
جلسة منح الثقة … التحدي الأول أمام السلطة الليبية الجديدة
ربما كان من البديهي أن نعتبر تحديد الشخصيات التي ستتبوأ المناصب الوزارية، هو التحدي الأكبر والأول امام أي حكومة جديدة، لكن واقع الحال في ليبيا يشير إلى أن تحديد المدينة التي ستحتضن اجتماع مجلس النواب، من أجل منح الثقة لحكومة عبد الحميد الدبيبة، يعد هو الاختبار الأصعب في هذه المرحلة، ناهيك عن مسألة منح الثقة في حد ذاتها، التي تشوبها مصاعب عديدة ستؤثر بالتأكيد على المسار السياسي المؤقت الذي يستهدف عقد انتخابات عامة بحلول أواخر العام الجاري.
كان من المفترض أن يقدم رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، كامل أسماء تشكيلته الحكومية المقترحة إلى كل من رئيس المجلس الرئاسي الجديد محمد يونس المنفي، ورئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح، لكن المعلن انه قام بتقديم تصور عام لهذه التشكيلة وهيكليتها وكيفية توزيع حقائبها، دون أن يعلن بشكل واضح أسماء الشخصيات المقترحة، لدرجة دفعت البعض للافتراض أن الدبيبة لم يقدم أية أسماء للمستشار صالح، وأن ما قدمه كان مجرد مقترحات عامة حول التشكيلة الحكومية. هذا النهج من جانب الدبيبة يمكن ربطه بالتفاعلات التي شهدها المشهد البرلماني الليبي خلال الأيام القليلة الماضية، والتي كانت مؤشراً مهماً على وجود انقسامات مهمة في توجهات أعضاء البرلمان، ليس فقط في ما يتعلق بما يمكن أن يقدمه الدبيبة من أسماء في تشكيلته الوزارية، بل أيضاً في ما يتعلق بمكان انعقاد جلسة منح الثقة ذاتها.
نواب المنطقة الشرقية على قناعة أن مدينة سرت تعد هي المكان الأمثل لعقد هذه الجلسة، خاصة أن اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، أعلنت الثلاثاء الماضي أن المدينة أصبحت جاهزة امنياً ولوجستيا لاستضافة جلسة منح الثقة. هذه التوجه تعزز بشكل اكبر من خلال رسالة وقعها 84 نائب من نواب البرلمان الليبي – الذي يبلغ مجموع نوابه 170 نائبا – يعلنون فيها عن دعمهم الكامل لعقد جلسة منح الثقة للحكومة الجديدة، بدون أي شروط اوقيود تتعلق بمكان انعقاد الجلسة.
في المقابل انقسم نواب المنطقة الغربية بشأن عقد هذه الجلسة في مدينة سرت، فاجتمع 33 نائب منهم في العاصمة طرابلس، بحضور نائبي رئيس مجلس النواب، فوزي النويري وأحميد حومة، واتفق المجتمعون على عدم الذهاب إلى سرت، وتفضيل مدينة غدامس لتكون مقر انعقاد جلسة منح الثقة. وفي محاولة لتقريب وجهات النظر بين الجانبين عقد نائب رئيس المجلس الرئاسي الجديد ألتقى نحو 87 نائب من نواب المنطقة الغربية، في مدينة صبراتة، بحضور نائب رئيس المجلس الرئاسي الجديد عبد الله اللافي، اجتماعا تشاورياً في مدينة صبراتة،حضره 78 نائبا ينتمون للمنطقتين الشرقية والغربية، وكانت أجواء هذا الاجتماع إيجابية إلى حد ما، وتؤشر إلى أن كفة سرت قد تصبح مرجحة في هذه المعادلة.
الجدل حول ماهية المدينة التي ستستضيف اجتماع منح الثقة، طرح أيضاً إشكالية اخرى تتعلق بالنصاب القانوني اللازم لمنح الحكومة الثقة، فإذا نظرنا إلى تصريحات بعض النواب حول رفضهم القاطع الذهاب إلى سرت، فإن أمكانية حصول الحكومة على الثقة ستبقى محل شكوك كبيرة حتى لو تم عقد الجلسة، وهذا ربما كان الدافع الأساسي الذي جعل رئيس الحكومة الجديدة عبد الحميد الدبيبة، يغرد على موقع تويتر، ملمحاً إلى أنه قد يلجأ إلى طرح تشكيلته الحكومية على ملتقى الحوار الوطني – البالغ عدد أعضائه 75 عضو – طلباً لمنحها الثقة، وهي الخطوة التي لو تمت فسوف تؤدي إلى نشوء تعقيدات دستورية نظراً لوجود أراء ليبية تقطع بعدم اختصاص ملتقى الحوار في هذه المسألة، وكذلك ستؤسس هذه الخطوة في حالة حدوثها إلى انقسامات كبيرة، خاصة أن دور مجلس النواب الحالي سينتهي عملياً في الحياة السياسية الليبية، بمجرد عرض هذه التشكيلة على ملتقى الحوار.
أذن يبقى الانتظار هو سيد الموقف، وبات الجميع يتطلع إلى الأثنين المقبل، وهو الموعد الذي حدده مجلس النواب لعقد اجتماع منح الثقة للحكومة الجديدة، على أن يتم الاجتماع في مدينة سرت، أو في مدينة طبرق في حالة تعذر عقده في المدينة الأولى، وهذا ما قد يزيد من احتمالات غياب قسم من نواب المنطقة الغربية عن هذا الاجتماع، ما لم تنجح الجهود المبذولة حالياً في إثناؤهم عن موقفهم هذا، وتأمين النصاب اللازم لعقد هذه الجلسة، تجنباً للجوء رئيس الحكومة إلى الخيار الثاني، الذي قد يخلط الأوراق السياسية في ليبيا بشكل أو بآخر.
التجاذبات الداخلية حول توجهات الحكومة الجديدة، أُضيف إليها مؤخراً بعض الخلافات حول حقيقة التوجهات السياسية لهذه الحكومة، فمن حيث التوجهات المعلنة، يبدو انها ستعمل في نسق (حكومة مؤقتة)، ستحاول قدر الإمكان تفادي الملفات الخلافية الأساسية، مثل ملف الميليشيات والتواجد التركي في غرب البلاد، أو على الأقل ستحاول ترحيل مسألة التعامل مع هذه المعضلات إلى الحكومة المقبلة التي يُفترض أن يتم تشكيلها عقب الانتخابات العامة أواخر العام الجاري. هذا التوجه ظهر بشكل واضح من خلال الزيارات التي قام بها رئيس المجلس السياسي الجديد محمد المنفي، سواء لقائه مع المشير خليفة حفتر، او زيارته الهامة لمصر، وهي مواقف يمكن وضعها جنباً إلى جنب مع مواقف أخرى لرئيس الحكومة الجديدة عبد الحميد الدبيبة، منها موقفه من الاتفاقية البحرية مع تركيا، حيث أشار إلى أنه سيتم العمل بها خلال الفترة المقبلة، كما انه أشار بوضوح إلى أنه لا يمكن منع أنصار نظام القذافي من دخول تشكيلة حكومة الوحدة الوطنية، وهي نقطة خلافية بين المكونات الليبية الداخلية، خاصة وأن روسيا بدأت منذ فترة مساعي للتواصل مع وفود موالية لسيف الإسلام القذافي.
الأصوات المعارضة – او الضاغطة – على الحكومة الجديدة لم تظهر بشكل واضح في المشهد السياسي الحالي، لكن بعض هذه الأطراف أبدى معارضة واضحة لآلية اختيار أعضاء الملتقى الوطني للحوار، ومنهم رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، الذي يعتبر الصوت الوحيد حتى الآن الذي انتقد رئيس المجلس الرئاسي الجديد، وذلك على خلفية لقائه بالمشير حفتر. يضاف إلى ذلك بعض الميليشيات الموجودة في طرابلس، مثل ميليشيا (قوة حماية طرابلس)، التي أعلنت عدة مرات رفضها لمخرجات الملتقى الوطني للحوار، وهو موقف يضع أمام الحكومة الجديدة تحديات مهمة، خاصة ان الوضع الأمني داخل العاصمة مازال يعاني من هشاشة واضحة.
بموازاة هذا الوضع، نشطت الدبلوماسية الإقليمية والدولية دعماً للحكومة الجديدة، فأصدرت باريس بياناً مهماً يدعم هذه الحكومة والمجلس الرئاسي الجديد، وهو بيان أكد على مضمونه وزير الخارجية الفرنسي إيف لودريان في اتصالات هاتفية مع كل من المنفي والدبيبة. كذلك ألتقى المنفي خلال الأيام الماضية السفيرين التونسي والجزائري في طرابلس، وألتقى المبعوث الأممي إلى ليبيا يان كوبيتش المشير خليفة حفتر الجمعة الماضية، كما تم لقاء لافت بين رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، وسفير الإتحاد الأوروبي في ليبيا خوسيه ساباديل.
على المستوى الأمريكي، يبدو أن واشنطن تمهد لانخراط أساسي لها في الملف الليبي، حيث يعتزم عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي – من كلا الحزبين – إعادة تقديم قانون يسمى (قانون دعم الاستقرار في ليبيا). يسعى هذا المشروع إلى تعزيز سياسة الولايات المتحدة في دعم الحل الدبلوماسي للصراع في ليبيا، وينص على معاقبة من يرتكبون انتهاكات لحقوق الإنسان أو يدعمون التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا، كما يتضمن استراتيجية لمواجهة تعاظم الدور الروسي في هذا الملف. من شأن هذا المشروع أيضًا حشد الموارد الأمريكية، بما في ذلك المساعدات الإنسانية، لدعم السلطة الليبية الجديدة. هذا المشروع في حالة تمريره، قد يؤدي بالتبعية إلى ردود فعل روسية موازية، تحاول من خلالها موسكو تثبيت نفوذها الحالي في الملف الليبي، خاصة في المنطقة الشرقية.
التطورات العسكرية لم تغب عن الميدان الليبي خلال الأيام الأخيرة، حيث بدات تتكثف بشكل ملحوظ طلعات طائرات الشحن العسكرية التركية في أتجاه الغرب الليبي، في تذكير دائم بإن مشكلة التواجد العسكري التركي على الأراضي الليبية، وكذا ملف المرتزقة والميليشيات، مازالت بعيدة عن أي حلول جذرية، وأنها تعد تحديات أساسية أمام الحل السلمي في ليبيا، وأمام السلطة الجديدة في ليبيا، أو السلطة التي ستليها عقب انتخابات أواخر العام الجاري، التي يأمل الجميع أن يتم عقدها كي تبدأ البلاد حقبة دستورية وسياسية جديدة كلياً.
باحث أول بالمرصد المصري