
استقبل الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” اليوم، 25مارس2021، رئيس المجلس الرئاسي الليبي الجديد “محمد يونس المنفي”، في زيارة هي الأولي إقليميًا -والثانية دوليًا بعد فرنسا- لرأس السلطة الموحدة بعد انتخابه (5فبراير الماضي). وضم الوفد الليبي كلًا من نائب المجلس الرئاسي “عبد الله اللافي”، ورئيس جهاز المخابرات العامة الليبي المكلف “عماد الطرابلسي”، والقائم بأعمال السفارة الليبية بالقاهرة “طارق الحويج”. وتحمل هذه الزيارة جُملة من الرسائل الدالة على محورية الدور المصري في دعم استقرار ليبيا، ومساندة السلطة الجديدة فيما تضطلع به من مهام بالمرحلة الانتقالية، وستكون قائمة الموضوعات المطروحة باللقاء مُركزةً بشكل كبير، ومنفتحةً على موضوعات يراها الجانبين مدخلًا ضروريًا لدعم الجهود الليبية الرامية لتحقيق الأمن والاستقرار.
سياقات وأهداف متعددة
إن المتأمل للزيارات المتعددة للمسؤولين الليبيين يجد أنها تأتي في ظل سياقات معينة، بدايةً لم تكن زيارة “المنفي” للقاهرة في الخامس والعشرين من مارس الجاري الأولى من نوعها لمسؤول ليبي، بل شهدت الفترة اللاحقة للإعلان عن تشكيل المجلس الرئاسي الليبي الجديد، زيارة لرؤساء السلطات الثلاث، ففي منتصف فبراير كان هناك زيارة لرئيس الحكومة الليبية “عبد الحميد الدبيبة”، وأعقبها زيارة رئيس مجلس النواب الليبي “عقيلة صالح” مطلع مارس، لتبرهن جميعها أن مصر باتت المدخل الرئيسي في المشهد الليبي، وحتمية التنسيق معها خلال الفترة القادمة.
الأمر الآخر، يتجلى في أن تلك الزيارات تأتي للتزامن مع حالة الانفراجه الداخلية للأزمة الليبية، عبر التحولات النوعية في التعاطي مع المكونات الداخلية للأزمة وعلى رأسها المكون العسكري وتحديداً في الشرق الليبي، وبرز ذلك في الجولة التي قام بها رئيس المجلس الرئاسي “محمد المنفي” لشرق ليبيا، وعقد لقاء مع القائد العام للجيش الوطني الليبي “المشير خليفة حفتر” وعقد لقاء أيضاً مع رئيس مجلس النواب، ليؤسس إلى مرحلة جديدة في التفاعل البيني للسلطات الليبية.
الأمر الآخر؛ تتزامن تلك الزيارة بالتوجه المستجد إقليمياً ودولياً، والذي تمثل في التنسيق والتعاطي مع كافة مكونات العملية السياسية الليبية، حيث أنه ثٌم هناك توجهاً إقليمياً ودولياً لدعم مسار التحول الراهن في ليبيا، وبرز ذلك بصورة كبيرة في الاتصالات المتعددة من جانب القوى المؤثرة وعلى رأسها فرنسا وروسيا لرئيس المجلس الرئاسي التي تستهدف تحقيق قدر من التنسيق والدعم لمخرجات الحوار السياسي، وما ترجمته زيارة “المنفي” إلى باريس في الثالث والعشرين من مارس الجاري، وكذلك زيارة الرئيس التونسي “قيس سعيد” لليبيا في السابع عشر من الشهر ذاته، كلها سياقات داعمة لمسار التحول الداخلي.
إن المُلاحظ للتحركات الرسمية الليبية الأخيرة لمصر، يجد أن تحمل جملة من الدلالات والأهداف يمكن توضحيها في الآتي:
- الدفع بمسار توحيد الدولة ومؤسساتها المختلفة: والتي باتت معضلة جوهرية في خضم المشهد السياسي الليبي منذ عام 2014، ولعل الأطراف الليبية تعٌول بصورة رئيسية على القاهرة في تقريب وجهات النظر وهو ما عكسته الزيارات المُشار إليها أعلاه، خاصة وأن القاهرة لديها الكثير من الأوراق داخل ليبيا وعلى رأسها القبائل الليبية، الأمر الذي يستهدف في مجمله تحقيق المصالحة وإحلال السلام، وذلك حتى تتمكن السلطة التنفيذية الجديدة ممارسة مهامها.
- تصويب المعادلة السياسية وتعدد الأطراف: إن حالة التخبط التي شهدتها ليبيا إبان حكومة “السراج” وما تبعها من تعقيدات المشهد الداخلي وانخراط أطراف إقليمية في ضوء المعادلة الليبية، وغياب التنسيق بين دول الجوار وعلى رأسها مصر، آل بصورة كبيرة إلى استنزاف المقدرات الوطنية وحال دون وجود تفاهمات بين الأطراف المختلفة، غير أن مصر لعبت دوراً موازياً في هذا المشهد رغبةً في تحقيق الاستقرار الداخلي، ولعل الارتهان على مصر خلال الفترة الراهنة يستهدف بصورة كبيرة إلى تصويب المعادلة السياسية والعمل على بناء مشهد سياسي أكثر استقراراً، والتأكيد على العودة للاعتماد على المحيط العربي والقاهرة في عمقه، خاصة في ظل استضافتها لاجتماعات دعم المسار الدستوري والعسكري (اللجنة العسكرية المشتركة 5+5).
- التمهيد لإعادة العلاقات السياسية: إن زيارة “المنفي” للقاهرة جاءت لتُعيد بصورة جوهرية العلاقات السياسية بين البلدين بصورة طبيعية، وهي الخطوة التمهيدية لإعادة فتح السفارة المصرية بالعاصمة طرابلس، كما حدث من تنسيقات بين الطرف الليبي والفرنسي خلال زيارة “المنفي” لباريس، وهو الأمر الذي يُعد بمثابة سياسة براغماتية تستهدف تكريس الشرعية على مخرجات العملية السياسية، والتي يتم من خلالها العمل على خلق مساحة مشتركة بين جميع الأطراف الفاعلة داخل المشهد، وبصورة أقرب نحو توفيق الأوضاع بصورة ضمنيه بين القاهرة وأنقرة والخروج من مأزق الاختيار بينهما.
أبرز ملفات الحوار المصري-الليبي
تدرك مصر أهمية مساندة جهود السلطة الليبية لقيادة المرحلة الانتقالية، وجاء ذلك واضحًا في بيان الرئاسة المصرية الذي أكد على رغبة الدولتين في تعزيز آفاق التعاون والتنسيق بينهما، خاصةً عبر تأهيل الكوادر الليبية في مختلف المجالات، ونقل التجربة التنموية المصرية إلى ليبيا، وتعزيز جهودها في استعادة الأمن والاستقرار في سائر أنحاء البلاد، كما جرى التوافق على تكثيف المشاورات والزيارات المتبادلة بين كبار المسئولين من الجانبين. وتتعدد الملفات المطروحة على طاولة حوار السيسي والمنفي، وفي مقدمتها إعادة فتح السفارة المصرية بالعاصمة “طرابلس”، والقنصلية العامة بمدينة “بنغازي” شرقًا. بالإضافة لملف إعادة الإعمار وعودة العمالة المصرية، وغيرها من المشروعات المشتركة التي جرى الإعلان عنها بفترات سابقة، ويمكن تناول أبرز هذه الملفات كما يلي:
- إعادة فتح السفارة: تتصدر قائمة الملفات المطروحة بين الجانبين التنسيق بين القاهرة وطرابلس لفتح السفارة المُغلقة منذ (يناير2014)، وعكس اجتماعا الوفد الأمني المصري ووزارة الداخلية بحكومة الوفاق (28ديسمبر2020 و15فبراير2021) توافقًا كبيرًا على تلك الخطوة، ما يعزز فرصة انتهاء اللقاء بقرارات سريعة تنظم عودة التمثيل الدبلوماسي المصري بكامل هيكله، وضوابط ومحددات تجاوز العقبات والاشكاليات التي عطلت مهام البعثة المصرية بالسابق.
- استئناف نشاط العمالة: قطعت مؤسسات الدولتين شوطًا كبيرًا فيما يتعلق بملف العمالة المصرية بليبيا، ومن الجلي أن هذا الاجتماع سيشمل استعرض تلك الجهود وسُبل استدامتها، وسبق أن وقعت وزارتا القوى العمل مذكرة تعاون لتسهيل إجراءات انتقال العمالة المصرية الى ليبيا، وربط تلك العملية بمنظومة رقمية (يونيو2013)، وجرى الاتفاق على تفعيل هذه الاتفاقية خلال أخر جولة مباحثات بين الوزارتين (13مارس الجاري). وتشير التقديرات أن ذلك التفعيل من شأنه دخول حوالي نصف مليون عامل مصري الى ليبيا، كمرحلة أولى، للمساهمة بعملية إعادة الاعمار.
- جهود إعادة الإعمار: يشير اللقاء الى فرصة استعراض المشروعات التي تستطيع القاهرة التشارك فيها مع المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة، وهو ما قد يتبلور بصيغة اتفاقيات اقتصادية وتنموية يُرجح أن يتم توقيعها بين الجانبين خلال الأسابيع القادمة، كبداية لعودة التعاون بعد افتتاح السفارة المصرية بطرابلس. وعلى رأس تلك المشروعات مد خط سكك حديدية للأفراد والبضائع، للربط بين القطار السريع المصري بمرسى مطروح وصولًا لمدينة بنغازي الليبية، ويمكن أن يتم تطويره لاحقًا ليصل الى مدن ليبية أخرى.
- تأهيل القطاع الأمني: يبرز هذا الملف كأحد أهم النقاط التي تشغل القاهرة وطرابلس، وتبدي مصر استعداد ها لتقديم خبراتها للحكومة الليبية لاستعادة المؤسسات الوطنية للدولة الليبية، ومعاونتها في بناء جيش وطني موحد، تأهيل المؤسسات والكوادر الأمنية والشرطية لتحقيق الأمن والاستقرار. وتمسك الطرفان بضرورة إنهاء التدخلات الأجنبية، وخروج كافة المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا. وكانت المهلة الممنوحة وفقًا لاتفاق وقف إطلاق النار (أكتوبر2020) لخروج المرتزقة قد انتهت مطلع يناير الماضي، إلا أن عملية إخراجهم ظلت مُعطلة.
- حل أزمة الكهرباء: حققت مضر طفرة بقطاع الكهرباء، وهو القطاع الأكثر تضررًا بليبيا في الوقت الراهن، ويفرض هذا الملف نفسه على طاولة اللقاء، إذ يستدعي تدهور أوضاع الشبكة الليبية تدخلًا لإعادة تأهيلها، وتحسين جودة الخدمة التي تقدمها، وهو محور أثبتت الشركات المصرية كفاءة كبيرة فيه. ويبدو أن هذا الملف سيشهد انفراجه قريبًا، حيث أشار “المنفي” فور عودته إلى وجود عقود مع شركات مصرية في مجال الكهرباء لحلحلة الأزمة.
مجمل القول، أسهمت الرؤية المصرية في الانتصار لوحدة وسلامة الدولة الوطنية الليبية، وتعي السلطة الانتقالية أهمية البناء على المكتسبات التي حققتها لها المواقف والادوار المصرية، وأن الوصول للانتخابات العامة وغيرها من أهداف هذه المرحلة يستدعي الاصطفاف مع الدول التي ترغب في استقرار ليبيا بشكل مجرد. وتؤكد أولوية التنسيق مع القاهرة، والتي عكستها زيارات الدبيبة والمنفي وصالح، على الارتباط العضوي بين الأمن القومي لمصر وليبيا، وهو ما يُرجح أن تكثف القاهرة من دعمها لطرابلس بملفات إعادة الاعمار وضبط الأمن بالفترة المُقبلة، وعودة التمثيل الدبلوماسي المصري لليبيا، لضمانة فعالية جهودها بمرحلة ما بعد الصراع.