الاقتصاد المصريالمرصد الاقتصادي

القرار الرئاسي برفع الحد الأدنى للأجور…السياق التاريخي والأثر الاقتصادي

أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي في يوم 15 مارس عام 2021 مجموعة من القرارات الاقتصادية ذات الصبغة الاجتماعية تضمنت منح جميع العاملين بالدولة علاوة دورية للمُخاطبين بنسبة 7.5% للمُخاطبين بأحكام الخدمة المدنية، و13% لغير المُخاطبين بأحكامها، بالإضافة لزيادة الحافز الإضافي لكل من المخاطبين وغير المخاطبين بقانون الخدمة المدنية بتكلفة إجمالية 17 مليار جنيه، مع زيادة قيمة المعاشات بنحو 13% بتكلفة إجمالية 31 مليار جنيه، لكن أهم ما تضمنته هذه القرارات كان رفع الحد الأدنى للأجور إلى 2400 جنيه. وهو ما يُسهم في تخفيف الأعباء الاقتصادية التي يوجهاها موظفي الدولة، ولكن من ناحية أخري يزيد أعباء الموازنة العامة للدولة. وقبل عامين تقريبًا كان الرئيس قد قام بخطوة مُماثلة في 30 مارس عام 2019 عندما رفع الحد الأدنى للأجور إلى ألفي جنيه، بالإضافة إلى مجموعة أخرى مُماثلة من القرارات الاقتصادية لذلك يهدف هذا المقال أولًا لوضع هذا القرار في سياقه التاريخي ضمن منظومة الحد الأدنى للأجر، وثانيًا قياس انعكاساته على الاقتصاد المصري.

أولًا-التطور التاريخي للحد الأدنى للأجور

يُعتبر نظام أجور الموظفين الحكوميين في مصر طاعنًا في القِدم، ورغم ذلك لم يتضمن قبل عام 2014 ترتيبًا مُستقلًا للحد الأدنى للأجر، وانما صدرت جميع القوانين التي تُنظم أجور الموظفين عبارة عن ترتيبٍ تنازلي للأجر الأساسي من الدرجة الأعلى للأدنى، ما يُعتبر معه الأجر المُقرر لأدنى درجة هو الحد الأدنى للأجور في القطاع الحكومي، وكان أول نظام للأجور خلال القرن الماضي قد صدر عام 1907 فيما عُرف بكادر الموظفين، والذي تناول الوظائف الإدارية التي يتولاها المصريين وقسمها إلى ثمان درجات، تبدأ من أدنى السُلم الوظيفي عند الدرجة الرابعة وقرر لها خمسة جُنيهات شهريًا، وتنتهي في أعلاه بدرجة ناظر إدارة بمبلغ 65 جُنيهًا.

بعد انتهاء الملكية صدرت عدة قوانين تُنظم أحوال موظفي القطاع الحكومي أهمها ذلك الذي أصدره الرئيس “السادات” في عام 1978 والذي رفع الحد الأدنى للأجور من 12 إلى 16 جُنيهًا شهريًا، بنسبة 33% من الأجر القديم، وصبت الزيادات التي تضمنها هذا القانون في صالح موظفي الدرجات الدُنيا. توالت بعد ذلك التعديلات على الحد الأدنى للأجور ليبلغ 35 جنيهًا/شهر في 1986، وفي 1987 بدأ منح أول علاوة خاصة للعاملين بالدولة حتى عام 1992م، وهو النظام الذي بموجبه ارتفع الحد الأدنى للأجور ليبلغ في 2013 ما قيمته 214.75 جنيهًا/شهر.

حل عام 2014 حاملًا معه إصدار أول تنظيمٍ مُستقلٍ للحد الأدنى للأجور، إذ نص القانون 22 لذات العام في مادته الأولى على أنه ” اعتبارًا من أول يناير2014م تُزاد شهريًا الأُجُور الشاملة ودخول العاملين… أيًا كان مصدر تمويلها بفئات مقطوعة… وذلك على النحو الموضح قرين كُل درجة وظيفية في الجدول التالي”.

جدول 1 – يُوضح فئات علاوة الحد الأدنى للأُجُور للدرجات الوظيفية المُختلفة.

عليه بلغ الحد الأدنى للأُجُور في عام 2015 ما إجماليه 621.75 جُنيهًا/ شهر، وفي 2016 صدر قانون الخدمة المدنية الجديد، والذي رفع الحد الأدنى للأُجُور ليبلغ 835 جُنيهًا/شهر، وذلك بزيادة قدرها 213.25 جُنيهًا أي ما نسبته 34% من الحد الأدنى للأُجُور في عام 2015م. تلي ذلك صدور القرار الرئاسي في 2019 ليرفع الحد الأدنى إلى والذي رفع الحد الأدنى القانوني للأجور من 835 جُنيهًا إلى 2000 جُنيهًا شهريًا، بزيادة قدرها 140% تقريبًا من الحد الأدنى السابق عليه، تلى ذلك القرار محل النظر في 15 مارس 2021، ليرفعه إلى 2400 جنيه، ويوضح الشكل التالي تطور مُعدلات الحد الأدنى بداية من 1977 وحتى تاريخه.

ثانيًا – انعكاسات القرار على الاقتصاد المصري

تتمثل أهم الأثار الاقتصادية لقرار الحد الأدنى للأجور على الاقتصاد المصري في ارتفاع أعباء الموازنة العامة للدولة، ارتفاع مُعدلات التضخم، ارتفاع مُستوى معيشة الموظفين الحكوميين، ونتناول كُلًا منها مُنفردًا فيما يلي:

  1. ارتفاع أعباء الموازنة العامة للدولة:

تُدرج مُخصصات أجور العاملين بالحكومة في الموازنة العامة للدولة ضمن الباب الأول من استخداماتها –أجور وتعويضات العاملين- ويُعد هذا الباب أحد أهم أوجه الإنفاق في الموازنة العامة للدولة، أولًا- من حيثُ حجم المُخصصات مُقارنة بإجمالي المصروفات، إذ بلغت نسبة مُخصصاته في مُعظم السنوات ما يزيد عن 25% منها خلال الفترة 2006/2007 وحتى 2020/2021، وثانيًا -من حيث أوجه الاستخدام، إذ تضُم الدولة موظفون يعملون في وزارات وجهات أخرى تابعة لها، تُدفع لهم أجور شهرية كما تدُفع لهم تعويضات في حالة مرضهم أو عجزهم عن طريق مُخصصات هذا الباب، بالتالي فإن كُل ارتفاع في مُخصصات هذا الباب تدفع في اتجاه ارتفاع عجز الموازنة العامة والذي بلغ عام 2019/2020 أعلى مُعدل في تاريخه على الإطلاق كما يوضح الشكل التالي:

والذي يتضح منه أنه قد تطورت مُخصصات هذا الباب بسرعة كبيرة بداية من سنوات ما بعد ثورة الـ(25 من يناير)، إذ بلغت في عام 2018/2019 أكثر من خمسة أضعاف مُخصصاته عام 2006/2007، وذلك بسبب الضغوط العُمالية لإصلاح منظومة الأجور، إذ ارتفعت من 51.5 إلى 270 مليار جُنيه فيما بين العامين، صاحب ذلك ارتفاع مُطرد في العجز الكُلي للموازنة العامة للدولة والذي من المُتوقع أن يبلغ بنهاية العام المالي الحالي قبل رفع الحد الأدنى بالقرار الرئاسي الماثل 438 مليار جنيه تقريبًا، في حين أعلنت وزارة المالية أن الموازنة العامة ستتكلف نحو 35 مليار جنيه جراء الزيادات الدورية العادية المُقررة بحكم قانون الخدمة المدنية والكوادر الخاصة الأخرى، والتي تُمثل في العادة ما بين 8: 10% من إجمالي المُخصصات ما سيُمثل زيادة إجمالية تبلُغ 20% على أقل تقدير، وذلك دون الزيادات المُقررة للحد الأدنى للأجور والتي كانت قد كلفت الدولة نحو 30 مليار جنيه جراء تطبيه في عام 2019، بما يعني أن الزيادات قد تصل إلي 50 مليار جنيه على اقل تقدير، وهو ما يبلغ 385 مليار جنيه في العام المالي 2021/2022، الأمر الذي سيُسبب مزيدًا من العجز، ويُمثل تحديًا كبيرًا لبرنامج لمُستهدفات الموازنة العامة للدولة، التي من المقرر أن تبلغ 8% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن من خلف هذه الأعباء تأتي أهداف أهم في الوقت الحالي، كما سنناقش في النقاط التالية.

  1. رفع مُعدلات التضخم والنمو:

ترتبط مُعدلات التضخم بعلاقة طردية مرنة مع كمية النقود المُتداولة في الاقتصاد، وتُصبح أكثر مرونة إذ ارتفعت كمية النقد المُتداولة دونما زيادة مُماثلة في السلع والخدمات، وهو الوضع الذي من المُرجح أن يشهده الاقتصاد المصري بعد قرار رفع الحد الأدنى للأجور، إذ أنه بالإضافة إلى الزيادة العادية المُجدولة التي تشهدها رواتب الموظفين الحكوميين في يونيه، حيث بداية العام المالي بسبب العلاوة الدورية المُقررة بقانون الخدمة المدنية والتي تُمثل 7% من الأجر الوظيفي، وما يُصاحبها، سيشهد هذا العام زيادة استثنائية كبيرة نسبيًا بموجب القرار الرئاسي، ومن ناحية أخرى تتوجه مُعظم هذه الزيادة إلى السلع الأساسية التي تُشكل النسبة الغالبة من وزن المؤشر العام لأسعار المُستهلكين، الأمر الذي سيُسفر بالضرورة عن ارتفاع مُعدلات التضخم، وهو على عكس الغالب أمر محمود خلال هذه الفترة التي تشهد تراجع لمُعدلات التضخم أدنى من مُستهدفات البنك المركزي للتضخم الأساسي في النطاق (5% : 9%) كما يوضح الشكل التالي:

يعني ذلك أن الاقتصاد المصري يُعاني في الوقت الحالي من انخفاض مُستوى النشاط الاقتصادي بسبب جائحة كورونا وما ترتب عليها من انخفاض في الدخول وبالتالي الانفاق بشكل عام، بالإضافة إلى تخوف المواطنين من استمرار الجائحة لفترات أطول تؤدي إلى مزيد من الضغوط على دخولهم، وهو ما أسفر بالتالي عن اتجاههم للتحوط بخفض الإنفاق، وهو ما سيُسفر بشكل عام عن انخفاض مُعدلات النمو، والتي كانت قد بلغت ذروتها في السنوات العشر الماضية قبل الجائحة عند مُستوى 5.6% في عام 2018/2019، لتنخفض خلال العام 2019/2020 إلى مُستوى 3.6%، ويتوقع لها أن تواصل تباطؤها لتبلغ 2.5% هذا العام.

وهو بالذات ما يُحاول الرئيس تفاديه وبالمُراهنة على القدرات المصرية الذاتية، عن طريق دفع عمليات الاستهلاك التي تُحفز الإنتاج، وبالتالي يستهدف زيادة النقود القابلة للإنفاق في أيدي المواطنين، وهو ما سيؤدي إلى اتجاههم لشراء حاجات أساسية تُحرك السوق، وتدفع مُعدلات التوظيف، وبالتالي مُعدلات النمو. وهنا يجب أن نربط ما يحدث على مُستوى السياسة المالية بما يحدث على مُستوى السياسة النقدية، حيث كان الرئيس قد استبق قرارات رفع الحد الأدنى للأجور بمُبادرة تمويل عقاري لمحدودي ومتوسطي الدخل بنحو 3%، مع إمكانية التقسيط على 30%، الأمر الذي يعني إعطاء دفعة ضخمة للقطاع العقاري، الذي يعمل كقاطرة فعلية للاقتصاد المصري، ويُحرك عدد 18 من القطاعات المصرية بصورة مُباشرة وغير مُباشرة.

  1. ارتفاع مُستويات المعيشة:

من المُتوقع أن تُسبب الزيادات الجديدة ارتفاعًا في مستوى معيشة موظفي الدولة وذلك لسببين: أولًا -النسبة المُرتفعة للزيادة مُقارنة بالأجر والتي تُمثل ما يزيد عن 10% عند المستوى الوظيفي الأدنى، في ظل ارتفاع مُعدلات التضخم بنسب ضئيلة لا تُلغي تأثير هذه الزيادة، وثانيًا -لأنه وفقًا لأخر بحث مُعلن للدخل والإنفاق والذي أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2017/2018 فإن متوسط الإنفاق السنوي للأسرة بلغ في إجمالي الجمهورية نحو 4383 جنيه/ شهريًا، فإذا وصل الحد الأدنى للأجر إلى 2400 جنيه شهريًا فإن ذلك يعني رفعًا مُعتبرًا في مستوى معيشة الأسر المصرية حتى في ظل مُعدلات التضخم المُرتفعة التي شهدتها الفترة الماضية، وهو ما يأتي كمُكافأة من الرئيس لما تحمله المصريين من جهد ومعاناة في سبيل إقالة الاقتصاد الوطني من عثرته سواء خلال فترة الإصلاح الاقتصادي أو فترة الجائحة.

خلاصة القول إذن أنه رغم ما ستسببه الزيادات من أعباء على الموازنة العامة للدولة إلا أنها تستهدف تحقيق أهداف أكثر أهمية في الوقت الحالي وهي توفير الدعم للنمو وللقطاعات الاقتصادية الأكثر حيوية في الاقتصاد المصري بما يهدف لاستعادة الزخم والوصول لمُستهدفات النمو فيما قبل جائحة كورونا.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى