
“مصدر تهديد”.. كيف سيتعامل بايدن مع العراق؟
فرضت تطورات الأحداث في العراق نفسها على أجندة الرئيس الأمريكي جو بايدن وجعلت ملف السياسة الأمريكية في العراق أحد أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة، بعدما باتت مضطرة للتعاطي مع الواقع العراقي وتحديد موقعه من سياق التفاعلات مع إيران؛ إثر الهجمات الصاروخية التي استهدفت مطار أربيل في إقليم كردستان (15 فبراير) وقاعدة بلد التابعة للتحالف الدولي (20 فبراير) ومحيط السفارة الأمريكية بالمنطقة الخضراء ببغداد (22 فبراير). وهي الهجمات التي عُدّت أول اختبار إيراني لسياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن الخارجية، وخاصة سياسته تجاه العراق.
الدفع بالتحرك
لم تكن الضربات التي وُجهت إلى المصالح الأمريكية في كردستان وبغداد جديدة بالنسبة لواشنطن، سواء في أسلوبها أو على الأغلب في المسؤولين عنها، وإنما كانت جديدة للإدارة الأمريكية التي لم تلبث سوى شهر واحد منذ تنصيبها حتى وجدت نفسها أمام هذا التحدي الذي فرض عليها التحرك لتحديد الاستراتيجية التي ستتبعها إزاء العراق. وكان التحرك الأول هو الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأمريكي جو بايدن مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي (23 فبراير) والذي يعد ثاني اتصال للرئيس الأمريكي مع مسؤول في الشرق الأوسط بعد اتصاله برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بحث خلاله بايدن مع الكاظمي الهجمات الصاروخية وأكد أهمية حماية البعثات الدبلوماسية ومحاسبة المسؤولين عن هذه الهجمات.
الاتصال الذي لم يحمل وفق بياني البيت الأبيض والحكومة العراقية جديدًا أو تحديدًا للاستراتيجية الأمريكية في العراق خلال الفترة المقبلة، كان دليلًا على أن الملف العراقي بات في محور اهتمامات الإدارة الأمريكية الجديدة، لا سيّما وأن العراق أضحى مصدر تهديد جدي للولايات المتحدة وحلفائها، وذلك بالنظر إلى الهجمات الصاروخية الأخيرة، وكذلك استغلال الحدود السورية العراقية لتهريب الأسلحة والعتاد العسكري إلى حزب الله والميلشيات الإيرانية داخل سوريا، فضلًا عن أن العراق حسب بعض التقارير كان مصدرًا أيضًا لهجوم صاروخي استهدف العاصمة السعودية الرياض (23 يناير) ونجحت الدفاعات الجوية السعودية في التصدي له.
دلالة الاتصال لم تتوقف عند هذا الحد، بل أن توقيتها الذي كان قبل أيام من استهداف الولايات المتحدة لمواقع الميلشيات العراقية عند الحدود السورية العراقية من الجانب السوري (26 فبراير) حمّلها دلالات أخرى قد تشير إلى أن تنسيقًا جرى بين بايدن والكاظمي حول هذه الضربات، خاصة مع بيان البيت الأبيض حول الاستعانة بمعلومات استخبارية عراقية في تنفيذ هذه الضربة الجوية رغم نفي الحكومة العراقية ذلك.
تحديات معقدة
لا تختلف أهداف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في العراق عن أهداف الإدارة السابقة للرئيس دونالد ترامب؛ إذ تبقى محددات السياسة الأمريكية في العراق ثابتة تقريبًا وهي مكافحة تنظيم داعش الذي عاود نشاطه بقوة في الساحتين العراقية والسورية خلال الآونة الأخيرة، فضلًا عن أن العراق سيبقى رغمًا عنه رقمًا في معادلة الصراع الأمريكي مع إيران وساحة لتصفية الحسابات والضغط بين البلدين لتحسين شروط التفاوض على اتفاق نووي جديد. بيد أن التحديات التي ستعترض طريق بايدن لتحقيق هذه الأهداف ستكون أساليبها أكثر تعقيدًا من تلك التي كانت في عهد ترامب.
وقد بدا من رد الولايات المتحدة على هجمات الميلشيات العراقية ضد مصالحها عبر استهداف مواقع لميلشيات كتائب حزب الله داخل سوريا عند حدودها مع العراق أن الإدارة الأمريكية باتت تدرك أن ردها على التهديدات الإيرانية والميلشياوية يجب أن يكون محسوبًا بشكل أدق مما كانت عليه ردود إدارة ترامب، في ظل الحصار الأمريكي بين مطرقة هذه التهديدات وسندان الرغبة في إبرام اتفاق جديد يقوض النشاط الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة جنبًا إلى جنب مع الحد من نشاطها النووي.
وعلى الرغم من أن الاستهداف الأمريكي لمواقع الميلشيات في سوريا قد أرسى معادلة اشتباك أوسع مع الميلشيات الموالية لإيران، وأعطى رسائل واضحة بأن أي هجمات مستقبلية لن تمر دون رد، فإن الميلشيات في العراق قد اختارت التصعيد ضد الولايات المتحدة غير مكترثة باحتمالات رد الفعل الأمريكي؛ فأعلنت تراجعها رسميًا عن الهدنة التي أعلنتها (أكتوبر 2020) مع الولايات المتحدة مهددة بالرد على الهجوم الأمريكي في سوريا. وبالفعل استهدفت (3 مارس) قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار بـ10 صواريخ.
ومن ثم فإن هدف الردع الذي أرادت واشنطن تحقيقه بضرباتها في البوكمال السورية لم يتحقق. وسيكون لزامًا على الولايات المتحدة التحرك سريعًا للرد على تصعيد الميلشيات العراقية الذي أسفر عن وفاة مقاول مدني أمريكي إثر نوبة قلبية حسبما أعلن الرئيس بايدن. بيد أن طبيعة هذا الرد الجديد مازالت لم تتحدد بعد؛ إذ قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي إن “الضربات الجوية المحسوبة الأسبوع الماضي يمكن أن تكون نموذجًا للرد العسكري وإذا رأينا أن هناك ما يبرر الرد الإضافي فسنتخذ إجراءً مرة أخرى بالطريقة والوقت اللذين نختارهما”.
استراتيجية داعمة
تشير تصريحات المسؤولين الأمريكيين إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية اختارت حتى الآن تغليب المصالح الاستراتيجية على تحقيق مكاسب تكتيكية صغيرة، على العكس بعض الشيء مما كانت تختاره إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي كانت تميل إلى إظهار حجم القوة الأمريكية في الرد على مثل هذه الهجمات. وبالنظر إلى أن ردود الفعل القوية للإدارة السابقة لم تنجح في وقف استهداف الميلشيات للمصالح الأمريكية فإن هذا يجعل الإدارة الجديدة أكثر تمسكًا بمقاربتها التي قد تتمثل على المديين القصير والمتوسط في:
- فرض الردع
يمثل هدف ردع الميلشيات الموالية لإيران في العراق عن استهداف المصالح الأمريكية أبرز أهداف الإدارة الأمريكية في العراق خلال الفترة المقبلة، ولتحقيق هذا الهدف ستعمد واشنطن إلى المزاوجة في سياساتها بين ما هو سياسي وما هو عسكري. فسياسيًا سيكون ضبط سلوك الميلشيات في العراق أحد أهم الأوراق التي ستستخدمها واشنطن في مباحثاتها المستقبلية مع إيران. وحسب تقديرات ستبلغ واشنطن طهران بأن أي سلوك تصعيدي من قبل هذه الميلشيات ضد المصالح الأمريكية سيؤثر بدوره على أي مباحثات تخص الاتفاق النووي أو رفع العقوبات.
وبالإضافة إلى ذلك فسيكون مهمًا لواشنطن أن ترسي هذه المعادلة للردع عسكريًا عبر استهداف وجود هذه الميلشيات سواء في العراق أو في سوريا، خاصة مع نهجها التصعيدي الذي عبّرت عنه من خلال استهداف قاعدة عين الأسد؛ إذ إن الصمت الأمريكي على مثل هذه الضربات سيُفسر ضمنيًا لدى إيران ووكلائها بأن هناك خشية من واشنطن بأن يؤثر ردها على الاتفاق مع إيران، وأنها أكثر حرصًا من طهران على إبرام الاتفاق. هذا فضلًا عن دعم العراق في الدفاع عن سيادته، وتقديم الدعم الأمني والعسكري لإقليم كردستان في مواجهة الميلشيات لا سيّما في المناطق التي تشهد نزاعات حولها في كركوك وسنجار.
- دعم الدولة العراقية
اتخذت الإدارة الأمريكية السابقة خطوات بالفعل في تقديم الدعم للحكومة العراقية برئاسة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وذلك عبر عقد جولتين من الحوار الاستراتيجي (11 يونيو 2020) و(19 أغسطس 2020)، والاتفاق خلالهما على احترام واشنطن للسيادة العراقية واستمرار التعاون في مكافحة تنظيم داعش وتقديم الدعم الاقتصادي الأمريكي لبغداد وبحث استثمارات جديدة ستضخها واشنطن في بغداد، فضلًا عن دعم جهود الحكومة لإجراء الانتخابات النيابية المبكرة.
ومن المؤكد أن إدارة الرئيس جو بايدن ستكون حريصة على استمرار هذا الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد، وهو ما دلل عليه الاتصال الذي جمع بين بايدن والكاظمي؛ إذ عُدّ هذا الاتصال ثم توجيه الضربة الأمريكية للميلشيات في سوريا وليس في العراق حسب مسؤولين أمريكيين رسالة من واشنطن بـ”تجنب تقويض الموقف السياسي لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي”.
ولمّا كانت الأوضاع الاقتصادية الصعبة في العراق أحد أهم الأزمات التي يواجهها الكاظمي، فإن أحد أهم أشكال الدعم التي يمكن أن تقدمها واشنطن له هو الدعم الاقتصادي، من خلال دعم مكافحة الفساد وإجراءات الحوكمة والإصلاح الإداري، ودعم استراتيجية الإصلاح الاقتصادي والمالي التي قدّمها الكاظمي وتُعرف بـ”الورقة البيضاء”. هذا بجانب دعم جهود الكاظمي لإجراء الانتخابات المبكرة بشكل يقوض النفوذ الإيراني في المشهد السياسي العراقي.
ويمثل إعلان جهاز مكافحة الإرهاب بإقليم كردستان نتيجة التحقيق في هجوم مطار أربيل (15 فبراير) بأن كتائب سيد الشهداء هي المسؤولة عن هذا الهجوم حسب اعترافات المقبوض عليهم رسالة من الإقليم بأنه أشد حرصًا من الحكومة الاتحادية على التعاون مع واشنطن ومن ثم الحصول على دعمها الاقتصادي والعسكري، بما يتضمنه ذلك من دعم ضمني لأربيل في مواجهة التدخلات الإيرانية والتركية.
- إبقاء الوجود العسكري
حدد القائم بأعمال السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة ريتشارد ميلز في جلسة مجلس الأمن الدولي (16 فبراير) أهداف الإدارة الأمريكية في العراق، قائلًا “ستسعى الولايات المتحدة إلى مساعدة العراق على تأكيد سيادته في مواجهة الأعداء في الداخل والخارج من خلال منع عودة داعش والعمل على استقرار العراق”. وهذه الأهداف جنبًا إلى جنب مع قرار حلف الناتو بمضاعفة أعداد قواته الموجودة في العراق تشير إلى أن الولايات المتحدة لن تُقدم على سحب قواتها من العراق أو إنهاء وجودها العسكري هناك.
وسيبقى وجود واشنطن العسكري في العراق تحت أهداف عدة، أولها دعم الحكومة العراقية في مواجهة الميلشيات الموالية لإيران وما تمثله أنشطتها من زعزعة لاستقرار العراق، وثانيها مواصلة كافة أشكال الدعم الأمني والاستخباري لقوات الأمن العراقية والجيش العراقي لمكافحة تنظيم داعش الذي يعيد تنظيم صفوفه بشكل كبير في كل من سوريا والعراق.
باحث أول بالمرصد المصري