
مستقبل “الجزائر الجديدة” في الذكرى الثانية للحراك الشعبي
تمر الذكرى الثانية للحراك الشعبي الذي شهدته الجزائر (فبراير 2019) وسط واقع سياسي واقتصادي وشعبي معقد؛ إذ تتجدد المظاهرات إحياءً للمطالب التي لم تتحقق، واعتراضًا على الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه الجزائر والذي فاقمته تداعيات جائحة كورونا. وهو ما سعى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي غاب عن البلاد نحو ثلاثة أشهر إلى التعاطي معه عبر عدد من القرارات التي تتماس مع بعض تطلعات الحراك وتتوافق مع ما أعلنه إبان ترشحه للرئاسة من تحقيق ما طالب به الحراك.
محفزات الحراك قائمة
كانت مقاطعة قطاعات واسعة من الشعب الجزائري وخاصة الشباب للانتخابات الرئاسية التي جرت في ديسمبر 2019 -وشهدت إقبالًا من 39% فقط من الجزائريين وأسفرت عن فوز عبد المجيد تبون بنسبة 58% من الأصوات- مؤشرًا على أن مظاهر الحراك المتمثلة في المظاهرات والمسيرات الأسبوعية التي تشهدها عدة ساحات في الجزائر العاصمة وبعض الولايات ستتواصل، لا سيّما بعد أن عدّ الحراك انتخاب تبون امتدادًا للنظام السياسي القديم.
وعلى الرغم من أن القيود التي فرضتها جائحة كورونا قد أدت إلى تعليق هذه المظاهرات فإن محفزات الحراك ظلت قائمة، بل أُضيفت إليها محفزات أخرى. ولذلك خرج الآلاف من الجزائريين في مظاهرات (16 فبراير) بمدينة خراطة التي شهدت شرارة انطلاق الحراك؛ لإحياء الذكرى الثانية له، والتنديد بالنظام السياسي القائم، والتمهيد لمظاهرات أوسع في ذكرى الحراك (22 فبراير) وتتمثل أبرز محفزات استمرار الحراك في:
- الأوضاع الاقتصادية
يمثل تراجع الوضع والأداء الاقتصادي في الجزائر أحد أهم أسباب استمرار الاستياء الشعبي. وذلك بعد التراجع العام للمؤشرات الاقتصادية الذي شهدته الجزائر خلال عام 2020 بفعل انخفاض أسعار المحروقات بمعدل غير مسبوق والتي تمثل 60% من ميزانية الدولة و94% من إجمالي عائدات الصادرات. فضلًا عن التداعيات الاقتصادية التي خلّفها انتشار فيروس كورونا المستجد، وتأخر إجراء إصلاحات عميقة لبنية النظام الاقتصادي الجزائري.
ونتيجة لذلك، أعلنت الحكومة (مايو 2020) خفضًا للإنفاق العام بنسبة 50%، وتوقعت في مشروع الموازنة العامة لعام 2021 والذي أقره البرلمان (17 نوفمبر 2020) أن يصل عجز الموازنة إلى 13.57% بعدما كان 10.4% عام 2020، مع انخفاض احتياطي النقد الأجنبي إلى 50.4 مليار دولار وتوقعه انخفاضه إلى 46.84 مليار دولار بنهاية 2021. وأدى التراجع في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.6% بنهاية 2020 بسبب انخفاض أسعار النفط إلى خفض تكلفة مشتريات السلع والخدمات في موازنة 2021 بنسبة 19.4%.
وقد فاقمت هذه المؤشرات الاقتصادية المتراجعة من الأزمة المعيشية للجزائريين، وأدت إلى ارتفاع نسبة الفقر –حسب إحصاءات غير رسمية- إلى 38% خلال 2020، وظهور نقص في بعض السلع الأساسية وارتفاع أسعارها، وهو ما عمّق من مظاهر السخط الشعبي.
- غياب الرئيس الجزائري
مثّلت حالة اللايقين التي غلبت على المشهد السياسي الجزائري خلال فترة غياب الرئيس عبد المجيد تبون عن البلاد بعد إصابته بفيروس كورونا المستجد وسفره إلى ألمانيا لتلقي العلاج دافعًا نحو زيادة السخط الشعبي تجاه السلطة الجزائرية. إذ أعاد مرض الرئيس الجزائري إلى الأذهان مرض الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، والصراعات الدائرة داخل أروقة الحكم.
ولذلك صعّد ناشطون في الحراك من هجومهم على السلطة الجزائرية مستدعين كل ملابسات الماضي في ظل الغموض الذي يلف المشهد، وداعين إلى عودة الحراك الشعبي استباقًا لأي تحضيرات داخل أروقة الحكم في غياب تبون. ورغم عودة الرئيس من ألمانيا (29 ديسمبر 2020) فإن سفره مجددًا (11 يناير) لاستكمال العلاج وإجراء جراحة في القدم حسبما أعلن بنفسه قد زاد المشهد ضبابية وغموضًا، وزاد من الحشد للتظاهر.
تفكيك الماضي
عمد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون منذ انتخابه (ديسمبر 2019) إلى تأكيد تلبية مطالب الحراك الشعبي وقطع الصلة بالنظام القديم، وبناء ما أسماه “الجزائر الجديدة”. وفي سبيل ذلك أعلن يوم 22 فبراير يومًا وطنيًا، وطرح تعديلًا للدستور بوصفه كان أحد أهم مطالب الحراك شمل تقليصًا لصلاحيات رئيس الجمهورية وزيادة لمساحة الحريات وتأسيس الأحزاب.
وقد أعطى ضعف الإقبال والمشاركة في الاستفتاء على الدستور (1 نوفمبر 2020) والذي بلغ 23.7% مؤشرًا على ضرورة اتخاذ قرارات وإجراءات أخرى لتلبية تطلعات الجزائريين وكسر جدار عدم الثقة السميك بين السلطة والمواطنين. بدأ هذه الإصلاحات قبل سفره إلى ألمانيا ببدء الإعداد لقانون الانتخابات الجديد الذي من المنتظر المصادقة عليه وإصداره خلال الأسابيع المقبلة.
واتخذ الرئيس الجزائري بعد عودته من ألمانيا عددًا من القرارات والإجراءات الأخرى بهدف تهدئة الشارع الثائر وإثبات تفكيك علاقة النظام الحالي بالنظام السابق. وتمثلت هذه الإجراءات في أولًا: إجراء حوار ومشاورات شاملة مع الأحزاب (14 و15 فبراير) للاتفاق على خريطة سياسية للمرحلة المقبلة. وهو ما نتج عنه ثانيًا: اتخاذه قرارًا (18 فبراير) بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، وثالثًا: التوقيع على مرسوم رئاسي بالعفو عن العشرات من “معتقلي الحراك”، ورابعًا: إعلانه (21 فبراير) إجراء تعديل وزاري شمل 10 وزارات.
وعلى الرغم من أهمية هذه القرارات وتماسها بشكل كبير مع مطالب الحراك الشعبي، ولا سيّما حل البرلمان الذي كان مستمرًا منذ عهد الرئيس السابق بوتفليقة وطالته اتهامات كثيرة بالفساد، والإفراج عن عدد من “معتقلي الحراك”، فإنها لم تسهم في تهدئة الحراك في ذكراه الثانية؛ إذ خرج الآلاف من الجزائريين (22 فبراير) في مظاهرات حاشدة أكدوا فيها مطالبهم التي رفعوها منذ عامين، وعبّروا عن رفضهم لسياسات النظام الحالي ووصفه بأنه امتداد للنظام السابق، بعدما شمل التعديل الوزاري الذي أعلنه تبون عودة بعض الأسماء التي شغلت مناصب وزارية في عهد بوتفليقة.
مستقبل من عدم اليقين
تضعنا الحالة الجزائرية الحالية أمام مشهد ستستمر فيه سمات عدم اليقين وعدم الاستقرار السياسي، إذ يبدو أن القيادة الجزائرية ستواصل السير نحو تعديل المناخ السياسي وفق سياقات التمسك بثوابت الحراك الشعبي ومطالبه ورؤاه الثورية. بيد أن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تشهدها البلاد، وحالة انعدام الثقة بين الشعب ومكونات الحكم، والصراع بين مراكز القوة في السياسة الجزائرية، لا سيّما وأن مؤسسات الدولة الصلبة والتي تشمل المؤسسة العسكرية ومجتمع الاستخبارات مازالت حاضرة بقوة ولها دور فاعل في رسم شكل الحياة السياسية الجزائرية. كلها عوامل تدفع إلى القول بإن استقرار السياسة الجزائرية لن يكون أمرًا يقيني الحدوث خلال 2021.
وتمثل الانتخابات النيابية المبكرة التي من المزمع إجراؤها خلال الشهور المقبلة محطة فاصلة في المشهد السياسي الجزائري؛ إذ يمكن أن تفرز واقعًا سياسيًا جديدًا بمشاركة أوسع للشباب وتضمينًا للمعارضة وتشكيلًا لطيف سياسي جديد غير ذي صلة بما استقر في البلاد خلال العقود الماضية بناء على ما استقر في قانون الانتخابات الجديد من تعديلات تسعى للقضاء على مظاهر الفساد وتفتح الباب لمشاركة سياسية أوسع.
وتبقى آمال نجاح السلطة السياسية الجزائرية في اجتذاب ثقة الشعب معقودة على مدى نجاحها في تحقيق اختراق إيجابي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي لتخفيف الضغوط الواقعة عليها بفعل تدهور الوضع الاقتصادي وعدم الثقة في احتمالات إجراء إصلاح واسع في بنية النظام السياسي وإعادة هيكلته.
باحث أول بالمرصد المصري