السودان

العلاقات المصرية السودانية… مصالح متبادلة وملفات مشتركة

يقع السودان بحكم موقعه الجغرافي ضمن المجال الحيوي للأمن القومي المصري، ويمثل العمق الاستراتيجي الجنوبي لمصر، وهو ما انعكس على حرص متواصل على الإبقاء على درجة من التعاون والتنسيق والتفاهم مع الخرطوم، مهما مرت العلاقات الثنائية بمراحل من الصعود والهبوط على مدار تاريخها الممتد.

وفي هذا الإطار، أولت مصر عقب ثورة 30 يونيو 2013 أهمية بالغة لعلاقاتها مع الخرطوم، ضمن إعادة تحديد وصياغة دوائر وتوجهات سياستها الخارجية بما يتلاءم مع المحددات والتحديات الجديدة التي رتبتها التحولات العالمية والإقليمية خلال العقد الماضي.

ونظرًا لوقوع السودان ضمن الدائرتين العربية والإفريقية للسياسة الخارجية المصرية فقد حظي السودان بأولوية على أجندة الرئيس عبد الفتاح السيسي الخارجية، ترجمت إلى كونه كان الوجهة الأولى لزيارته الخارجية عقب انتخابه رئيسًا للجمهورية عام 2014 ضمن جولة شملت ثلاث دول، وأيضًا بعد إعادة انتخابه لولاية ثانية عام 2018. وهكذا دشنت القاهرة مرحلة جديدة من علاقاتها مع الخرطوم عنوانها “العلاقات الاستراتيجية الأخوية”، عكستها حجم الزيارات المتبادلة بين الجانبين على المستويات الرسمية والحكومية والشعبية، والتنسيق في كافة المجالات والدفع نحو سرعة تنفيذ المشروعات التنموية المشتركة، والدعم لخيارات الشعب السوداني في صياغة مستقبل بلدهم.

رعاية مفاوضات المرحلة الانتقالية

منذ اندلاع الانتفاضة السودانية في 19 ديسمبر 2018 ضد حكم الرئيس السابق عمر البشير وتؤكد مصر مرارًا على احترام خيارات الشعب السوداني، فقد أظهرت مصر الدعم الكامل للحكومة السودانيّة الجديدة في سعيها إلى تحقيق تطلعات الشعب السوداني.

ومع استمرار الأزمة السياسية بشأن تقاسم السلطة بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، حرصت مصر على نقل خبراتها إلى السودان فيما يخص إدارة المرحلة الانتقالية، وبذلت جهودًا لتجاوز الخلافات وتشكيل سلطة انتقالية لتمهيد الطريق نحو انتخاب حكومة مدنية، تمثلت في رعاية الوساطة المباشرة لتجميع أطراف الأزمة، والمساعدة في بناء استحقاق سياسي للمرحلة الانتقاليّة بالمشاركة مع القوى الإقليميّة الأخرى مثل إثيوبيا والسعودية والاتّحاد الإفريقي، والتحرك في مسار تقريب وجهات النظر من خلال المحادثات الهاتفية واللقاءات مع الأطياف كافة.

وفي هذا الصدد، استضافت القاهرة 10 أغسطس 2019، اجتماعًا بين قوى الحريّة والتغيير والجبهة الثوريّة السودانيّين لإجراء مفاوضات استمرّت يومين حول ما طالبت به الجبهة الثوريّة بتضمين اتفاقيّة السلام، التي أبرمت مع الحريّة والتغيير في أديس أبابا في 20 يوليو 2019 في وثيقة الإعلان الدستوريّ، والتي تنص على الإسراع في تشكيل السلطة المدنية الانتقالية وتحقيق اتفاق سلام شامل يبدأ بإجراءات تمهيدية عاجلة تم الاتفاق عليها تعمل على خلق المناخ المواتي للسلام.

كما حضرت مصر ممثلة في شخص رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، التوقيع على اتفاق تقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي وممثلو المعارضة في 17 أغسطس 2019، الذي ينصّ على تكوين مجلس حاكم انتقالي من المدنيين والعسكريين.

مكافحة الجماعات الإرهابية

أدت ممارسات الحركة الإسلامية السودانية التابعة لجماعة الإخوان إلى عزل السودان وحكومته عن العديد من الدول، وانتهت به إلى الوضع على قائمة الدول الراعية للإرهاب. وعقب سقوط نظام البشير سعت الحكومة الانتقالية إلى التخلص من إرث الماضي وتفكيك سيطرة تنظيم الإخوان على مفاصل الدولة، وإخراجهم من مراكز صنع القرار، ومحاربة الفكر المتطرف. ومن هنا، اتجهت الخرطوم للتعاون مع مصر التي سبقتها بست سنوات في التخلص من حكم الجماعة الإرهابية، على المستويين الديني والأمني. ويمثل محاربة التطرف في السودان هدف استراتيجي لمصر لأن الاضطرابات وأعمال العنف التي يتسبب فيها الإخوان تؤثر على أمن مصر التي تشترك في الحدود مع السودان

وقد تحسن التعاون الديني بين البلدين منذ الانتفاضة السودانية، حيث زار وزير الأوقاف السوداني نصر الدين مفرح مصر في ديسمبر 2020، كما نظمت وزارتي أوقاف البلدين دورة تدريبية للأئمة في 21 ديسمبر 2020 حول التعاون في مكافحة التطرف ومواجهة أيديولوجيات المتطرفين بهدف تدريب الأئمة السودانيين على تعزيز السلام ومنع الحرب ومحاربة التطرف والعمل نحو تعزيز مبدأ المواطنة.

وضمن جهود محاربة الفكر المتطرف، انطلقت في فبراير الماضي قافلة من أئمة وخطباء مصريين إلى السودان، ضمن جهود الأخير لتجديد الخطاب الديني ومواجهة الأفكار المتطرفة، ونشر الفكر المستنير ونبذ الفرقة والعنف والتطرف والتركيز على قضية الحفاظ على الوطن وحماية مؤسساته الوطنية. وقد عقدت القافلة دورة تدريبية للداعيات المصريات والسودانيات بشمال دارفور في 6 فبراير تناولت الفكر المتطرف لدى المواطنين السودانيين، خاصة أن تلك المنطقة تشهد تصاعد أعمال العنف ونهب يقودها أنصار البشير وأعضاء جماعة الإخوان الإرهابية، وهو ما دفع السلطات لإغلاق 131 جمعية مرتبطة بالإخوان في جنوب دارفور في 23 يناير بعد ثبوت تلقيها أموال أجنبية لدعم الأنشطة الإرهابية والتحريض على العنف ونشر الفكر المتطرف في المنطقة.

ولا يقتصر التعاون بين الجانبين في مواجهة الإرهاب على الجانب الديني وحده، بل امتد للصعيد الأمني، حيث أعلنت وزارة الداخلية السودانية، في 9 ديسمبر الماضي، سحب الجنسية السودانية من 3000 أجنبي حصلوا عليها إبان البشير بينهم أعضاء من جماعة الإخوان الذين فروا من مصر ودول أخرى، ضمن اتفاق بين البلدين على التنسيق بشأن تسليم أعضاء جماعة الإخوان الإرهابية الذين فروا إلى السودان في أعقاب ثورة 30 يونيو عبر سحب جنسيتهم ثم تسليمهم، خلال زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، للقاهرة في 27 أكتوبر الماضي.

مساندة الموقف السوداني في الصراع الحدودي مع إثيوبيا

راقبت مصر عن كثب التوترات الحدودية السودانية الإثيوبية بشأن منطقة الفشقة الحدودية المتنازع عليها، انطلاقًا من دورها في حماية السلام والأمن في المنطقة الأفريقية، خاصة في البلدان المجاورة. وعلى الرغم من أنها لم تتخذ إجراءات على أرض الواقع لدعم أي من الأطراف المتصارعة، إلا أنها اتهمت إثيوبيا -في بيان شديد اللهجة صادر عن وزارة الخارجية في 31 ديسمبر 2020- بمواصلة ممارسات عدائية مستمرة ضد محيطها الإقليمي، في إشارة إلى الهجمات الإثيوبية على الأراضي السودانية.

وينظر للبيان المصري على أنه إعلان لوقوفها بجانب الخرطوم ودعمها في الدفاع عن أراضيها دون أن تدخل في مواجهة مباشرة مع إثيوبيا، حيث تتبنى مصر سياسات تدعم الحلول السلمية من خلال الحوار والمفاوضات لاستعادة السلام وحل جميع القضايا العالقة. وفي الوقت الحالي يمكن لمصر دعم السودان من خلال إثارة قضية الحدود في المحافل الدولية وتقديم الدعم القانوني، لكن سياسة مصر لا تتمثل في العمل في الخفاء أو تأجيج الصراع بين دولتين، خاصة وأن القاهرة تدرك جيدًا أنه إذا لم يعد التوتر السوداني الإثيوبي محصورًا بالاشتباكات فقط، فسيكون له آثار سلبية وتداعيات على الأمن في المنطقة.

كما بدت المساندة المصرية لحقوق السودان في السيطرة على أراضي “الفشقة” وانتزاعها من الجماعات الموالية للمليشيات الإثيوبية التي تستفيد من زراعة آلاف الأفدنة من الأراضي الخصبة منذ عام 1995، في استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي لوفد من مجلس السيادة السوداني برئاسة الفريق شمس الدين الكباشي ومدير المخابرات العامة جمال عبد المجيد، في 14 يناير، ضمن تحركات إقليمية تشمل عدة بلدان عربية كالكويت وقطر والسعودية، لطلب الدعم الدبلوماسي والقانوني.

رعاية اتفاق “جوبا” بين الحكومة والمتمردين

كانت مصر حاضرة في المفاوضات بين الحكومة الانتقالية السودانية والجبهة الثورية التي تضم عددًا من القوى السياسية والفصائل المسلحة والتي هدفت إلى توقيع اتفاقية سلام سودانية تنهي عقود من الصراع والأزمات التي أنهكت الشعب السوداني. وقد ركزت جهود مصر على تقريب وجهات النظر وتقليل الفجوة بين الحكومة الانتقالية السودانية والجبهة الثورية. وكان ملف الترتيبات الأمنية في قلب الاهتمام المصري، وأسفر عن اتفاق بتشكيل قوات مشتركة تحت اسم “القوى الوطنية لاستدامة السلام في دارفور”، قوامها الجيش والشرطة والدعم السريع وقوات من حركات الكفاح المسلح، تكون مهمتها حفظ الأمن وحماية المدنيين ونزع السلاح من الإقليم.

هذا إلى جانب احتضان مصر ثلاثة اجتماعات للقوى السياسية والحركات المسلحة السودانية في شهور أغسطس وسبتمبر وأكتوبر 2019، شاركت خلالها القوى السياسية السودانية في إطار تحالف نداء السودان، بهدف توحيد فصائل الجبهة الثورية وترتيب أجندة التفاوض بين الأطراف وفقًا للأولويات التي يطرحونها. وقد شاركت مصر كشاهد وضامن في مراسم التوقيع النهائي على “اتفاق جوبا للسلام”، ممثلة في شخص رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، الذي ألقى كلمة أكد خلالها أن الاتفاق بمثابة نقلة وخطوة كبيرة في طريق الأمن بالسودان، وخطوةٍ فارقةٍ على صعيد الجهود الممتدة على مدار عقود طويلة لإحلال السلام الشامل في شتى أنحاء السودان، وبداية لصفحة تتكاتف فيها جهود أبنائه من مختلف الأطياف والتيارات الوطنية للعمل على رفعته وازدهاره.

تعزيز التعاون العسكري

شهدت العلاقات العسكرية المصرية السودانية نقلة نوعية في نوفمبر الماضي، حيث شهد أول مناورة جوية مشتركة أطلق عليها “نسور النيل 1″، وقد جرى تنفيذها بإحدى القواعد الجوية السودانية، بمشاركة وحدات من القوات الجوية وعناصر من القوات الخاصة لكلا البلدين. وتضمنت المراحل الأولى من المناورة إجراءات التلقين وأسلوب تنظيم التعاون لتوحيد المفاهيم وصقل المهارات لإدارة العمليات الجوية المشتركة بكفاءة عالية، علاوة على تنفيذ العديد من الطلعات المشتركة لمهاجمة الأهداف المعادية وحماية الأهداف الحيوية بمشاركة مجموعة من المقاتلات المتعددة المهام. 

وهدفت المناورة إلى تحقيق أقصى استفادة ممكنه للعناصر المشاركة فى التخطيط والتنفيذ لإدارة العمليات الجوية وقياس مدى جاهزية واستعداد القوات لتنفيذ عمليات مشتركة على الأهداف من خلال إتباع أنسب الأساليب التكتيكية لتحقيق المهام تحت مختلف الظروف، بما ينعكس على جاهزية القوات الجوية لكلا البلدين ويساهم فى تحقيق الأمن والاستقرار بالمنطقة.

وفي سياق التعاون الدفاعي، وقعت الهيئة القومية للإنتاج الحربي مذكرة تفاهم مع هيئة الصناعة الحربية السودانية لتعزيز التعاون في جميع مجالات الإنتاج الحربي، في 20 نوفمبر، على هامش زيارة قام بها وفد رفيع المستوى برئاسة العميد الركن المعتصم عبد الله الحاج نائب المدير العام لمنظومة الصناعات الدفاعية السودانية؛ لعدد من شركات الإنتاج الحربي للاطلاع على الإمكانيات التصنيعية والتكنولوجية بها.

وضمن جهود تعزيز التعاون العسكري، ترأس الفريق محمد فريد رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وفد عسكري رفيع، في زيارة مهمة إلى السودان في إطار الاجتماع السابع للجنة العسكرية المشتركة المصرية السودانية، الذي بحث عدد من الملفات التي تدعم مجالات الشراكة والتعاون بين البلدين، وقد أسفر عن الاتفاق على تعزيز التعاون العسكري والأمني المصري السوداني فى مجالات التدريبات المشتركة والتأهيل وأمن الحدود ونقل وتبادل الخبرات العسكرية والأمنية.

تطوير المناهج التعليمية

سعت مصر إلى التعاون مع السودان في تطوير المناهج عقب إقالة البشير، خاصة في ظل مساعي القاهرة لتخليص الخرطوم من بقايا الفكر الرجعي الذي دسته جماعة الإخوان في المناهج المدرسية التي تضمنت فقرات تكفيرية ومتطرفة. ومن هذا المنطلق، أرسلت مصر بعثات تربوية ومعلمين مصريين إلى السودان لضمان التقارب بين البلدين، كما عقد مسئولو التعليم في السودان لقاءات مع مسئولين في مصر للاستفادة من التجربة المصرية في التعامل مع أفكار الإخوان المتطرفين.

وفي هذا السياق، بحثت وزيرة التعليم العالي السوداني، انتصار صغيرون، يوم 25 يناير الماضي مع السفير المصري بالخرطوم حسام عيسى التعاون في مجال التعليم. وقبلها في أكتوبر 2020، ناقش وزير التعليم العالي السوداني مع وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة سبل التعامل مع الأفكار المتطرفة. كما تم توقيع بروتوكول تعاون تعليمي بين مصر والسودان، وكشف وزير التربية والتعليم طارق شوقي، في 6 فبراير الماضي، أن عددًا من الدول العربية، منها السودان، دعت إلى تطبيق المنهج المصري في مدارسها.

كذلك لجأ السودان في الأشهر الماضية إلى مصر لتطوير مناهجه الجامعية. وفي أكتوبر 2020، وقع وزير التعليم العالي المصري خالد عبد الغفار ونظيره السوداني جابرييل تشانغسون بروتوكول تعاون في مجال التعليم العالي للتعاون في إعداد الخطط الدراسية والمناهج والكتب المدرسية في الجامعات. كما أعلنت جامعة القاهرة في أغسطس 2020 إعادة فتح فرعها بالخرطوم لاستقبال الطلاب السودانيين بعد إغلاق دام 27 عامًا.

ختامًا

 شهدت العلاقات المصرية السودانية زخمًا كبيرًا عقب ثورة 30 يونيو 2013 والانتفاضة التي أطاحت بالرئيس السوداني السابق عمر البشير، عززتها حجم الملفات المشتركة بين البلدين ذات الطابع الحيوي والاستراتيجي وفي مقدمتها قضيتا مياه النيل وسد النهضة الإثيوبي ومكافحة الإرهاب. وانطلاقًا من حجم المصالح المشتركة والتقدم الكبير الذي شهدته العلاقات الثنائية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والتنموية والعسكرية والأمنية، فإن المستقبل يحمل أفقًا واسعة للتعاون بما يحقق مصالح البلدين والشعبين ويلبي تطلعاتهم في التنمية والحياة الكريمة.

*المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية

6 مارس 2021.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى