
رهان على الاستقرار: الانتخابات التشريعية في كوت ديفوار
بدأ الاقتراع المتعلق بالانتخابات التشريعية في كوت ديفوار السبت 6 مارس 2021، لاختيار 255 نائبًا في البرلمان، في 205 دائرة، يختارهم أكثر من سبعة ملايين ناخب في 22 ألف مركز اقتراع. وتشهد هذه الانتخابات تحالف المعارضة بقيادة اثنين من الرؤساء السابقين في مواجهة حلفاء الرئيس الحالي حسن واتارا. وتأتي هذه الانتخابات في سياق شديد الاستقطاب، بعد حوالي أربعة أشهر من الانتخابات الرئاسية، في أكتوبر الماضي، والتي فاز فيها واتارا بولاية ثالثة، في انتخابات شهدت عنفًا إثنيًا تشير التقديرات إلى كونه الأكثر دموية بعد الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد في 2010-2011 اعتراضًا على نتائج الانتخابات حينها، بما دفع بالقبض على غبغابو وإرساله للمحكمة الجنائية الدولية، مما دفع حزبه لمقاطعة الانتخابات منذ ذلك الحين.
وبعد أن قاطع الحزبان الرئيسان الانتخابات الرئاسية اعتراضًا على ترشح واتارا لولاية ثالثة، قدم الرئيسان السابقان هنري كونان بيديه ولوران غبغابو مرشحين برلمانيين على قائمة مشتركة. وجرت هذه الانتخابات في أجواء من الهدوء النسبي عما جرى في انتخابات الرئاسة، على نحوٍ يعقد الآمال على عودة الاستقرار في البلاد، بعد أشهر من الاضطراب وعنف ما بعد الانتخابات، خاصة بعد فتح باب الحوار بين الرئيس والمعارضة، بما يبشر باحتمالات التهدئة.
سياق مستقطب
يشهد السياق الانتخابي حالة عامة من الاستقطاب بين الأحزاب المعارضة التي فقدت رصيدها في الشارع على مدار عشر سنوات من حكم واتارا الذي سيطر على البلاد بعد هزيمة غباغبو أمامه في 2010، ودخول البلاد في حرب أهلية بعد رفض الأخير تسليمه للسلطة.
وبعد أن قاطعت أحزاب المعارضة الانتخابات الرئاسية الفائتة، يشارك اليوم يشارك حزب غباغبو “الجبهة الشعبية الإيفوارية” (FPI)، منذ أن تمت الإطاحة به في 2011، وإرساله للمحكمة الجنائية الدولية لمواجهة اتهامات بارتكاب جرائم حرب، فيما تمت تبرئته عام 2019. على الجانب الآخر، سيطر حزب الرئيس بيديه حزب بيدي الديمقراطي لكوت ديفوار (PDCI) على السياسة الوطنية منذ أربعينيات القرن الماضي حتى تمت الإطاحة به كرئيس في عام 1999. واستمر الحزب في دعم حزب واتارا لسنوات لكنه انفصل عنه في عام 2018.
ومن أجل عودة الجبهة الشعبية، عقدت تحالف “معًا من أجل الديمقراطية والسيادة” مع منافسها التاريخي “الحزب الديمقراطي لكوت ديفوار“؛ في محالة لتأمين أغلبية برلمانية لقطع الطريق على واتارا وحزبه في احتكاره للسلطات المطلقة، ذلك على الرغم من التقديرات التي تفيد بأن حزب واتارا هو الحزب الوحيد القادر على تقديم مرشحين في كل الدوائر، واعدًا بـ”موجة برتقالية (لون الحزب)” لمواصلة إصلاحات رئيس الدولة. يأتي هذا في ظلّ حالة الاستقطاب التي تشهدها المعارضة، فهناك تحالف آخر يواجه تحالف غبغابو وبيديه، يتشكل من رئيس الوزراء السابق في عهد غبغابو باسكال أفي نغيسا، والوزير السابق ألبير مابري تويكيوس، الذي كان مقربًا من غباغبو. لكن مع ذلك، يشكل تحالف لوران غبغابو وبيديه تهديدًا لحزب الرئيس واتارا.
وقد عاد غبغابو للبلا في الثالث من مارس، فيما أيد واتارا عودته، بعد الحوار بين الأخير والمعارضة، لحل الأزمة السياسية المتفاقمة بعد اعتراض المعارضة على عدم دستورية ترشح واتارا لولاية ثالثة، بعد وفاة مرشح الحزب رئيس الوزراء أمادو غون كوليبالي. غير أن مشاركة كافة أحزاب المعارضة للمرة الأولى منذ 2010، والهدوء الذي شهدته الحلات الانتخابية يبشر بعودة الهدوء بعد أشهر من الاضطراب. جاء هذا الهدوء مدفوعًا بالحوار الذي أقامه واتارا مع المعارضة، عقب الجدل على نتائج الانتخابات الرئاسية، في إطار تسوية سياسية، في إطارها شاركت المعارضة في الانتخابات التشريعية.
وبهذا، فإن هذه الانتخابات التشريعية تعد فرصة ومدخلًا سياسيًا ودستوريًا لإعادة التوازن السياسي في الحكم، خاصة إذا استطاعت المعارضة إحراز تقدمًا ونجاحًا في هذه الاتجاه، بما يفرض حالة من الهدوء النسبي سياسيًا، ويفتح المجال أمام تشكيل حكومة توافقية. ومع ذلك، من المتوقع ألا تستمر حالة الاستقرار طويلًا، حال الخلاف على نتائج الانتخابات التشريعية، أو ظهور أزمة تشكيل الحكومة.
ويثير تقاطع الانقسام السياسي مع الانقسام العرقي الذي ترسخ مع الأزمة السياسية التي شهدتها البلاد بعد 2010، على نحوٍ يتطلب معالجة عميقة لتلك الانقسامات، لا تقف عند حدّ التوافق الانتخابي. وحتى الآن تترقب المعارضة أي محاولة لتزوير النتائج، على نحوٍ قد ينذر بعودة المواجهة مرة أخرى، خاصة مع اتجاه حزبي المعارضة لإعلان فوزهما في الانتخابات بأغلبية مقاعد المجلس قبل الإعلان عن النتائج الفعلية.
واقع التحديات
وعلى الرغم من الانقسامات العرقية الكبيرة بين الجماعات العرقية المتناحرة والفصائل السياسية، فإن الخصومات الأكبر بين الأحزاب تظل قوية. وعلى الرغم من أنها تمثل المصالح الإقليمية والعرقية أكثر من كونها أيديولوجية، إلا أن معارضة بعضهم البعض سرعان ما تتحول إلى مواجهات عرقية.
في هذا السياق المستقطب لا تحتمل كوت ديفوار الدخول في موجة جديدة من الحرب الأهلية في ظل بلد يعاني من اللجوء والنزوح، فوفقًا لآخر تحديثات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فبراير2021، تم تسجيل 29336 إيفواريًا فروا من كوت ديفوار مسبقًا في ليبيريا وغانا وغينيا وتوغو، وتستضيف ليبريا حاليا 95 في المائة منهم. ووفقًا لتقارير الحكومة من أصل 16732 نازحًا داخليًا من كوت ديفوار عاد ما يقدر بنحو 68 في المائة (11338) إلى قراهم الأصلية، ولا يزال 5394 نازحين داخل كوت ديفوار.
فعلى مدار العامين الماضيين شهدت البلاد عنفًا إثنيًا مرتبطًا بالانقسامات السياسية، وتدور المواجهة بشكل رئيس بين جماعتي المالينكي التي تقع في الشمال وتميل للتصويت لصالح حزب تجمع هوفيت من أجل الديمقراطية والسلام RHDP، وجماعة الباويلي وهي مجموعة فرعية من أكان لها جذور في الوسط وأكثر انسجامًا مع حزب بيدي الديمقراطي لكوت ديفوار PDCI، وتسعى الجماعتان إلى السيطرة على الحكومة المدنية. ويعزز هذا الوضع المواجهة بين الشماليين والجنوبيين، غير أن الصراع المحتمل قللت من فرص تصاعده حالة التوافق على الانتخابات التشريعية.
وتعد حالة المواجهة المحتملة بين الشمال والجنوب تلك تهديدًا لمشروع واتار المعروف بـ”كوت ديفوار الجديد”، القاضي بالمساواة بين الشمال والجنوب، كون واتارا كان أول رئيسًا للبلاد من الشمال عام 2011 بعد أن سيطر الجنوبيون على الحكم ومن ثم الفرص الاقتصادية، وفي المقابل يريد الشماليون الآن، العودة للحكم وفرض مداخل وسياسات تعزز من وضعيتهم في المؤسسات الأمنية والتعليمية.
وبجانب هذا التحدي الأمني، فإن السياق الإقليمي لا يحتمل انجرار البلاد إلى حرب أهلية مرة أخرى، مما يفاقم حالة السيولة الأمنية، في ظل إقليم يعاني من الإرهاب. خاصة وأن أية تحديات أمنية ستقوض من جهود البلاد الإقليمية في التعاون في جهود مكافحة الإرهاب في الساحل والصحراء. فقبل إجراء الانتخابات التشريعية بيومين، أجرى الرئيس الفرنسي اتصالًا بالرئيس الإيفواري استعرضا خلاله الأوضاع الإقليمية، وسبل التعاون بين فرنسا وكوت ديفوار، فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب في غرب إفريقيا، وتمويل مجموعة دول الساحل الخمس.
وعلى الجانب الآخر، أثرت أزمة كورونا على الأوضاع الاقتصادية في ذلك البلد الذي يعتمد على قطاع الزراعة وتصدر الكاكاو والبن، واستطاع تحقيق معدلات نمو مرتفعة، وصلت 7.5% عام 2019، جرّاء الاصلاحات الاقتصادية التي تبناها واتارا منذ وصوله للحكم 2010. وعليه، تفرض تلك التحديات الاقتصادية ضرورة تبني سياسات وتدخلات اقتصادية لمعالجة آثار كورونا على الاقتصاد
أجندة السياسات
اتخذ واتارا من إنجازاته الاقتصادية مبررًا قويًا لخوضه الانتخابات الرئاسية، بهدف متابعة السياسات والإنجازات الاقتصادية التي شهدتها البلاد في عهده، مع كون كوت ديفوار واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم في السنوات الأخيرة. ففي نظر تجمع هوفيت للديمقراطية والسلام أن قيادته للبلاد لما يقارب العقد ساهمت في تحقيق إنجازات اقتصادية ودبلوماسية وعمرانية تنموية بسبب حسن الإدارة والاستقرار السياسي. وعليه، يرى أنه من العبث ترك البلد لأحزاب وتحالفات لم تنجز شيئًا خلال فترة حكمها السابق. وتشير التحليلات إلى أن سيطرة حزب واتارا تجمع الهوفيين من أجل الديمقراطية والسلام(RHDP) على البرلمان، من شأنها تعزيز قدرة الحزب على متابعة أجندة لجذب الاستثمارات إلى أكبر منتج للكاكاو في العالم.
فيما تواجه الانتخابات نفسها تحديًا قانونيًا، نظرًا لضعف تمثيل المرأة في القوائم الانتخابية للأحزاب، بما يتعارض مع القانون الذي تمّ إقراره عام 2019، يطالب الأحزاب السياسية بتمثيل المرأة بحصة تبلغ 30% للانتخابات البرلمانية. وبينما لم يصل أيّ حزب لهذه العتبة وفقًا لإحصائيات المجلس الوطني لحقوق الإنسان الإيفواري، فإن القوائم معرضة للبطلان من قبل المجلس الدستوري.
وعلى الجانب الآخر، وفرت أزمة ” كوفيد -19″ مبررًا كافيًا لعدم مراجعة الكشوف الانتخابية التي يشار إلى أنها لم يتم تعديلها منذ عام 2010، إلا أنه تمّ عقد الانتخابات بوصفها مساحة إضافية للحكومة وأحزاب المعارضة لتسوية أي خلافات مستقبلية. وفيما يتعلق بالتهميش الاقتصادي والاجتماعي، فإن الدستور أعطى صلاحيات واسعة لكل من الرئيس ودائرته الضيقة، وكذلك قدرًا هائلًا من السلطات التنفيذية والاقتصادية، بما يجعل الهزيمة الانتخابية ليست فقط هزيمة حزبية أو حتى عرقية، وإنما أيضًا تهميشًا اقتصاديًا وسياسيًا لكل من قادتها والجماعات العرقية التي يمثلونها.
ويأتي تشكيل الحكومة ضمن التحديات السياسية القائمة، حيث تمّ الاتفاق على تشكيل الحكومة عقب إجراء الانتخابات التشريعية. وتماشيًا مع اتفاق المصالحة، أكد واتارا التزامه بالخريطة الحزبية الجديدة التي سينضم إليها قادة المعارضة المعتدلون، بما في ذلك بعض من حزب هنري كونان بيدي الحزب الديمقراطي لكوت ديفوار أو الجبهة الشعبية الإيفوارية بزعامة باسكال أفي نغيسان.
يريد رئيس الدولة أيضًا المراهنة على الأجيال الشابة، وبذلك تثير أزمة تشكيل الحكومة وتمكين الشباب مسألة إعداد كفاءات تكنوقراط، بوصفه تحديًا يواجه الدولة، والذي كشف عنه أزمة ترشح واتارا لولاية ثالثة، بعد أن أعلن عدم ترشحه في مارس الماضي، غير أن وفاة كوبالي مرشح الحزب أحدث فراغًا؛ نظرًا لعدم وجود خطة بديلة بترشيح كفاءات حزبية، ومن ثمّ فإن ترشخ واتارا يعبر عن عدم وجود شخصية توافقية داخل الحزب. فهذه الانتخابات التي تتنافس فيها قيادات يمتد التنافس والصراع بينهما منذ خمسة وعشرين عامًا على نحوٍ أدخل البلاد في حرب أهلية كان يراد لها نقل السلطة لجيل جديد.
يفكر واتارا أيضًا في تعيين مديرين إداريين جدد في الشركات المملوكة للدولة، بعد الانتخابات التشريعية، إذ إن الأجندة الاقتصادية بحاجة لسياسات وتدخلات جديدة، للحفاظ على معدل النمو الاقتصادي، خاصة مع الحاجة إلى التوجه نحو التصنيع، في ظل موارد اقتصادية ضخمة، فضلًا عن ضرورة إعطاء الفرصة للقطاع الخاص، وإصلاح البنية التشريعية والحاجة للاستثمار في البنية التحتية.أخيرًا: ضربت كوت ديفوار مثلُا في جوانب الإصلاح والتنمية الاقتصادية، بما يفرض متابعة سياسات تعمل على الحفاظ على مستوى النمو الاقتصادي، إضافة إلى النظر في الإصلاح المؤسسي والقانوني، والعمل على تمكين القيادات الشابة، وتعزيز سياسات المرأة والشباب لخلق نخبة جديدة. وربما القدرة على تخطي أزمة ما بعد الانتخابات، والحفاظ على قدر من التوافق، لتشكيل حكومة تلبي الاحتياجات السياسية والاقتصادية للبلاد في الفترة القادمة، ستجنب البلاد الوقوع في فخ الفوضى الأمنية، وتساعدها على الإعداد لمرحلة ما بعد واتارا، وتساعدها في الانطلاق نحو تحقيق التنمية الاقتصادية، والمشاركة الفعالة في جهود مكافحة الإرهاب الإقليمية.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية