجفرة) خط أحمر بالنسبة لمصر.
مثّل إعلان هذا الخط نقطة تحول في مسار الأزمة الليبية؛ إذ ساهم في تهدئة النيران وتوفير مناخ ملائم لاجتماعات بين الأطراف المتنازعة برعاية الأمم المتحدة، وصولًا إلى وقف شامل لإطلاق النار (23 أكتوبر 2020) أفضى إلى إنجاح مباحثات المسارات السياسية والعسكرية والاقتصادية، والتوصل إلى اختيار سلطة تنفيذية جديدة لليبيا (5 فبراير 2021) ممثلة في مجلس رئاسي برئاسة محمد المنفي ونائبيه موسى الكوني وعبد الله اللافي، وحكومة وحدة وطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة.
خط نهر النيل
من منطلق أن ملف سد النهضة الإثيوبي وحقوق مصر التاريخية في مياه النيل أمر حيوي ووجودي للدولة المصرية، تطرق نفس الخطاب الذي ألقاه الرئيس السيسي في قاعدة سيدي براني (20 يونيو 2020) إلى ملف سد النهضة، وأكد أن مصر كانت حريصة على التعامل مع هذا الملف من خلال التفاهم والتفاوض، ومازالت تتحرك في هذا الاتجاه، وعندما تحركت في مجلس الأمن لإعطائه الملف كان من منطلق الحرص على اتباع المسار السياسي والدبلوماسي حتى نهايته.
ولكنّ التصريحات والمواقف المصرية الرشيدة والصبورة وُوجهت باستمرار التعنت والمماطلة من جانب إثيوبيا، والإصرار على الملء الثاني للسد دونما التقيد بالتوصل إلى اتفاق مع دولتي المصب مصر والسودان. مما حدا بالرئيس السيسي إلى الإعلان من قناة السويس أن لا أحد يستطيع الحصول على قطرة مياه واحدة من حق مصر في مياه النيل وأن المساس بمياه مصر خط أحمر، والرد المصري عليه سيخلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد.
رسائل متعددة
تكتسب تصريحات الرئيس السيسي برسم الخط الأحمر في مياه النيل أهمية إضافية -بجانب ما حمله مضمونها- من عدة عوامل يجب النظر إليها عند الحديث عن دلالات هذا التصريح والآثار التي سينتجها مستقبلًا.
- الزمان والمكان
لا تنفصل تصريحات الرئيس السيسي عن سياقها الأشمل في هذا اليوم والذي كان الاحتفاء بالإنجاز الذي حققه المصريون بإعادة تعويم السفينة “إيفر جيفن” خلال ستة أيام فقط وبجهود مصرية خالصة رغم توقعات خبراء بأن تمتد الأزمة لأسابيع ورغم طلبات المساعدة التي قدّمتها دول عدة. ومن ثمّ فإن رسم الخط الأحمر فيما يخص حق مصر في مياه النيل جاء من منطلق قوة، وفي لحظة أثبت فيها المصريون قدرتهم على مجابهة كافة التحديات.
وحملت التصريحات التي جاءت في مؤتمر صحفي عالمي محل اهتمام ومتابعة من كل وسائل الإعلام العالمية وبعد يوم واحد من تصريح المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية أن بلاده “أكدت للمبعوث الأمريكي إلى السودان دونالد بوث بمضيها في عملية الملء الثاني لسد النهضة، وأنها جزء من عملية بناء سد النهضة”؛ إشارات مهمة حول تداعيات استمرار تعقد الأزمة ليس على مصر فحسب، وإنما على الأمن الإقليمي واستقرار المنطقة برمتها.
وقد أمد الزخم الدولي المصاحب للحدث في قناة السويس وما حمله توقف الملاحة فيها لستة أيام من تداعيات وتأثيرات صعبة على العالم بأسره إثر تضرر حركة التجارة الدولية بُعدًا يؤكد أنه لن يكون من مصلحة أحد في المنطقة أو العالم أن تستمر أزمة سد النهضة بالنحو الذي عليه الآن والذي قد يتطلب تحرك القاهرة للدفاع عن حقوقها التاريخية في مياه النيل.
- واقع “القاهرة”
استغلت إثيوبيا حالة الوهن العارض التي ألمت بمصر عام 2011 لتشرع في بناء سد النهضة سعيًا إلى فرض الأمر الواقع، إلا أن مصر التي حاولت أديس أبابا فرض الأمر الواقع عليها في 2011 تختلف جذريًا عن واقع مصر الفعلي، فضلًا عن أن متغيرات عدة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا طرأت على الدولة المصرية منذ 2011 جعلت من مساعي فرض الأمر الواقع عليها أمرًا صعبًا.
وليس رسم الخط الأحمر كما حدث في ليبيا والآن في نهر النيل تهديدًا أو تلويحًا عابرًا، وإنما نابع من قوة القاهرة وقدراتها الاستراتيجية؛ فسياسيًا استعادت مصر دورها الخارجي المحوري والمؤثر في المنطقة والعالم، وباتت رقمًا مهمًا في معادلة الأمن الإقليمي لا يمكن تجاوزه. واقتصاديًا فقد ساهمت عملية الإصلاح الاقتصادي التي قامت بها مصر فضلًا عن الاكتشافات الغازية الكبيرة في شرق المتوسط في تحقيق قوة للاقتصاد المصري وتقليل اعتماديته على عوامل خارجية.
أما على الصعيد العسكري فقد أعادت مصر تحديث قواتها المسلحة وامتلكت يدًا طولى قادرة على التعامل في مختلف المسارح وعبر مختلف الأسلحة. وقد قام الجيش المصري في السنوات الأخيرة بالكثير من الأنشطة العسكرية داخل الحدود المصرية وخارجها ومع مختلف القوى الدولية والعربية، فأرسى بذلك معادلة استراتيجية مفادها القدرة على التأثير من خلال الاحتفاظ بأعلى مستوى ممكن من قدرات الردع دون الانخراط العسكري.
إجمالًا، امتلكت مصر كافة مقومات القوة الشاملة التي تفسح أمامها المجال لخيارات استراتيجية أوسع إذا ما استدعت الضرورة ذلك، ومن ثم فإن تصريحات الرئيس التي تأتي في ضوء اليقين بامتلاك القوة والقدرة على الدفاع عن المصالح المصرية بكافة الخيارات الممكنة ليست إعلانًا مباشرًا للحرب وإنما إشارة بأن صبر “القاهرة” بدأ في النفاد، وأنه على الرغم من أن خيارها الأول يظل هو الاستمرار في “معركة التفاوض” للوصول إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن ملء وتشغيل سد النهضة فإن خيارات أخرى باتت حاضرة في الخطاب السياسي لمصر.
وبناء على هذه المعطيات، سيتعيّن على إثيوبيا التخلي عن أساليبها التفاوضية القائمة على المماطلة والمراوغة وكسب الوقت لفرض الأمر الواقع خلال الجولة الجديدة من المفاوضات التي من المنتظر أن تبدأ خلال الأسابيع المقبلة بمشاركة مصر والسودان اللتين تتوافق مواقفهما تمامًا فيما يخص رفض الملء الثاني للسد بإرادة منفردة وينفذان حاليًا التدريب الجوي المشترك (نسور النيل – 2) بقاعدة مروى الجوية السودانية بمشاركة عناصر من القوات الجوية وقوات الصاعقة لكلا البلدين لـ”قياس مدى جاهزية واستعداد القوات لتنفيذ عمليات مشتركة على الأهداف المختلفة”.
باحث أول بالمرصد المصري



