
التوجه الأوروبي نحو حكومة “الدبيبة” بين دعم الوحدة الوطنية وتعزيز النفوذ
سعت بعض القوى الأوروبية وفي مقدمتها إيطاليا وفرنسا وألمانيا إلى أن الانخراط في المشهد الليبي للاستفادة من المُنجزات السياسية التي تحققت هناك والمتمثلة في اختيار سلطة تنفيذية جديدة، وذلك من خلال زيارة وزير الخارجية الألماني “هايكو ماس”، ونظيره الفرنسي “جان إيف لودريان”، والإيطالي “لويجي دي مايو” إلى طرابلس في 25 مارس2021 لدعم الحكومة الجديدة؛ حيث عقد الدبلوماسيون الثلاثة مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا مع وزيرة الخارجية الليبية “نجلاء المنقوش” التي أوضحت أنها اتفقت مع الوزراء على عودة السفارات، ومنح التأشيرات من داخل ليبيا وليس من خارجها، وشددت على ضرورة خروج المرتزقة من كافة الأراضي الليبية بشكل فوري، رافضةً المساس بسيادة البلاد.
وقد اتفق الوزراء الثلاثة مع نظيرتهم الليبية على موقف واحد بشأن المرتزقة يتمثل في ضرورة انسحابهم من ليبيا، فيما أوضح “ماس” أن “ما تشهده ليبيا من تقدم يُعد إحدى النقاط المضيئة القليلة في السياسة الخارجية خلال العام الماضي”، مُستكملًا أن “الاتحاد الأوروبي سيواصل مراقبة حظر السلاح في ليبيا”. فيما عبر “دي مايو” عن أن “روما مُقتنعة بأنه لن يكون هناك حل عسكري للأزمة في ليبيا”، علاوة على ارتياحه لإعادة فتح تصدير النفط وتبني أجندة الحكومة الأولويات العاجلة لليبيين، و”دعم بلاده “للحوار العسكري الليبي المتمثل في اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في مجهوداتها في المسار الأمني ضمن اتفاق وقف إطلاق النار”، واستكمل: “علينا أن نضاعف الجهود لتدريب حرس الحدود والبحرية الليبية، وسنستمر في التعاون مع ليبيا لمكافحة الهجرة غير الشرعية”. فيما دعا “لودريان” إلى فتح “الطريق الساحلي بين “سرت” و”مصراته”، وأشار إلى “ضرورة الالتفات إلى تداعيات الأزمة الليبية على أوروبا بما في ذلك الهجرة غير الشرعية والإرهاب” وأن “استقرار ليبيا مهم لاستقرار شمال أفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة الساحل”.
والجدير بالذكر أن هذا المؤتمر قد سبقه اجتماع الدبلوماسيين الثلاثة مع رئيس الحكومة الليبية “عبد الحميد الدبيبة” والمبعوث الأممي الخاص “يان كوبيس”؛ ناقشوا خلاله “عودة الرحلات الجوية إلى ليبيا، وتعزيز الوجود الدبلوماسي الأوروبي، والقضايا ذات الاهتمام المشترك مثل مجابهة الهجرة غير الشرعية، فضلًا عن الانتخابات الليبية المقبلة وكيفية التحضير لها. وعبر خلاله “الدبيبة” عن شكره للقوى الأوروبية لدعمها وحرصها على التوافق الداخلي بين الليبيين، مُعبرًا عن “استعداده لتعزيز روابط الصداقة والتعاون مع الدول كافة مما يعزز دور ليبيا في إرساء دعائم الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم”. فيما أوضح الدبلوماسيون عن “استعداد دولهم لتقديم الدعم والمساعدة للحكومة تلبيةً لجميع التزاماتها فيما يتعلق بالعديد من القضايا ذات الأولوية”.
توقيت الزيارة
تأتي الزيارة بعد أقل من أسبوعين على تشكيل الحكومة الجديدة التي أدت اليمين الدستورية أمام البرلمان في 15 مارس 2021، بقيادة “عبد الحميد الدبيبة”، وتتكون من نائبين لرئيس الوزراء، و26 وزيرًا وستة وزراء دولة، فيما أُسندت خمس وزارات منها وزارتان سياديتان وهما العدل والخارجية لأول مرة إلى نساء، الأمر الذي لاقى ترحيبًا أمميًا ودوليًا، وذلك بعد عدد من المباحثات بين الفرقاء الليبيين برعاية الأمم المتحدة على خلفية اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر الماضي.
ويُذكر أن أبرز مهام الحكومة المؤقتة ستكون إعادة توحيد المؤسسات الداخلية، وإدارة المرحلة الانتقالية تمهيدًا لإجراء الانتخابات المقبلة التي من المقرر عقدها في 24 ديسمبر 2021، بجانب احتواء حالة الفوضى التي تعاني منها البلاد، فضلًا عن مواجهة التحدي الأكبر الذي يتمثل في إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية المتمركزة في البلاد.
وجاءت الزيارة بعد زيارة “دي مايو” لطرابلس في 21 مارس، لتكون أول زيارة لوزير خارجية أوروبي بعد تشكيل الحكومة، لبحث سبل التعاون المشترك، وتوثيق العلاقات الثنائية بين الجانبين، ومناقشة ملف الهجرة غير الشرعية، ومدى إمكانية استئناف التعاون الاقتصادي بينهم. وتلاها إعلان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في 23 مارس إعادة فتح السفارة الفرنسية في طرابلس يوم الاثنين الموافق 29 مارس، بعد استقبال “محمد المنفي” رئيس المجلس الرئاسي الليبي في أول زيارة خارجية له منذ توليه منصبه بدعوة رسمية من قصر الإليزيه.
هذا بجانب تصريح رئيس الوزراء الإيطالي “ماريو دراجي” في 24 مارس عن زيارته إلى ليبيا يُعتقد إنها ستكون خلال الأسبوع الأول من شهر أبريل، وذلك خلال كلمته أمام البرلمان فيما يتعلق بالتوجهات الخارجية لإيطاليا، وعليه ستُعد طرابلس أول وجهة خارجية له منذ توليه منصبه في فبراير 2021. فضلًا عن مُهاتفة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” لـ “الدبيبة” في نفس يوم الزيارة لتهنئته والترحيب بجهوده لاستعادة الوحدة الوطنية في البلاد، ومُقترحًا تقديم الدعم والخبرة فيما يتعلق بالحوكمة الاقتصادية، وبناء المؤسسات، والإعداد للانتخابات القادمة.
دلالات التوجه الأوروبي
- لم تكن هذه المرة الأولى التي تولي الحكومات الأوروبية اهتمامًا واضحًا لتحولات المشهد السياسي في ليبيا؛ إذ أشادت فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية بمخرجات منتدى الحوار السياسي الليبي الخاص باختيار السلطة التنفيذية المؤقتة في 5 فبراير 2021، لكونها خطوة مهمة في مسار التسوية السياسية. وأشادوا بالتزام بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا والقائمة بأعمال الممثل الخاص للأمين العام “ستيفاني ويليامز”، مُتطلعين إلى تقديم الدعم الكامل لعمل المبعوث الخاص “يان كوبيش”.
- تأتي الزيارة في إطار الجهود الأوروبية لدعم تسوية الأوضاع الداخلية، وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين، وهو ما تجسد من قبل في عقد المؤتمرات الدولية بين الفرقاء الليبيين والفاعليين في الأزمة كان آخرها مؤتمر برلين في يناير 2020 للحد من التدخلات الأجنبية التي تعزز الصراع الداخلي، في محاولة لاستئناف الحوار بينهم تمهيدًا للتسوية سياسية، وقد سبقه تنظيم إيطاليا –بمبادرة من رئيس الوزراء جوزيبي كونتي– مؤتمرًا آخر في باليرمو في الفترة 13-14 نوفمبر 2018، الذي يدعم خطة المبعوث الأممي الساعية لتحقيق الاستقرار والتسوية السلمية للأوضاع الداخلية. وكذا استضافة الرئيس الفرنسي مؤتمرين في باريس الأول في 25 يوليو 2017، لوقف إطلاق النار، مع التعهد بإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن، والثاني في 29 مايو 2018، مع اقتراح تحديد موعد يوم الانتخابات في 10 ديسمبر من ذلك العام.
- لا تزال ليبيا تُمثل أولوية استراتيجية للقوى الأوروبية؛ حيث تعد الحكومة الوطنية المؤقتة في البلاد -التي مزقتها الحروب الأهلية، وتنامي الفاعلين الدوليين والإقليميين فيها باعتبارها ساحة جديدة للنفوذ للبعض منهم، علاوة على ارتباطها تاريخيًا ببعض القوى الآخر الأمر الذي أدى إلى تعقيد المشهد السياسي وانعكس بشكل سلبي على ليبيا وامتد إلى دول الجوار الإقليمي- مؤشرًا إيجابيًا على عودة الاستقرار، وتمهيدًا لمرحلة إعادة الإعمار بعد إجراء الانتخابات؛ إذ تحرص هذه القوى على المشاركة في هذه المرحلة، وهو ما تجلى في تصريح “دي مايو” على صفحته على “فيسبوك” إنه ” يتعين على إيطاليا المشاركة في إعادة إعمار ليبيا، لأن استقرارها يعني المزيد من الأمن في بلدنا وفرصًا جديدة لشركاتنا”.
- توضح الزيارة مدى توافق الموقف الأوروبي تجاه ليبيا بعد فترات من الخلاف والتوتر بين القوى الأوروبية، وخاصة بين فرنسا وإيطاليا الناتجة عن رغبتها في التدخل وفقًا لتوجهاتها ومصالحها، وهو ما تجلى في تعاطيها مع طرفي الصراع، مقابل ألمانيا التي التزمت الحياد تجاه الفرقاء الليبيين، علاوة على إنها لديها علاقات جيدة مع الدول الفاعلة في الأزمة، وعليه فقد أدركت هذه القوى أن التعاون الموحد والتنسيق المشترك أصبح ضرورة مُلحة في التعاطي مع الملف للحفاظ على مصالح الجميع.
- تأكيد دعمها الحل السياسي والحوار كأساس لإنهاء الأزمة الليبية التي استمرت لما يقرب من عقد من الزمان، بجانب ضرورة التخلص من وجود المرتزقة وهو ما تم الإشارة إليه أثناء المؤتمر حتى لا تستمر البلاد ساحة للحرب بالوكالة بين القوى الدولية؛ إذ تتخوف أن تصبح ليبيا ملاذًا للجماعات الإرهابية والمرتزقة الذين يتم توظيفهم من بعض القوى الإقليمية أو الدولية لصالح خدمة مصالحهم الخاصة، وهو ما تجسد من قبل في تقويض أمن واستقرار ليبيا ودول الجوار.
- الرغبة في وقف الأزمة الإنسانية التي يواجهها الشعب الليبي، والتعاون في القضايا محل الاهتمام المشترك مثل الهجرة غير الشرعية، بعد أن تحولت البلاد إلى دولة معبر للمهاجرين بتجاه أوروبا. وذلك في سياق استمرار حالة الخلاف بين الأوروبيين حول إدارة أزمة اللجوء والهجرة غير الشرعية، فضلًا عن كونها أصبحت ورقة ضغط استغلتها تركيا للضغط عليها، وتناور بها للإفلات من العقوبات التي يتم فرضها عليها نتيجة سياساتها الاستفزازية في شرق المتوسط، علاوة على الرغبة في استئناف التعاون الاقتصادي بين الجانبين وخاصة فيما يتعلق بالطاقة.
- بالرغم من الدلالات التي تحملها الزيارة في إطار الجهود الأوروبية إلا إنه من المبكر الحكم على مدى إعادة التموضع والنفوذ الأوروبي في ليبيا في مرحلة ما بعد الاستقرار، ولكنه يُمثل مؤشرًا إيجابيًا على رغبة القوى الأوروبية في جعل ليبيا أولوية لها، علاوة على إنها تُعد نافذة على أفريقيا يمكن أن تُعزز النفوذ الأوروبي فيها على المدى المتوسط. لذا فقد تم تمديد العملية العسكرية “إيريني” حتى 31 مارس 2023، لتنفيذ حظر الأسلحة، بما يضمن حماية أمن واستقرار ليبيا.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية