السد الإثيوبي

أزمة سد النهضة: إدارة آبي أحمد تعادي الجميع

مع اقتراب موسم الأمطار الذي ينتظره الإثيوبيون للبدء في المرحلة الثانية من ملء سد النهضة وتوقف المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان منذ مطلع يناير من العام الجاري، احتدمت التصريحات بين الأطراف الثلاثة وانقسمت بين تحذيرات مصرية سودانية من الإقدام على الملء الثاني دون اتفاق، وإصرار إثيوبي على الاستمرار في التصرفات الأحادية إضافةً إلى التشكيك الدائم في حسن نوايا الجانب المصري تجاه علاقته مع السودان التي توطدت بقوة خلال الفترة الماضية. 

وبعد أن كانت المفاوضات حول السد تسير في مسارات ضيقة وتنحصر بين الدول الثلاث فقط بسبب تعنت الجانب الإثيوبي وقدرته على استمالة الجانب السوداني إلى صفه في البداية، وجدت إثيوبيا نفسها وحيدة في مواجهة مصر والسودان بعد التقارب الواضح بين الطرفين ونجاحهما في الوصول بالقضية إلى مجلس الأمن ودخول عدد من الفاعلين الدوليين على خط الأزمة.

مصر وجامعة الدول العربية

منذ أن شرعت إثيوبيا في بناء السد في 2011 لم يحدث تقارب إثيوبي مصري إلا بعد تولي الرئيس السيسي حكم البلاد أثناء وجود هيلي ميريام ديسالين في منصب رئيس وزراء إثيوبيا. وقد أسفر هذا التقارب عن توقيع اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم في 2015. ومع تردي الأوضاع في إثيوبيا واستقالة ديسالين من منصبه واستبداله آبي أحمد به، تحولت نبرة الحديث إلى نبرة عدوانية حادة تغلفها اتهامات لمصر بالتسبب في أزمات داخلية لإثيوبيا، وتطاول على جامعة الدول العربية التي تبنت قرارًا يدعم حق مصر والسودان التاريخي في مياه النيل.

وعلى الرغم من تأكيد القيادة السياسية في مصر ضرورة التوصل لحل سلمي للأزمة، وإصرارها على الاستمرار في المسار التفاوضي الذي امتد لعشر سنوات، إلا أن رئيس الوزراء الإثيوبي ووزير خارجيته لم يمانعا الدخول في حرب مع مصر، فقال آبي أحمد صراحة أمام البرلمان إن بلاده على استعداد لحشد مليون إثيوبي على الحدود لمواجهة مصر. 

ولكن يبدو أن صبر القاهرة بدأ ينفد بعد جولات عديدة من المفاوضات غير المجدية وإصرار إثيوبيا على التصرف بشكل أحادي؛ واتضح ذلك في أحاديث الرئيس السيسي مؤخرًا، حيث حدد منتصف إبريل موعدًا لاستئناف المفاوضات من جديد برعاية دولية، وبعث برسالة قوية خلال زيارته لقناة السويس اليوم مفادها أن “المساس بمياه مصر خط أحمر… وأن عواقبه ستؤثر على استقرار المنطقة بالكامل”.

السودان

كانت إثيوبيا إلى وقت قريب ناجحة في كسب السودان إلى جانبها أثناء التفاوض حول النقاط العالقة بشأن سد النهضة، وبدا ذلك جليًا في رفض السودان التوقيع على وثيقة واشنطن، والتحفظ على بيان جامعة الدول العربية الداعم لموقف مصر والسودان في أزمة السد، ولكن لم يدم دفء العلاقة بين الخرطوم وأديس أبابا طويلًا؛ إذ تحولت نبرة المفاوض السوداني إلى التركيز على مخاطر السد الإثيوبي على السدود السوادنية وتأثيره السلبي على حياة 20 مليون مواطن سوداني.

وعلى النقيض من المحاولات الإثيوبية الرسمية -في أحاديث المسؤولين، وغير الرسمية على المواقع الإخبارية وصفحات التواصل الاجتماعي– لكسب ود السودانيين وإظهار مصر بمظهر عدو التنمية في السودان وإثيوبيا، جاءت خطوات الجيش السوداني صادمة للإثيوبيين، فقد نجحت القوات المسلحة السودانية في استرداد الأراضي السوادنية التي كان يسيطر عليها الإثيوبيون لسنوات، وتصدت لهجمات المليشيات المدعومة من الجيش الإثيوبي منذ نوفمبر الماضي وحتى الأمس.

C:\Users\m.elsayed\AppData\Local\Microsoft\Windows\INetCache\Content.Word\download.jpg

وقد صرح المسؤولون الإثيوبيون مرارًا بأن القوات السودانية استغلت انشغال القوات الإثيوبية في حربها ضد التيجراي شمال البلاد للسيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي التي يعيش عليها الإثيوبيون، وتنوعت الرسائل بين المطالبات الودية بعودة الجيش السوداني أدراجه والجلوس إلى طاولة التفاوض، والتهديد بأن صبر أديس أبابا ينفد بسبب تقدم الجيش السوداني، ليستمر الخلاف على الحدود بين البلدين وتخسر إثيوبيا دعم جارتها التي عولت عليها في فرض سياسة الأمر الواقع على مصر فيما يتعلق بالسد.

الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي

دائمًا ما تصف الولايات المتحدة الأمريكية إثيوبيا بأنها حليف مهم في إفريقيا، ولكن مع دخول الولايات المتحدة والبنك الدولي على خط أزمة السد الإثيوبي أثناء فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترامب، لم تظهر إثيوبيا الحد الأدنى من التعاون بعد أن رفضت التوقيع على الوثيقة التي تم التوصل إلى بنودها في واشنطن. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل امتد إلى اتهامها للولايات المتحدة بمحاباة مصر على حساب مصالح الشعب الإثيوبي، وطالب البرلمان الإثيوبي الولايات المتحدة بالتوقف عن الضغط على إثيوبيا للموافقة على اتفاق لا يخدم مصالحها، وخرج الإثيوبيون في الولايات المتحدة في مظاهرات ضد السياسة الأمريكية تجاه السد الإثيوبي، ليشتد الخلاف في موقف البلدين بعد فرض عقوبات على إثيوبيا تقدر بـ 130 مليون دولار سنويًا، وتصريح “ترامب” الصادم الذي قال فيه أن الأمر سينتهي بتفجير مصر للسد ولن يلومهم أحد على هذا التصرف.

ومع انتهاء فترة ولاية الرئيس السابق وتولي “جو بايدن” رئاسة الولايات المتحدة، شعر الإثيوبيون بانفراجة في العلاقة مع الولايات المتحدة، إلا أن الحرب في إقليم التيجراي والأوضاع الإنسانية المأساوية التي يعيشها سكان الإقليم أزعجت الإدارة الأمريكية الجديدة، ما دفعها إلى إبداء قلقها إزاء حقوق الإنسان في الإقليم وحالات القتل الجماعي التي يتعرض لها المدنيون هناك.

أما الاتحاد الأوروبي فقد حاول على مدار الأشهر القليلة الماضية توصيل المساعدات الإنسانية لإقليم التيجراي، وفتح قنوات اتصال مع الحكومة الإثيوبية من أجل هذا الغرض، ولكن غالبًا ما كانت المحاولات تبوء الفشل، لتظهر الإدارة الإثيوبية بقيادة آبي أحمد تعنتًا جديدًا في وجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

الجدير بالذكر أن المبعوثين الأمريكي “دونالد بوث” والأوروبي “روبرت فاندول” أبديا استعدادهما للتوسط في قضية سد النهضة، وأكدا إيمانهما بضرورة التوصل إلى حل دبلوماسي بشأن الخلاف حول السد وفق مقاربة ترضي الأطراف الثلاثة، تضمن لإثيوبيا التمتع بالكهرباء، وللسودان سلامة أراضيه وتأمين سدوده، ولمصر حقوقها المائية، ولكن وزير الخارجية الإثيوبي أبلغهما أن بلاده مستمرة في الملء الثاني للسد في موعده، ضاربًا بمبادرتهما عرض الحائط.

الداخل الإثيوبي

لم يكن الداخل الإثيوبي يتمتع بالتماسك والانسجام قبل تولي آبي أحمد مقاليد الحكم، ولكن مع دعوته للمليشيات المسلحة بتسليم الأسلحة في مقابل العفو عنهم والإفراج عن زعماء المعارضة، بدا أن القوميات المتفرقة هناك ستبدأ في الاتحاد من أجل إثيوبيا، ولكن سرعان ما تلاشى هذا الحلم، ليتحول رجل السلام إلى مجرم حرب يقتل الأبرياء في التيجراي من أجل البقاء في الحكم، ويقمع المتظاهرين في إقليم أوروميا بعد مقتل المطرب الأورومي المعارض “هاتشالو هونديسا”، ويعتقل قيادات المعارضة بشكل مكثف، مما أدى إلى اشتعال الأوضاع في أقاليم رئيسية مثل أوروميا وبني شنقول والتيجراي، ولاحت في الأفق مطالبات عديدة بانفصال الأقاليم عن الحكومة الفيدرالية.

C:\Users\m.elsayed\AppData\Local\Microsoft\Windows\INetCache\Content.Word\e9hyHkaRFZdDV_jLZuTS6l3ecduGNvyKSIPzC8MHDbcG4_6dm-ef09K8cM848J2JXASPlFLzbJEMApxPP4C7fQ.JPG

جدير بالذكر أن آبي أحمد كان قد أجل الانتخابات بسبب جائحة كورونا، وهو السبب الرئيس وراء انقلاب قيادات التيجراي عليه، وقد قال أمام البرلمان منذ أقل من أسبوع  إن هناك قوات إريترية على الأراضي الإثيوبية من أجل فرض النظام في إقليم التيجراي، ما يثبت ادعاءات قيادات التيجراي بتحالف أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي ضدهم لتصفية حسابات الحرب التي دامت لسنوات بين إريتريا وإثيوبيا وتحمل تبعاتها التيجراي وحدهم، وهو ما يصعب موقف آبي أحمد في الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها في يونيو المقبل. 

الأمم المتحدة

علاوةً على توصية مجلس الأمن بعدم اتخاذ خطوات أحادية تهدد مسار مفاوضات سد النهضة منذ ما يقرب من عام، والتي لم تلتزم بها إثيوبيا في الملء الأول لخزان السد في يوليو من العام الماضي، فقد أوضح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش استعداد المنظمة لتقديم الدعم والمشاركة في عملية تفاوضية تقودها لجنة رباعية دولية تتكون من الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي، ولكن وزير الخارجية الإثيوبي رفض هذه الوساطة بتمسكه باستمرار المفاوضات تحت قيادة الاتحاد الإفريقي تارة، وإنكاره استقبال المقترح السوداني بتشكيل اللجنة الرباعية تارةً أخرى.

ختاماً، يمكن القول إن الإدارة الإثيوبية الحالية بقيادة آبي أحمد تصر على الاستمرار في تعنتها ضد الجميع بوجه عام ونهجها العدائي ضد مصر بوجه خاص، وتحاول بشتى الطرق التأثير على العلاقة الوطيدة بين مصر والسودان خاصةً بعد التقارب الواضح الذي بدأ في تقديم المساعدة الطبية أثناء أزمة كورونا والتعاون العسكري بين البلدين الذي تنامى بشكل كبير في الفترة الأخيرة. 

ويسهل التنبؤ بأن إثيوبيا سوف تستمر في محاولة التقرب من السودان في العلن والخفاء وتقديم كل ما يمكن تقديمه لتوقيع اتفاق ثنائي يضع مصر في موقف منفرد في أزمة السد كما حاولت من قبل، ولكن قد لا تتمكن إدارة آبي أحمد من الوصول إلى المحطة الأخيرة من مفاوضات السد إذا ما عُقدت الانتخابات في موعدها.

محمود سلامة

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى