
تحدي “الجانحة” … كتابة التاريخ مرة أخرى في السويس
ربما لا يمكن التعبير عن أهمية دور قناة السويس على المستوى الإقليمي والدولي بشكل أبلغ من التداعيات الاقتصادية واللوجستية التي تصاعدت بشكل مفاجئ منذ تعرض المدخل الجنوبي للقناة للإغلاق المؤقت بفعل جنوح سفينة الشحن البنمية العملاقة “إيفر جيفن” الثلاثاء الماضي. وهي تداعيات شكلت سلسلة من المخاوف والهواجس، اختلطت فيها مخاطر تفاقم معاناة الاقتصاد العالمي -الذي يعاني أساسًا من تداعيات تفشي جائحة كورونا- مع شكوك البعض في إمكانية نجاح مصر في إدارة هذه الأزمة والتغلب عليها. هذه السلسلة انتهت بشكل شبه كامل فجر اليوم، مع تعويم السفينة الجانحة، وإتمام نحو 80% من المهام المطلوبة من أجل إعادة تحريكها بشكل كامل، إيذانًا بعودة الحياة مرة أخرى للممر الملاحي الأهم عالميًا.
أزمة “مسبوقة”.. ما بين الإدارة والسيادة
تاريخيًا، شهدت قناة السويس منذ افتتاحها في السابع عشر من نوفمبر 1869 وحتى تأميمها عام 1956، عدة مناسبات تعطلت الملاحة فيها بشكل مؤقت، منها توقف الملاحة لبضعة أيام خلال أحداث الثورة العرابية عام 1882، وتوقفها نتيجة لحوادث تصادم بين سفن مارة فيها، عامي 1885 و1905.
وتوقفت الملاحة داخل القناة أيضًا لفترات كبيرة خلال الحرب العالمية الأولى، وتوقفت لمدة تناهز العامين بين أغسطس 1940 ويوليو 1942 خلال الحرب العالمية الثانية. وآخر حوادث تعطل الملاحة داخل القناة قبيل التأميم كانت أواخر عام 1952، حين غرقت إحدى سفن شحن البضائع قبالة مدينة بورسعيد.
حتى عام 1956، كان الاعتقاد السائد عالميًا أن الإدارة العالمية لقناة السويس، تمثل السبيل الوحيد لإدامة الملاحة بها على الشكل الأمثل. هذا الاعتقاد تصادم مع التوجهات الوطنية التي تصاعدت في الذهنية المصرية عقب ثورة يوليو 1952، فكان قرار تأميم القناة في يوليو 1956 تصحيحًا لوضع خاطئ ظل قائمًا منذ حفر القناة. قرار التأميم أثار بالطبع غضب القوى الدولية التي كانت تسيطر على القناة ومواردها، لكنها راهنت على عدم تمكن الحكومة المصرية من إدارة القناة، بشكل يجعلها مضطرة في النهاية لطلب المساعدة الدولية لإدارتها.
تكثفت الضغوط الأوروبية على القاهرة من أجل إفشال إدارتها الوطنية لقناة السويس في هذه الفترة، وتنوعت ما بين فرض بريطانيا -التي كانت تمتلك 45% من أسهم القناة- عقوبات اقتصادية قاسية على مصر، جمدت فيها الودائع المصرية البالغ قيمتها 113 مليون جنيه إسترليني، وأوقفت أية معاملات مالية بين البنوك البريطانية ومصر، وبدأت في تحريض شركات الملاحة على محاولة تجنب دخول القناة، واللجوء إلى استخدام طرق ملاحية بديلة، وصولًا للإيعاز إلى طواقم السفن التجارية بعدم دفع الرسوم المطلوبة لعبور قناة السويس، وذلك في محاولة لتعطيل الملاحة في القناة نظرًا لأن الإدارة المصرية ستمنع بالتبعية مرور هذه السفن في القناة،
تعاملت الإدارة المصرية للقناة مع هذه المحاولات بصبر ومرونة، فسمحت بمرور كافة السفن بما في ذلك التي لم تدفع رسوم المرور كاملة، هذا رغم الخسائر المادية الناجمة عن قيام شركات الملاحة بدفع رسوم العبور إلى مقرات شركة قناة السويس الدولية في بريطانيا، (تحصلت مصر على 3.6 مليون جنيه مصر فقط كرسوم عبور في الفترة ما بين يوليو وأكتوبر 1956، مقابل 5.3 مليون جنيه حصلت عليها شركة قناة السويس الدولية في نفس الفترة).
آخر فصول التحديات الأساسية التي واجهت الإدارة المصرية لقناة السويس، دارت خلال الفترة بين سبتمبر ونوفمبر 1956، وبدأت بما يعرف ب (مؤامرة المرشدين)، حيث خطط 155 مرشدًا ونحو 330 عامل جميعهم من الأجانب، ظلوا يعملون في القناة بعد تأميمها، إلى مغادرة مواقع عملهم فجأة ليلة الرابع عشر من سبتمبر؛ بهدف شل حركة الملاحة في القناة، وبالتالي تحقيق هدف تعطيل العمل بها، لإظهار عجز الإدارة المصرية.
لكن كان هذا السيناريو ماثلًا في أذهان فريق تأميم القناة، فتم الاستعداد لهذه الاحتمالية عن طريق تدريب نحو 53 مرشدًا مصريًا عملوا بجانب المرشدين اليونانيين، وتم الدفع بهم فور توقف المرشدين الأجانب عن العمل، لتتمكن الطواقم المصرية من إدامة الملاحة داخل القناة في اليوم التالي لمغادرة المرشدين -الخامس عشر من سبتمبر- الذي عبرت فيه القناة نحو 42 سفينة.
هذا النجاح أدى إلى المشهد الأخير في المحاولات البريطانية لهزيمة مصر فيما بات يعرف تاريخيًا بـ “أزمة السويس”، حين بدأت بمعية كل من فرنسا وإسرائيل، هجومًا واسعًا على الأراضي المصرية، من خط الحدود الدولية مع فلسطين، وصولًا إلى العمق المصري. خلال المعارك تم إغراق نحو 50 سفينة في مجرى قناة السويس، مما أدى إلى إغلاق القناة حتى منتصف عام 1957.
أزمة السويس كانت تدشينًا للدور الإقليمي والجيوسياسي للقناة، في حقبة الحرب الباردة، حيث كانت هذه الأزمة هي الملف الوحيد الذي اتحدت فيه مواقف أكبر قوتين على المستوى الدولي -الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي- اللتين رأتا في الهجوم الثلاثي على مصر تهديدًا للمصالح الاقتصادية لكليهما، نظرًا لتوقف الملاحة في القناة، وما ينشأ عن ذلك من تبعات خطيرة على المستوى السياسي.
هذه المواقف تعززت بفعل الصمود البطولي للجيش المصري والمقاومة الشعبية، خاصة في مدينتي بورسعيد والسويس، وأدت في النهاية إلى انسحاب القوات المعتدية، وسقوط الحكومة البريطانية برئاسة أنتوني إيدن، الذي كان خروجه من المشهد السياسي إيذانًا بأفول شمس بريطانيا كقوة استعمارية كبرى.
بعد فشل محاولات التشكيك في قدرة مصر على إدارة القناة، بدأت محاولات تهديد سيادتها عليها، وذلك من خلال عدوان عام 1967، الذي شنته إسرائيل على عدد من الدول العربية ومن بينها مصر. كان من ضمن الأهداف الإسرائيلية لاحتلال سيناء، هو وضع اليد على قناة السويس وإدارتها والاستفادة من مواردها، لكن تعطل الملاحة في القناة نتيجة لإغراق عدد من السفن داخل ممرها الملاحي، وكذا تماسك القوات المصرية بشكل سريع على الضفة الغربية للقناة، أدى إلى جمود الموقف الملاحي للقناة، وتوقف الحركة فيها منذ يونيو 1967وحتى يونيو 1975، حين أعاد الرئيس الراحل أنور السادات افتتاح القناة رسميًا.
شهدت قناة السويس قبيل إعادة افتتاحها، ملحمة عسكرية تاريخية تمثلت في عبور الجيش المصري لها، واقتحامه خط بارليف الدفاعي الذي كانت القناة تعد مكملًا له نظرًا لأنها كانت تمثل عائقًا طبيعيًا أمام محاولات العبور. استمرت التحديات حتى بعد انتهاء الحرب، إذ خاض المهندسون المصريون بمساعدة دولية واسعة، معركة تطهير مجرى القناة من مخلفات المعارك، وهي عملية بدأت في شهر أبريل 1974، وتم فيها سحب نحو ثمانية آلاف وخمسمائة مقذوف حربي من جميع أنحاء الممر الملاحي والبحيرات المرة التي تتوسط القناة.
إيفر جيفن … “جانحة” تصيب القناة بالشلل
فيما يتعلق بجنوح السفينة البنمية “إيفر جيفن” صباح الثلاثاء الماضي، لا تعد هذه الحادثة الأولى في تاريخ القناة، فقد جنحت أو تعطلت عدة سفن خلال الأعوام الماضية أثناء عبورها للقناة، لكن هذه الحادثة كانت أكثر تأثيرًا لأن جنوح السفينة البنمية أدى إلى إغلاق كامل للمجرى الملاحي للقناة، وتحديدًا في نقطة تقع على بعد ستة كيلومترات (3.7 ميل) شمال مدخل القناة الجنوبي، بالقرب من مدينة السويس.
هذا الوضع وإن كان قدر تكرر على نفس الشكل عام 2018، إلا أنه لم ينتج عنه إغلاق كامل للمجرى الملاحي، وهذا فرض على هيئة قناة السويس وكافة الوزارات المعنية، تحديات مفاجئة ومستجدة، شكلت اختبارًا جديدًا للقدرات المصرية على إدارة القناة، خاصة في ظل محاولات للتشكيك في هذه القدرات، طرأت في بعض الأوساط الدولية عقب وقوع الحدث مباشرة، وانتهت بشكل كامل بنجاح الإدارة المصرية في إعادة تعويم وتحريك هذه السفينة اليوم.
تعد هذه الفئة من سفن شحن الحاويات من أكبر فئات سفن الشحن حول العالم؛ إذ تصل حمولتها الإجمالية إلى نحو 220 طن، ويبلغ طولها الإجمالي 400 متر -علمًا بأن عرض القناة يبلغ 200 متر- وهذا كان الدافع الأساسي في توخي الطواقم المصرية العاملة حول السفينة، الحذر الشديد في التعامل معها وذلك لتفادي انقلاب السفينة على أحد جانبيها أو جنوحها أكثر داخل الضفة الشرقية لمجرى القناة.
بدأت الجهود المصرية للتعامل مع هذا الحدث خلال الساعات الأولى لوقوعه عبر محاولة إزاحة الرمال المحيطة بالقوس الأمامي للسفينة، وهو ما تم فعلًا بنجاح عبر آليات أرضية، وهي خطوة كانت عاجلة انتظارًا لوصول سفن القطر والكراكات التي شرعت في عملها حول السفينة خلال ثلاث ساعات من جنوحها.
في هذه المرحلة استعانت هيئة قناة السويس بسفن القطر المتوفرة لديها، مضافًا إليها سفينتي قطر تابعتين لهيئة موانئ البحر الأحمر، وسفينتين تابعتين لإحدى شركات التنقيب عن الغاز، ليصل مجموع القاطرات العاملة حول السفينة الجانحة إلى تسع سفن، تم تعزيزها بقاطرتين جديدتين تابعتين لهيئة قناة السويس هما القاطرة “مصطفى محمود” والقاطرة “عبد الحميد يوسف”. وقد عملت هذه القاطرات على مدار الساعة لمحاولة دفع مؤخرة السفينة وتحريكها بهدف تحرير مقدمتها. يضاف إلى ذلك استخدام هيئة قناة السويس لكراكتين هما “العاشر من رمضان” و”مشهور”، اللتين قامتا برفع أكثر من 27 ألف متر مكعب من الرمال، بعمق وصل إلى ثمانية عشر مترا.
أفضت هذه الجهود إلى تعويم مؤخرة السفينة فجر اليوم، ثم إتمام تعويم كامل بدنها وبدء تحركها في اتجاه البحيرات المرة، إيذانًا بقرب إعادة فتح الممر الملاحي، وهذا الإنجاز ضرب في مقتل كافة التقديرات التي أشارت إلى أن عملية تحرير هذه السفينة قد تستغرق ما بين أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع، فضلًا أن نجاح الطواقم المصرية في تحقيق هذا الإنجاز، ساهم في تجنب اللجوء إلى خيار تفريغ حمولة السفينة من أجل تعويمها، وهو ما كان سيتسبب في تعطيل الملاحة في القناة لفترة أطول.
من التحديات الكبيرة التي واجهت الإدارة المصرية في هذه الأزمة، الكم الكبير من السفن المتنوعة الذي تراكم في منطقة الانتظار في خليج السويس نتيجة لغلق القناة، والذي تم تقديره بنحو 360 سفينة. التحدي هنا كان في إدامة الخدمات المقدمة لهذه السفن، سواء فيما يتعلق بالتموين أو المساعدات الطارئة، خاصة أن بعض هذه السفن كان يحتوي على حمولة حية. تمكنت هيئة قناة السويس، بمعاونة وزارة الزراعة المصرية، من تقديم كافة الخدمات اللوجستية للسفن المنتظرة للعبور، بما في ذلك تقديم وزارة الزراعة 440 طنًا من الأعلاف للسفن الناقلة للماشية، بجانب عدة فرق من الأطباء البيطريين لمتابعة الحالة الصحية لحمولة هذه السفن،
التعامل الناجح والسريع من جانب مصر مع هذه الأزمة جنّبها أيضًا التعرض هي وكافة دول العالم لمزيد من الخسائر المادية، فمصر كانت تخسر يوميًا من جراء إغلاق القناة ما يقرب من 13 مليون دولار، نظرًا لأن 12٪ من حجم التجارة العالمية يمر عبر القناة، من ضمنها 30٪ من الحجم اليومي لتداول حاويات الشحن حول العالم، وهو ما يجعل القناة فعليًا أهم ممر للتجارة بين أوروبا وآسيا، مرت منه العام الماضي فقط نحو تسعة عشر ألف سفينة.
العالم يختبر “الغيبوبة الاقتصادية”
التبعات الاقتصادية والتجارية الكبيرة التي عانى منها العالم خلال الأيام القليلة لإغلاق القناة لم تكن فقط دليلًا على مدى أهمية القناة للعالم واقتصاده، ولكنها أيضًا كانت مؤشرًا على مدى الأهمية التي يجب إعطاؤها لأمن الملاحة في اتجاه هذا الممر المائي الحيوي؛ اقتصاديا تذبذبت أسعار النفط نتيجة لتأخر وصول الشحنات المتعاقد عليها – وفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية يمر ما يقرب من عشرة بالمائة من شحنات النفط العالمية (1.9 مليون برميل يوميًا)، وثمانية بالمائة من شحنات الغاز الطبيعي المسال عبر قناة السويس- وشهدت بعض الصناعات أزمات نتيجة لإغلاق القناة، مثل صناعة أشباه الموصلات، مما أثر على صناعة السيارات وصناعات أخرى بشكل كبير، وفي هذا الصدد أفادت شركة البيانات البحرية Lloyd’s List، إن إغلاق القناة أعاق وصول شحنات تجارية تقدر قيمتها بنحو 9.6 مليار دولار يوميًا بين آسيا وأوروبا.
معضلة تكاليف الشحن كانت أيضًا من أهم المؤشرات التي أوضحت للعالم كله أهمية إدامة حرية الملاحة في القناة، فمثلًا ستقطع سفينة تسافر من ميناء في إيطاليا إلى الهند، حوالي 4400 ميل بحري إذا مرت عبر قناة السويس، في رحلة تستغرق نحو تسعة أيام بسرعة 20 عقدة، لكن في حالة انسداد هذا الطريق، ستضطر هذه السفينة أن تسلك طريق رأس الرجاء الصالح مرورًا بكامل الساحل الأفريقي، وهذا يجعل المسافة تزيد إلى نحو عشرة ألاف وخمسمائة ميل بحري، لمدة ثلاثة أسابيع، وهو ما يعني تكاليف إضافية ضخمة خاصة في ما يتعلق بالوقود المستهلك، وهو ما اختبرته فعليًا عدة شركات للشحن، قامت بتعديل مسارات سفنها في اتجاه الساحل الأفريقي، والآن باتت مضطرة إلى العودة عن هذه الخطوة، بعد أن فوجئت بأن القناة باتت مفتوحة مرة أخرى.
هذه “الغيبوبة” المؤقتة، ربما تدفع بعض الدول إلى إعادة تقييم مواقفها الحالية من مسألة أمن البحار وتأمين خطوط النقل البحري المدنية، خاصة أن بعض هذه الدول مازال يتجاهل بشكل تام التهديدات التي تطال الملاحة البحرية المدنية في الخليج العربي والبحر الأحمر ومضيق باب المندب، والتي تتنوع ما بين هجمات القراصنة وهجمات الألغام والزوارق المفخخة، والتي طالت حتى ناقلات النفط، وهو ما يؤثر بشكل أو بآخر على حرية الملاحة في كافة الممرات المائية الدولية وعلى رأسها قناة السويس، التي كانت هذه المرة أيضًا محط أنظار العالم، في مشهد ربما يذكرنا في ملامح كثيرة منها بعبور 1973.
باحث أول بالمرصد المصري