روسيا في ليبيا.. سياسات آمنة وخطوات حذرة
تفرض روسيا نفسها اليوم على الساحة الدولية باعتبارها طرفا من أطراف “القوى العظمى” في النظام العالمي الحالي. وتنبع قوتها بشكل أساسي من حقيقة امتلاكها لقدرات عسكرية نووية لا يستهان بها، ما يضعها في مقدمة الدول المؤثرة في صناعة القرار العالمي.
وانطلاقا من هذا المفهوم، ينبغي عند الاطلاع على أي نزاع دولي أو إقليمي في الوقت الحالي، النظر إلى طبيعة الموقف الروسي إزاء هذا النزاع والدور الذي تلعبه تجاه أطراف النزاع.
وبالقياس على الموقف الروسي من القضية السورية، يمكن فهم كيف تسبب التدخل الروسي في الأزمة السورية في تغيير مجرى الحرب واستعادة وجود الدولة السورية واسقاط دولة الخلافة المزعومة.
ولكن الموقف الروسي يختلف ويتباين باختلاف النزاعات والظروف من دولة لأخرى ومن نزاع لآخر، وكي نتبين الموقف الروسي من القضية الليبية يجب النظر في المحاور التالية.
الإطار التاريخي للعلاقات الروسية الليبية
لطالما احتلت ليبيا مكانة تاريخية على قائمة الاهتمامات المبكرة للسياسة الخارجية الروسية، وكانت أهميتها تنبع من الدور الذي تلعبه المعارضة الليبية في الحرب التقليدية بين الإمبراطورية الروسية وتركيا العثمانية، إذ اعتبرت الأوساط السياسية في سانت بطرسبرج خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أنه من الممكن أن يتم استخدام ليبيا لأجل دعم المظاهر المعادية للعثمانيين والتي كان حاكم مصر المملوكي على بك الكبير قد دشنها، مقابل حصول روسيا على قاعدة عسكرية على ساحل البحر المتوسط في هذا البلد، ولكن تجدر الإشارة إلى أن روسيا كانت قد فشلت في تحقيق هذه الرغبة.
وسعت السلطات الروسية لإقامة اتصالات مع حاكم طرابلس على باشا كرامانلي الذي تولى السلطة في الفترة ما بين 1754- 1795، تهدف الى حصول روسيا على جزيرة بومب الواقعة قبالة السواحل الشرقية لليبيا، لأجل استخدامها كقاعدة عسكرية للسفن الحربية الروسية العاملة في البحر المتوسط، ولكن هذه المخططات فشلت كذلك بسبب الضغوط التي خضع لها كرمنلي من السفير الفرنسي في طرابلس، والتي نتج عنها احباط المخططات الروسية.
العلاقات الليبية الروسية في عهد القذافي
احتفظت روسيا لنفسها بمحطات مشرقة في تاريخ علاقاتها المعاصرة مع ليبيا، كان أهمها الزيارة الأولى التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى ليبيا بدعوة من معمر القذافي، والتي تم بعدها توقيع عشر وثائق تعاون مشترك جاء من ضمنها تعزيز العلاقات العسكرية والتقنية والفنية والتعاون في مجالات الأمن القومي، وتعزيز التعاون في مجالات الطاقة.
وحققت الواردات الروسية الى ليبيا في السنوات الأخيرة من حكم القذافي اتجاها تصاعديا مطردا، إذ بلغت قيمة التداول في عام 2017 حوالي 232 مليون دولار، وفي ابريل 2008 أثناء زيارة الرئيس الروسي بوتين الى ليبيا، تم توقيع اتفاقية حكومية دولية حول العلاقات التجارية والاقتصادية والمالية، وقامت روسيا وفقًا للاتفاقية بشطب ديون ليبيا البالغة 4.5% مليار دولار في مقابل حصول الشركات الروسية على عقود بمليارات الدولارات.
كان من أهمها عقد بناء خطوط السكك الحديدية بين سرت وبنغازي والذي كان من المقرر أن يمتد لمساحة 500 كيلو متر وبلغت قيمة العقد 2.2 مليار يورو، بالإضافة الى مذكرات التعاون المشتركة التي وقعتها شركة جازبروم والشركة الوطنية الليبية للنفط والغاز، والتي وافق الطرفان بموجبها القيام بتأسيس مشروع مشترك يعمل في جميع مجالات التعاون في صناعات الغاز والنفط، بدءًا من عمليات الاستكشاف والإنتاج والنقل وصولاً الى المبيعات، بحيث أصبحت المجالات الرئيسية التي تعمل بها شركة جازبروم الروسية في ليبيا هي الاستكشاف والإنتاج.
موقع ليبيا من السياسة الخارجية الروسية
تحاول في الآونة الأخيرة أن تفرض نفسها كـ “وسيط” في النزاعات الدولية، لما كان الانخراط في ليبيا والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من النفوذ عليها، يُعد بمثابة طموحًا مشروعًا بالنسبة لروسيا.
إذ تمثل ليبيا بوابة المرور التي يتسرب عبرها أفواج من الهجرة الغير شرعية إلى أوروبا. وهو ما يعني أن أي نفوذ تحققه روسيا لنفسها هناك سوف ينعكس بوضوح على قدرتها على استخلاص أرباح لنفسها من خلال التعاون مع اللاعبين الدوليين والضغط عليهم، والقدرة على إجبار الجهات الفاعلة الإقليمية والغربية على حد سواء، على التفاعل بنشاط مع السلطات الروسية وتقبل دورها كوسيط يحق له فرض آرائه وبسط توجهاته. خاصة وأن روسيا بحاجة إلى العثور على أوراق ضغط بوسعها أن تستخدمها لأجل اجبارهم على تحييد وتغيير مواقفهم إزاء “الأزمة السورية”، والتي تمثل أولوية قصوى على أجندة الخارجية الروسية. ولهذا السبب تتعاظم رغبات موسكو في وجود مرشح ذو علاقة وثيقة بها على رأس السلطة في طرابلس، لأن أمرًا كهذا بحد ذاته جدير بأن يمنحها نفوذًا تاريخيًا لم يسمح به أحد منذ أيام الدولة السوفيتية.
وفي نفس السياق، تسعى روسيا للوصول الى النفط الليبي، ليس رغبة في الحصول عليه بقدر ما هو رغبة في منع الآخرون من الوصول إليه. كما أن روسيا لديها رغبات في استعادة أواصر العلاقات القديمة التي كانت تربطها بليبيا أثناء وجود القذافي بغرض استكمال عقود البناء والمعدات العسكرية التي كان القذافي قد قام بتوقيعها في أواخر فترة حكمه، مثل صفقة سكك حديد سرت بنغازي التي لا يزال مستقبلها غامض حتى الآن.
تحاول روسيا باستمرار البقاء على مسافات آمنة من كل أطراف النزاع، إذ تقوم انطلاقًا من دورها كوسيط بالتواصل مع كافة الأطراف الفاعلة في ليبيا، وقد تردد كلا الطرفان على موسكو عدة مرات لأجل اجراء المباحثات، كان من أهمها أن التقى سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي بالمشير خليفة حفتر في موسكو، بنوفمبر 2016، ثم أعقب هذا اللقاء بلقاء آخر جمع بينه وبين فايز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني، في موسكو مارس 2017، في محاولات منه لأجل اجراء مباحثات بشأن التسوية الليبية، وأعقب هذه اللقاءات اجتماع آخر في أغسطس من نفس العام، جمع بين الطرفان في موسكو تحت رعاية روسية بهدف التوصل الى بنود مصالحة واضحة بين أطراف النزاع، وتجدر الإشارة أن قضية تسرب المهاجرين الغير شرعيين الى أوروبا عبر ليبيا كانت من أهم القضايا المطروحة على أجندة المفاوضات في ذلك الاجتماع.
حفتر أم السراج.. كيف تميل الكفة نحو حفتر؟!
في عالم السياسة الدولية.. للدعم لغات كثيرة، البعض منها منطوق والآخر مفعول، يظهر في شكل تحركات ملموسة. وعلى الرغم من أن روسيا لم تُعلن حتى الآن بشكل صريح عن دعمها المباشر للمشير حفتر، ومن تضاءل احتمالات قيامها بتقديم الدعم العسكري له، إلا أنها وعلى أصعدة أخرى، قد اتخذت عدة خطوات، يمكن اتخاذها بمثابة مؤشرات على حقيقة توجهاتها السياسية، من ضمنها أن قامت روسيا في 2017 بافتتاح بيت التجارة الروسي الليبي، الذي ترتب عليه أن تم افتتاح عدة مكاتب صغيرة مُتفرعة عنه في بنغازي وطرابلس ومصراته. كما ساعدت موسكو في طباعة الدينار الليبي نيابة عن البنك المركزي “الموالي لخليفة حفتر”.
وفي يوليو 2017، بدأت شركة “روس نفط” في شراء النفط من المؤسسة الوطنية الليبية للبترول، كإشارة على تجديد العقود الموقعة منذ أيام القذافي، وما يمثله هذا النمط من الصفقات من دعم اقتصادي قوي للمشير حفتر ويشير إلى أن الكفة الروسية إزاء النزاع في ليبيا تميل إلى كفة المشير حفتر. وهو التوجه الذي بدا جليًا للغاية، خاصة عندما منعت روسيا في إبريل من العام الحالي، مجلس الأمن الدولي من استصدار قرار بشأن بيان يُطالب قوات خليفة حفتر بوقف تقدمها في طرابلس، وهو ما يعد مؤشر واضح على دعم روسيا الضمني لحفتر.
استنتاجات ورؤية تحليلية
على الرغم من أن روسيا لها اهتمامات واسعة النطاق بالمسألة الليبية، إلا أن القضية الليبية لا تزال بعيدة عن صدارة قائمة الأولويات الروسية في منطقة الشرق الأوسط، إذ تسبقها سوريا على هذه القائمة بمراحل، كما أن موسكو تدرك بوضوح شديد أن خياراتها في التحرك العسكري الفعلي على الأراضي الليبية تعتبر خيارات محدودة للغاية وأن السيناريو الروسي مع سوريا من الصعب أن يتكرر في ليبيا. لعدة أسباب من ضمنها أن دولاً مثل فرنسا وإيطاليا تتمتعان بنفوذ أكبر هناك بالإضافة إلى أن المكاسب المحتملة من وراء هذا النوع من التدخل لا تكاد تستحق كل هذا العناء، ولا يتطلب الأمر أن يقوم بوتين بإقحام نفسه في مشكلات إضافية مع الغرب لأجلها.
وفي ظل الموقف الأمريكي المتردد حيال الاختيار الصريح بين فايز السراج والمشير حفتر، والنفوذ الفرنسي الإيطالي الكثيف داخل ليبيا وما يمثله “غياب الاستقرار” عن الأراضي الليبية من محور رئيسي داعم لمصالحهم هناك. تملك روسيا رغبات مغايرة للمعسكر الغربي، وتكاد في رؤيتها تجاه ليبيا تتفق مع القاهرة اتفاقًا كبيرًا، هذا لأن كلاهما تسعيان إلى فرض الأمن والاستقرار داخل ليبيا وما سوف يترتب عليه من القضاء على النزاعات المسلحة وما خلقته من موجات إرهاب وتطرف وعنف، كانت قد تسربت بالفعل إلى مصر عبر الحدود المشتركة بين البلدين.