مكافحة الإرهاب

داعش ومساعي الحضور في لبنان: الدوافع والمحفزات

أشار بعض التقارير مطلع مارس الحالي إلى قيام مديرية المخابرات​ التابعة​للجيش اللبناني​ بإيقاف عدد من المنتمين لتنظيم داعش، وهي الخلية التي كانت تتكون من 18 شخصًا بينهم 12 سوريًا و 6 لبنانيين كانوا في مرحلة الإعداد والتخطيط لاستهداف مراكز ومواقع عسكرية تابعة للجيش و​القوى الأمنية، وأشارت مديرية المخابرات إلى أنها توصلت إلى قناعة راسخة بأن تنظيم “داعش” يخطط للعودة إلى تنفيذ عمليات إرهابية في لبنان، تستهدف أماكن ومراكز عسكرية، ويمكن أن تستغل وجود النازحين في عدد من ​المخيمات،​ أبرزها تلك الواقعة في أطراف بلدة عرسال.

وهي الوقائع التي أثارت من جانب قلقًا كبيرًا في البلد الذي يشهد بطبيعة الحال أزمات بنيوية عميقة، ومن جانب آخر أثارت هذه المعطيات تساؤلات تحاول الوقوف على الدوافع التي تقف خلف حرص التنظيم الإرهابي على الحضور في لبنان منذ نشوئه، والعوامل المحفزة في هذه الفترة والتي أثارت شهية التنظيم لتنفيذ عمليات في لبنان.

داعش ولبنان: محاولات مستمرة للحضور

 بدأ اسم لبنان يدخل في إطار التفاعلات المرتبطة بتنظيم داعش منذ عام 2013 تقريبًا، وذلك عندما نشر التنظيم تسجيلًا صوتيًا لأحد قياداته وهو يتوعد وزير الداخلية اللبناني الأسبق “مروان شربل” ويقول إن بلاده ستكون هدفًا لمسلحي التنظيم في الفترات المقبلة، وذلك عقب تصريحات للوزير اللبناني قال فيها إنه يريد الزج بعناصر التنظيم في السجن حتى يخرجوا صالحين.

ولم تمض فترة طويلة حتى تبنى التنظيم مطلع يناير 2014 التفجير الإرهابي الذي حدث في الضاحية الجنوبية لبيروت. وفي نفس العام وبالتحديد في 17 يونيو، قامت قوات الأمن اللبنانية بالتعاون مع عناصر من حزب الله بإغلاق عدد من الطرقات المؤدية إلى بعض المستشفيات المعروفة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهو التحرك الذي تم في ذلك الوقت –حسبما أُعلن- بناء على معلومات وصلت للأجهزة الأمنية عن قيام داعش بالتحضير لاستهداف مستشفيات تابعة لحزب الله في هذه المنطقة، وهي المستشفيات التي كانت تشارك في علاج مقاتلين عائدين من الحرب في سوريا.

وقد أشارت السلطات في تلك الفترة إلى أن عناصر داعش قاموا بحفر أنفاق تسمح باستهداف مناطق انتشار الحزب، انطلاقًا من مراكز تابعة لتنظيم “داعش” داخل بعض مخيمات اللاجئين الفلسطينيين الموجودة في الضاحية الجنوبية من بيروت، على مقربة من مناطق انتشار حزب الله. وهي التحركات التي أعقبها انفجار نفذه انتحاري بسيارته وسط حاجز لقوى الأمن في منطقة “ضهر البيدر” بالتزامن مع مرور اللواء “عباس إبراهيم” مدير عام الأمن العام في تلك الفترة.

وهو التفجير الذي قيل حينها أنه كان يستهدف هدفا آخر على الأرجح كان “نبيه بري” أثناء مشاركته في مؤتمر بوزارة التعليم، واعتذر “بري” حينها عن الحضور لأسباب أمنية حسبما أعلن، وفي ذات السياق استطاع تنظيم داعش في أغسطس 2014 اعتقال عدد من الجنود اللبنانيين، وأعلن أنه سيقوم بقتل جندي من الأسرى يوميًا إذا لم يتم تحييد حزب الله عن مفاوضات تبادل الأسرى اللبنانيين لدي داعش.

منذ ذلك الحين ذاع اسم “داعش” وتردد بكثرة كأحد مصادر التهديد الرئيسة للبنان بوصفه هدفًا مهمًا للتنظيم، لكن هذا الحراك خفت بشدة مع الخسائر الكبيرة التي مُني بها التنظيم بداية من 2017 وصولا إلى “الهزيمة العسكرية” للتنظيم وطرده من كافة الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرته ومقتل زعيمه “أبو بكر البغدادي” في 2019.

لم يمض وقت كبير حتى عاد اسم التنظيم ليتردد مرة أخرى في لبنان بحلول سبتمبر 2020، وبالتحديد مع العملية الأمنية التي قام بها الجيش اللبناني في طرابلس ضد مجموعة متطرفة مرتبطة بالتنظيم الإرهابي –قيل إنها على علاقة بحادث إرهابي وقع قبل هذه العملية بأسابيع في قرية “كفتون” شمال لبنان وذهب ضحيته ثلاثة عناصر من شرطة بلدية القرية- وهي العملية التي ترتب عليها سقوط 4 ضحايا من الجيش اللبناني قبل السيطرة على هذه الخلية.

وأشارت التقارير الأمنية حينها أن هذه الخلية كانت تخطط لاستهداف أماكن دينية مسيحية في منطقة إقليم الخروب في محافظة جبل لبنان، وذلك من خلال تنكر “الانغماسيين” بملابس رجال دين مسيحيين، بهدف إثارة النعرات الطائفية بين السنة والمسيحيين في تلك المنطقة. هذا مرورًا بالعديد من الأحداث التي كان يشار فيها للتنظيم بإصبع الاتهام، والتي كان آخرها مطلع مارس الحالي حيث تخطيط التنظيم لتنفيذ عمليات إرهابية انتحارية​ في لبنان، قبل أن تقبض قوات الأمن اللبنانية على الخلية التي حاولت تنفيذ هذا المخطط.

أهمية لبنان بالنسبة لداعش

يرتبط اهتمام تنظيم “داعش” بلبنان باعتبارين رئيسيين:

1-الاعتبار الأول استراتيجي، حيث ينظر داعش –وعموم التنظيمات المسلحة المنخرطة في الصراعات في منطقة الشرق الأوسط– إلى لبنان بوصفه محطة استراتيجية مهمة وذلك مع إمكانية تحول حدودها مع دول كالعراق وسوريا إلى مناطق تهريب للمقاتلين ودعم لوجيستي لأفرع وأذرع التنظيم، كما هو الحال في سوريا التي يربطها بلبنان حدود تبلغ نحو 300 كم.

وقد حاول التنظيم بالفعل الحضور والانتشار في الشريط الحدودي بين لبنان وسوريا عام 2014، لكن الجيش اللبناني خاض حينها معارك عنيفة مع مقاتلي التنظيم في بلدة “عرسال” الحدودية، قبل أن ينسحب مسلحو التنظيم ويحتجزوا 30 عسكريًا لبنانيًا، فضلًا عن التمركز في منطقتي “جرود القاع” و “جرود رأس بعلبك” وهي المناطق التي استطاع الجيش اللبناني بعد ذلك طرد التنظيم منها عبر العملية الأمنية التي أطلقها وحملت اسم “فجر الجرود”، وهي العملية التي تمت بالتزامن مع عملية أخرى نفذها الجيش السوري بالتعاون مع حزب الله على الحدود من الناحية السورية في منطقة القلمون الغربي. وعقب 10 أيام من المواجهات بين الطرفين عقد حزب الله وداعش اتفاقًا انسحب التنظيم بموجبه من المنطقة تجاه مدينة البوكمال السورية على الحدود مع العراق.

2– الاعتبار الثاني يرتبط بكون داعش تنظيم طائفي أصولي، صراعاته بعيدًا عن الأسباب السياسية والاستراتيجية التي تحملها، قائمة بالأساس على اعتبارات دينية مذهبية، فينظر التنظيم إلى الحضور في لبنان على أنه جزء من صراعه الممتد مع “حزب الله” وبعض الميليشيات الشيعية المسلحة في عدد من الساحات؛ إذ يرى داعش أن صراعه الطائفي والمذهبي القائم على النظر للنفس على أنه المعبر عن الاتجاه السني، مع هذه الميليشيات التي يرى فيها تعبيرًا عن الاتجاه الشيعي “العدو القريب” مقدم حتى على الصراع مع من يصفه التنظيم بـ”العدو البعيد” أي القوى الغربية والدولية المنخرطة في الحرب ضد التنظيم.

الاستثمار في الأزمة

يجد المتابع لقصة صعود تنظيم داعش في بعض الدول العربية أن هذا الصعود ارتبط بالأساس بحالة الهشاشة التي اتسمت بها هذه الدول خصوصًا بعد أحداث ما عُرف بـ”الربيع العربي”، حيث استغل التنظيم عدم قدرة النظم السياسية في هذه الدول على بناء هوية ورؤية وطنية جامعة قوية بما يكفل تمثيل مصالح مواطنيها، وبناء وحدة مجتمعية، وفرض سيطرة الدولة ومؤسساتها على أسس من النزاهة والشفافية وفي إطار دولة القانون.

في هذا الإطار يرتبط تردد اسم داعش في بعض الأوساط والدوائر اللبنانية، بمساعي التنظيم “الاستثمار في الأزمة” العميقة التي تشهدها البلاد، حيث تشهد البلاد مجموعة من الأزمات المتداخلة والمركبة، فمن جهة توجد الأزمة الاقتصادية الخانقة التي توصف بأنها “أزمة الإفلاس الأعمق” منذ نشأة الدولة اللبنانية الحديثة، حيث الانهيار الكبير للعملة المحلية، ووجود لبنان في مصاف الدول الأكثر استدانة في العالم بالنسبة لعدد سكانها، وتخييم شبح الإفلاس على لبنان.

ومن جانب آخر توجد أزمة سياسية معقدة تشهدها البلاد، ترتبط هذه الأزمة بشكل رئيس بحالة الاستقطاب والصراع الكبير بين النخب السياسية اللبنانية المختلفة، وفقدان الثقة في هذه النخب من قبل المواطنين، وهو السياق الذي أنتج مع العديد من التراكمات في لبنان حالة هشاشة كبيرة تعيشها الدولة، صاحب هذه الهشاشة عدم القدرة على بسط النفوذ والسيطرة على جميع أراضي الدولة خصوصًا المعابر الحدودية، التي كانت تستخدم في السنوات الأخيرة غطاءً سياسيًا واضحًا من أجل تهريب المواد الغذائية والمحروقات -الشحيحة أصلا فى لبنان- إلى سوريا لحساب أفراد وكيانات خاصة تتربح من هذا التهريب.

وهي المعطيات التي يحاول الفاعلون المسلحون من غير الدولة كداعش استغلالها من أجل التخديم على مساعيها في الحضور من جانب في لبنان، وكجزء من مساعي التنظيم العودة إلى المشهد الإقليمي في الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرته وبالتحديد في العراق وسوريا. وهو ما تجسد من خلال نشاط التنظيم منذ بداية العام الحالي من جانب آخر، وهو النشاط الذي اعتمد بشكل رئيس على استثمار التوتر الطائفي في بعض الدول وإشعاله عبر تنفيذ هجمات ذات بعد طائفي، فضلًا عن الاعتماد على الخلايا النائمة كبديل لفكرة “الدولة” التي باتت صعبة بعد الهزيمة العسكرية للتنظيم.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى