مصر

السويس 2021.. درس في الإدارة منع تدويل الأزمة

استطاعت هيئة قناة السويس إنهاء الأزمة التي استمرت ستة أيام بالمدخل الجنوبي للقناة، حيث جنحت السفينة “ايفر جيفن” ما بين الثلاثاء 23 مارس 2021 والاثنين 29 مارس 2021 ما تسبب في غلق قناة السويس للمرة الأولى منذ عودتها للملاحة في 5 يونيو 1975.

فشلت توقعت المراقبين وخبراء النقل البحري وحتى جنرالات البحرية العسكرية الذين ظهروا على شاشات التلفزة الغربية وهم يتحدثون بثقة أن غلق قناة السويس المصرية سوف يستمر إلى أسابيع، فلم تدم الأزمة بفضل السواعد المصرية إلا أسبوعًا واحدًا.

قناة السويس تعود إلى نشرات الأخبار

شكل الحادث حالة ثقافية حول العالم من الاهتمام بتاريخ وقيمة قناة السويس، على ضوء قيام نشرات الأخبار الاقتصادية بعنونة الخبر في صدر نشراتها باعتبار خطأ قبطان السفينة قد أدى إلى غلق الشريان التجاري الذي يسيطر على حركة التجارة العالمية ويقع في منتصف الطرق التجارية.

ورغم الظرف الصعب والموقف العصيب، إلا أن المجتمع المصري خاصة فئة الشباب قد تابعت الولع الثقافي الدولي بقناة السويس بمزيج من الفخر والدهشة، رغم أن الحكومة المصرية تدرّس لتلاميذها قيمة محور قناة السويس، ولكن الفارق ضخم بين نصوص في كتاب تعليمي بالصف الابتدائي، وبين أن تتحد شاشات العالم لكى تخبرك بقيمة هذا الممر البحري في بلدك العزيز.

يحدث ذلك أمام أعين أجيال لم تختبر قيمة ومكانة قناة السويس في الأسواق الدولية على ضوء ما تمتعت به مصر من استقرار رغم حزام الحروب الأهلية الذي حاولت قوى إقليمية تطويق مصر به في سنوات الربيع العربي أو حتى نقل تلك الفوضى إلى ضفاف قناة السويس عبر زرع الإرهاب في شبه جزيرة سيناء.

دعاية دولية مجانية

للمفارقة فإن مصر منذ اللحظة الأولى للأزمة قد كسبت نقاطًا عدة في مجال الإعلام والتسويق السياحي، حينما بدا للعالم أجمع كيف تسيطر مصر على رئة الاقتصاد العالمي، ولم يعد باقيًا إلا المشهد النهائي حينما ينتهي “بطل الملحمة” الإعلامية الدولية من تحرير قناة السويس من السفينة الجانحة.

لذا لم يكن غريبًا أن بعض الأصوات التي حاولت خفض رصيد الدعاية الدولية لمصر –جراء الأزمة– أن تتحدث عن فشل مصر في إنهاء الأزمة إلا بعد أسابيع عدة، إلى جانب ما تم رصده منذ اللحظات الأولى من انتشار لجان إلكترونية عبر وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بقص بعض صور الأعمال المصرية لتكريك السفينة وتسويق نصوص السخرية من قناة السويس المصرية.

بايدن يجدد اختبار التأميم

رغم أن الأزمة بدت أنها متعلقة بالملف الاقتصادي والتجاري، أو حتى بعض محاولات العناصر الهاربة للخارج تسييس الأزمة وتوظيفها في القنوات التلفزيونية والصفحات الإلكترونية التي توفرها لهم أجهزة استخبارات أجنبية، فإن العامل السياسي الأبرز كان حاضرًا بشكل ناعم عبر تصريحات ودية صديقة، أشبه بلعبة شطرنج لا يعرف خباياها سوى المحترفون، في مباراة أمام أعين الجميع.

والحاصل أنه حينما قرر الرئيس جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس، فإن التحدي الأول لم يكن قرار التأميم في حد ذاته، أو بسط السيطرة عليها، ولكن التحدي الرئيسي كان استمرار العمل بالقناة بالشكل الذي يفقد المجتمع الدولي حجة التدخل لإدارتها تحت ذريعة الحفاظ على تدفق إمدادات الطاقة والمواد الغذائية والأدوية وحتى حركة القطع البحرية العسكرية من الشرق للغرب والعكس، ومن الجنوب للشمال والعكس.

وحينما جنحت السفينة “إيفر جيفن” في قناة السويس في العام 2021، فإن “السويس” عادت إلى نفس تحدي العام 1956؛ تحدي القدرة على إدارة القناة بإدارة وسواعد مصرية دون الحاجة إلى العامل الدولي أو الإدارة الأجنبية.

لذا حينما راحت بعض الأصوات الأجنبية تعرض المساعدة، بدا للعامة أن تلك مساعٍ حميدة، سواء من تركيا التي عرضت إرسال السفينة “نينة خاتون”، أو البيانات المتلاحقة التي صدرت عن البيت الأبيض بتوقيع الرئيس الأمريكي جو بايدن والتي راحت لهجتها تتصاعد، إذ تم إعلام الصحف الدولية بأن واشنطن تراقب الموقف وعلى استعداد لتقديم المساعدة، وتاليًا خرجت الكلمات أكثر عصبية حينما نقل الإعلام الدولي على لسان بايدن أن الولايات المتحدة تمتلك أجهزة وتكنولوجيا ليست متوفرة عند أغلب الدول وقادرة على حل الأزمة، وأخيرًا بدأت الأصوات العسكرية الأمريكية تتحدث عن عرقلة غلق قناة السويس لتحركات الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط.

إن فشل مصر في إعادة الملاحة البحرية لقناة السويس بإدارة وسواعد مصرية، كان يعني الذهاب إلى طلب المساعدة الأمريكية، بكل ما يعنيه هذا من هدم “الكبرياء الوطني” الذي عاش طيلة عقود على مجد إدارة قناة السويس منذ انتقال ملكيتها للدولة المصرية بأيدٍ وسواعد المصريين، وكذلك فإن المبدأ الذي سنّته مصر عام 1956 سوف يتعرض للنقد، وتبدأ الأسئلة والضغوط الدولية تحت بند “الحفاظ على الملاحة البحرية في قناة السويس”.

هذا البند هو الحجة التي جعلت البحرية الأمريكية تحاول التقدم إلى عمق قناة السويس أثناء اضطرابات يناير وفبراير 2011، ولكن البحرية المصرية بقيادة الفريق مهاب مميش أوقفت البوارج الأمريكية ورفضت تقدمها. وكانت رسالة البحرية المصرية بالنيابة عن المؤسسة العسكرية بأن الوضع في مصر تحت السيطرة ولا يستحق أن تتدخل قوى أجنبية من أجل ضمان الملاحة في قناة السويس، بكل ما يعنيه ذلك من بقاء تلك القوات لأجل غير مسمي تحت ادعاء الحفاظ على المصالح الغربية في قناة السويس.

ولم يكن غريبًا أن يكون الفريق مميش حاضرًا على مسرح الأحداث في أزمة 2021، بوصفه مستشار رئيس الجمهورية، وبكل ما يعنيه حضوره في الأزمة لدي الجانب الأمريكي الذي اختبر صلابة هذا الرجل وصلادة مؤسسته العسكرية في اضطرابات 2011 زهاء عشر سنوات.

ويعد نجاح الإدارة المصرية في إنهاء الأزمة دون استدعاء العامل الأمريكي، وأن يكون النجاح بإدارة مصرية بمثابة تجديد العهد للمجتمع الدولي بأن قناة السويس ممر بحري مصري تديره مصر عبر المصريين وفقًا للمعاهدات الدولية، وليس مسموحًا للصديق قبل العدو في المحيط العربي والإقليمي قبل المحيط الدولي أن يفكر مجرد التفكير أنه يمتلك مستوى من الكفاءة أعلى من كفاءة هيئة قناة السويس بما يكفل له الظن بقدرته على إدارة القناة.

نجحت مصر في فرملة جهود دبلوماسية ناعمة لـ “تدويل الأزمة” وجعلها مصرية خالصة، في أرض ومياه وممر مصري، فلا يعالجها سوى المصريون، رغم الضغوط الدبلوماسية، ورغم الضغوط التجارية، ورغم المحاولات الفاشلة لبعض القوى المعادية لخلق رأي عام غاضب من الحادث ويضغط على الإدارة المصرية للانتهاء من الأزمة، ولكن الإدارة المصرية حافظت على “هوية قناة السويس” المصرية طيلة الأزمة.

إمكانيات قناة السويس تبهر العالم

إن نجاح الدولة المصرية في أزمة السويس 2021 لم يكن ليحدث لولا امتلاك هيئة قناة السويس للمعدات والأجهزة والكوادر البشرية والكراكات والسفن الفنية القادرة على التعامل مع هذا الحدث الذي يعد الأضخم من نوعه ولكنه ليس الأول من نوعه؛ إذ سبقه العديد من الحوادث التي كادت إن تعرقل الملاحة في قناة السويس، من غرق إحدى السفن الأجنبية ومن تصادم جري بين سفينتين. وللمفارقة فإن الشركات المالكة للسفن في كل حادث كانت تبادر بالاعتراف بأن الخطأ هو مسؤولية سفنها وليس قناة السويس.

وفى أزمة 2021 سارعت الشركة المالكة للسفينة بالاعتراف بأن هذا هو خطأ ربان السفينة، ولم يحدث عبر ستة أيام أن وجهت الشركة أو أي من أقطاب الملاحة البحرية والتجارة البحرية حول العالم كلمة نقد واحدة للإدارة المصرية لقناة السويس.

الوعي الشعبي درع قناة السويس الحقيقي

وعلى المستوى الشعبي، ورغم أن الوعي الجمعي للإنسان المصري المعاصر قد تعرض لحروب إعلامية وثقافية عنيفة، ولكن في أزمة 2021 حدث التفاف شعبي حول “العامل المصري” الذي يحاول إنقاذ سمعة مصر والاقتصاد العالمي في البوابة الجنوبية لقناة السويس، وسادت حالة من الضيق والترقب لموعد افتتاح قناة السويس من جديد. ولكن النقطة الأهم هو أنه وبدون معطيات سياسية أو حتى إعلامية فإن هنالك حالة من الخوف على قناة السويس من أن تتعرض للسرقة من أيدي المصريين قد انتابت الرأي العام المصري.

وقد تكفل هذا الوعي الشعبي برفض كافة النصوص والديباجات المسمومة التي حاولت بعض الأقلام نشرها عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي، من التحريض على تسييس الأزمة وتحويلها إلى رأس حربة لمؤامرة بث الفوضى حول التظاهر، أو تحميل الإدارة المصرية خطأ ربان السفينة، أو حتى استعجال الحل بما يؤدى إلى توتر الأعصاب.

التف المصريون حول القيادة المصرية، وشكل الوعي الجمعي المصري درعًا حقيقيًا لقناة السويس الممر الملاحي الأشهر في العالم الذي خمدت حركته طيلة الأيام الستة. ولا عجب في ذلك، لأن الوعي الجمعي المصري يحمل قصصًا تفرد في مجلدات حول أبطال الأجداد في حفر قناة السويس، ذلك الشريان التجاري الذي أثبتت أزمة السويس 2021 أنه بلا بديل بعد أن روج إعلام العدو طيلة عشر سنوات لأن هناك بدائل أخرى في مناطق أخرى، ولكن هذا الإعلام نفسه أمام أعين الأجيال الصاعدة عزز وأكد أن قناة السويس المصرية ليس لها بديل حول العالم قط.

+ posts

باحث سياسي

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى