
كيف يقرأ الخليج العربي توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة نحو الشرق الأوسط
عرض: محمد منصور
يتناول الباحث الإماراتي المتخصص في العلاقات الدولية، محمد خلفان الصوافي، في ورقة السياسات التي أعدها تحت عنوان “قراءة خليجية لتوجهات بايدن نحو الشرق الأوسط”، والتي تم نشرها الشهر الجاري على موقع مركز “تريندز” للبحوث والدراسات، التوجهات المحتملة للإدارة الأمريكية الجديدة حيال الشرق الأوسط بشكل عام، ودول الخليج بشكل خاص، في ظل التغيرات الإقليمية التي طرأت على المنطقة خلال الأعوام الأخيرة، والتباين النسبي في توجهات الساكن الجديد للبيت الأبيض، حيال كيفية التعامل مع أزمات الشرق الأوسط.

– يبدأ الباحث ورقته بمقدمة، أشار فيها إلى إرهاصات إعلان فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأمريكية التي أجريت في الثالث من نوفمبر 2020، والتي كان منها بدء تصاعد الأصوات السياسية الأمريكية والدولية التي تتناقش وتتجادل حول حدود التغيير المتوقع في سياسات الولايات المتحدة الداخلية والخارجية، لا سيما أن بايدن دأب خلال حملته الانتخابية على إعلان رفضه لمواقف سلفه ترامب من بعض قضايا السياسة الخارجية، وعزمه على تغيير هذه المواقف التي رأى أنها أثرت سلباً على مصالح البلاد الوطنية.
وحسب رأي الباحث، فإن القضية التي تقع في مقدمة القضايا التي ستشهد تغييرات في مواقف الولايات المتحدة، هي قضية الملف النووي الإيراني، التي ربما تشهد عودة أمريكية إلى الاتفاق النووي الذي أبرم عام 2015، بعدما كان ترامب قد أعلن انسحاب بلاده منه في مايو 2018. هذه التغيرات ستنعكس بشكل قطعي – خاصة في ما يتعلق بالملف الإيراني – على منطقة الخليج بشكل خاص، والشرق الأوسط بشكل عام، وهو ما يجعل من الضروري فحص هذه التغيرات المتوقعة، وآثارها على المنطقة.
سياسة واشنطن الخارجية بين الجمهوريين والديمقراطيين
– بعد ذلك بدأ الباحث في عرض السياسات الأمريكية المتوقعة، في ضوء التباينات الأساسية في توجهات الحزبين الديموقراطي والجمهوري، حيث يرى أنه توجد فوارق رئيسية عامة بين توجهات الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فالأول يميل نحو التوجهات اليمينية المحافظة، ويرتبط بقيم العدالة والحرية ومبدأ “البقاء للأصلح”؛ أما الثاني فهو يساري ليبّرالي التوجهات، عادة ما يرتبط بالأفكار التقدمية المتعلقة بالديمقراطية والحريات. هذه التباينات تنعكس بالتأكيد على سياسات الحزبين الداخلية والخارجية، فداخلياً تتباين سياساتهما بشأن قضايا متنوعة مثل الضرائب والرعاية الصحية وقوانين حيازة الأسلحة وغيرها، أما على المستوى الخارجي، تتباين سياساتهما تجاه قضايا عدة، مثل: الهجرة والإنفاق العسكري، وحدود التدخل الأمريكي في الشؤون الدولية، خاصة في الدول التي تقع ضمن دائرة المصالح الأمريكية.
– طرح الباحث في هذا الصدد بعض الأمثلة التي تظهر هذه التباينات:
1- الإنفاق العسكري: يميل الديمقراطيون دوماً إلى تخفيضه، بينما يتمسك الجمهوريون بالحفاظ على مستوياته الراهنة، لكنهما في المقابل يتفقان على أولويات أساسية، مثل حماية الجنود الأمريكيين، مما أدى حسب رأس الباحث إلى تقارب وجهتي نظر كلا الحزبين خلال السنوات الأخيرة حيال التوجهات العامة لحدود وطبيعة التواجد العسكري الأمريكي في الخارج. حيث يتفق ا الحزبان على ضرورة التقليل من هذا التواجد، للحد من احتمالات تعرض القوات الأمريكية للخطر، خاصة في المناطق الملتهبة التي تشهد نزاعات مسلحة معقدة مثل منطقة الشرق الأوسط.
2- الهجرة: يؤيد الجمهوريون تشديد الرقابة على الحدود، وفرض قيود على الهجرة الوافدة من دول معينة بشكل خاص؛ في المقابل يميل الديمقراطيون إلى تطبيق مبدأ “الهجرة المفتوحة”، مع ضوابط معتدلة، ويرفضون تطبيق اجراءات واسعة المجال، مثل الترحيل الجماعي أو منع الهجرة بشكل عام.
– بشكل عام، يرى الباحث أن منطلقات الجمهوريين في ما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية، تنبع من رغبتهم في تحقيق المكاسب المشتركة، وذلك بإستخدام كافة الوسائل المتاحة، في حين يسعى الديمقراطيون إلى الحفاظ على التوازن بين تحقيق المصالح الأمنية والاقتصادية الأمريكية من جهة، ومن جهة أخرى الحفاظ على القيم الأخلاقية التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تجسدت هذه الاختلافات بشكل واضح خلال رئاسة ترامب، ليس فقط بالمقارنة مع سلفه الديمقراطي أوباما، بل أيضاً مقارنة مع كل الرؤساء الجمهوريين السابقين؛ ويرى الباحث هنا أن ترامب بالغ كثيراً في توجهاته اليمينية الجمهورية، بشكل أكبر بمراحل من كافة الرؤساء الجمهوريين الذين سبقوه، وهذا يصل بنا إلى خلاصة مفادها أن سياسات جو بايدن سوف تكون بالقطع مختلفة تماماً عن سياسات ترامب.
– في هذا الإطار يرى الباحث أنه يمكن رصد اختلافات واضحة في طريقة تعاطي السياسة الخارجية الأمريكية مع قضايا منطقة الشرق الأوسط، الأمر الذي يجعل المنطقة مرشحة لتغيرات حقيقية في منهج التعامل الأمريكي معها تحت رئاسة جو بايدن ، أول هذه الاختلافات اللافتة تتجلى في انتهاء العمل بقاعدة ترامب “ثمن مقابل خدمة”، والانتقال إلى معادلة أخرى متعددة المتغيرات والعوامل،سيكون التأثير الأكبر فيها بالطبع للحسابات والمكاسب البراغماتية، دون إغفال الجوانب القيمية والأخلاقية المصاحبة تقليدياً للإدارات الديمقراطية؛ مثل الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان والقوة الناعمة، وبالتالي من المتوقع أن تعود الطرق الدبلوماسية إلى تصدر أدوات تنفيذ السياسة الأمريكية في المنطقة، سواء في ما يتعلق بالملفات المثارة حالياً بصفة عاجلة مثل الملف النووي الإيراني، أو بالنسبة للملفات التقليدية مثل عملية السلام والقضية الفلسطينية.
تركة ترامب.. تحديات تواجه سياسة بايدن الخارجية
– يرى الباحث أن المرحلة الأولى من ولاية بايدن، ستكون فترة مكرسة من أجل تقليص التداعيات المترتبة على التحديات الداخلية الناتجة عن نهج الرئيس السابق ترامب، ومنها الانقسام الحاد الذي أحدثه ترامب في النسيج الأمريكي الاجتماعي والسياسي بل والمؤسسي، وكذا التحديات الخارجية التي تتصل بالعلاقات الأمريكية مع الحلفاء خاصة في أوروبا، وهي العلاقات التي تضررت في عهد ترامب.
1- إنقسام داخلي في المجتمع الأمريكي: فيما يتعلق بالشأن الداخلي، كانت سنوات ترامب الأربع حافلة بالأحداث والتطورات التي عززت انقسام المجتمع الأمريكي ودفعت به إلى دائرة العنف الأهلي والمجتمعي أكثر من مرة، فيما جاءت مواقف ترامب نفسه معززة لهذا الانقسام وداعمة له. فمن تفشي العنصرية الذي قاد إلى موجة الاضطرابات الواسعة التي شهدتها الولايات المتحدة بعد مقتل الأمريكي الأسود جورج فلويد في يونيو 2020 وكشفت عن عمق التفاوت الاجتماعي داخل المجتمع، إلى التفشي الواسع لفيروس كورونا المستجد والذي كشف أيضاً عن تفاوتات اجتماعية وأثار غضب فئات مجتمعية واسعة وأدى إلى تراجع الاقتصاد وزيادة معدلات البطالة، وصولاً إلى الانقسام السياسي الواسع الذي أوجدته نتائج انتخابات نوفمبّ 2020 وتحريض ترامب ضدها بعد اتهامات بالتزوير، والتي قادت إلى عملية الاقتحام غير المسبوقة لمبنى الكابيتول هيل وما رافقها من أحداث عنف.
– هذا الانقسام الحاصل في المجتمع الأمريكي يقتضي تدخلاً سريعاً من قبل بايدن لمواجهته، وهو أمر قد يجعل الاهتمام بحل هذه المشكلة أكثر إلحاحاً على ما عداها من القضايا و يحظى بالأولوية الأولى في أجندة بايدن السياسية، وهو ما بدا واضحاً في خطاب بايدن في يوم التنصيب حيث كان تركيزه الرئيسي على وحدة أمريكا؛ من هنا، ومن منظور خليجي وشرق أوسطي، ينبغي الإقرار بأن الداخل الأمريكي سيكون على رأس قائمة التحديات والانشغالات الرئاسية الأمريكية لفترة ربما تمتد إلى بضعة أشهر. و يجب أن يؤخذ هذا الأمر الذي في الاعتبار عند التفكير في مستوى ومدى الاهتمام والتركيز المطلوبين من إدارة الرئيس جو بايدن في ما يتعلق بملفات الخليج والشرق الأوسط وقضاياه، ضمن استحقاقات خارجية كثيرة أخرى مهمة.
2- استعادة تحالفات الخارج: وعد بايدن طوال حملته الانتخابية بالعمل على استعادة موقع الولايات المتحدة واحترامها في العالم، وإعادة علاقات التعاون مع الحلفاء، ومواجهة التوسع الروسي، والعودة إلى منظمات واتفاقيات دولية. وقد شرع بايدن بالفعل في تنفيذ تلك الوعود من اليوم الأول له، غير أن الهزة التي أصابت التحالفات الأمريكية الخارجية، وصورتها الدولية ليس من السهل ترميمها بمجرد عودتها إلى منظمة أو اتفاقية، فقد أدت سياسات ترامب وقراراته غير المتوقعة إلى ابتعاد كثير من الدول عن الاعتماد على التعاون مع الولايات المتحدة في تأمين مصالحها أو توفير متطلباتها، خصوصاً العسكرية مثل الأسلحة والمعلومات الاستخبارية، والاتجاه إلى مصادر تسليح مختلفة وإقامة روابط تعاون وتنسيق مع أطراف وقوى عالمية أخرى. كما أن الاستياء الذي تسببت فيه بعض قرارات ترامب لدى الشعوب الإسلامية، خاصة قرارات منع الدخول إلى الولايات المتحدة، جعلت حالة الريبة وعدم الثقة تخيم على الصورة الذهنية للولايات المتحدة الأمريكية لدى مئات الملايين في مختلف دول العالم لفترة، وهي حالة يرى الباحث أنها ستطول إلى حين تتمكن إدارة جو بايدن من زرع الثقة في النموذج الأمريكي مجدداً.
– نظراً لما تقدم، سيجد بايدن نفسه مطالباً بتحمل أعباء تعويض أطراف دولية كثيرة عن الخسائر المعنوية والمادية التي تكبدتها بسبب قرارات ترامب، بدءاً من أوروبا ودول حلف الناتو التي طالبها ترامب برفع نسبة مساهمتها في ميزانية الحلف، وانتهاء بالصين التي فرض ترامب عليها حرباً تجارية شرسة، وحوَّل علاقة الندية الأمريكية معها من حالة التنافس الجزئي في مسارات وملفات محددة إلى وضعية الصراع المفتوح. الأمر ذاته ينطبق على دول الشرق الأوسط، فباستثناء إسرائيل التي لم تتعرض لأي خسائر أو تهديدات بسبب قرارات ترامب، وجدت معظم دول المنطقة نفسها مطالبة بتقديم تنازلات مسبقة مقابل التحالف مع واشنطن والتنسيق معها، ما يوجب على بايدن استعادة معادلة التعاون والتنسيق مع دول المنطقة، لتأمين المصالح المشتركة ومواجهة التهديدات بشكل مشترك، خاصة ملف الإرهاب والتطرف، والاستقرار والسلام الإقليمي الذي يعني بالضرورة توفير بيئة إقليمية آمنة لإسرائيل ولكل دول المنطقة.
سياسة بايدن الخارجية تجاه الشرق الأوسط والخليج
– في ما يتعلق بسياسات بايدن الخارجية تجاه الشرق الأوسط ومنطقة الخليج، يرى الباحث أن بايدن على معرفة تامة بهما وبقضاياهما وأزماتهما بحكم خبّرته السياسية الطويلة، خاصة حين كان نائباً للرئيس السابق أوباما طيلة ثمانِ سنوات؛ ولذا سيتعامل معهما خلال ولايته الرئاسية من منطلق هذه الخبّرة، بمساعدة فريق سياسي يشترك معه في التوجهات والرؤى وهو أمر يختلف تماماً عمَّا كان عليه الحال في عهد ترامب الذي شهد أحياناً حالة من الخلاف بينه وبين بعض أعضاء إدارته.
– أبرز ملامح سياسة بايدن الخارجية تتمثل في أتباعه سياسة خارجية أكثر تماسكاً، فقد كان واضحاً منذ اللحظة الأولى لترشح بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكية، أنه سيعمل من خلال فريق عمل يضم أعضاء متفاهمين ومتوافقين في توجهاتهم، لكل منهم تاريخاً في أوجه العمل السياسي سواء الدبلوماسي أو القانوني أو غيرها، وما يميز هؤلاء الأعضاء، أنهم – تقريباً وبلا استثناء – خدموا في إدارات ديمقراطية سابقة، خصوصاً في إدارتي أوباما، وهو ما قد يجعل توجهاتهم ومواقفهم من قضايا السياسة الخارجية، معروفة مسبقاً إلى حد بعيد. المغزى المهم هنا، أن السياسة الخارجية الأمريكية المنتظرة في عهد جو بايدن، ليست خارج التوقعات، ويمكن التنبؤ باتجاهاتها العامة والحدود التي قد تصل إليها أو تتوقف عندها، إلى حد بعيد. ويرى الباحث أن هذه النقطة تعد أساسية بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط عموماً، والخليج العربي خصوصاً، حيث التطورات متلاحقة والمشكلات معقدة ومتشابكة، حيث أنها قد تساعد في إتاحة الفرصة لدول المنطقة لاستشراف المواقف الأمريكية من مختلف القضايا أو على الأقل استشراف ملامح هذه المواقف ومعرفة المنطلقات التي تنطلق منها.
– في ما يتعلق بأجندة الشرق الأوسط الخاصة ببايدن، يتوقع أن تتضمن العديد من القضايا الملحة التي تتطلب منه سرعة النظر إليها ووضع حلول بشأنها. وكان بايدن قد تحدث عن بعض هذه القضايا في أكتوبر 2016، أي قبل إجراء مجلة “Foreign Affairs” مقابلة معه قبيل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2016، وقبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض، حيث كتب في مقاله قائلاً: “سيكون على عاتق الإدارة المقبلة عدة أمور: توحيد نصف الكرة الغربي، وتعميق تحالفاتنا وشراكاتنا في آسيا، وإدارة العلاقات المعقدة مع القوى الإقليمية، والتصدي للتحديات الخطيرة العابرة للحدود مثل تغير المناخ والإرهاب”. ما كتبه بايدن كان مؤشراً على نزوعه إلى الانفتاح على العالم، والانخراط في مشكلاته، والتنسيق بين واشنطن والعواصم المهمة والضرورية لإدارة الشؤون العالمية والإقليمية. وقد كشفت تصريحات بايدن المتلفزة بشأن سياسته الخارجية، عن توجهات جديدة وأهداف عديدة تختلف عما كان سائداً في عهد إدارة ترامب، وهو ما يشير إلى أنه سيتعاطى مع مختلف القضايا والأزمات بمنظور يختلف عن منظور الإدارة السابقة، الأمر الذي سينطبق بالتأكيد على منطقتي الشرق الأوسط والخليج.
– ويمكن، في هذا السياق، تسليط الضوء على مواقف بايدن من قضيتين رئيسيتين تشغلان المنطقة وهما أزمة الملف النووي الإيراني وقضية السلام الإقليمي:
أ- الملف النووي الإيراني : كشف بايدن أنه يريد التفاوض مع إيران على نطاق واسع بحيث يكون الاتفاق النووي المبّرم عام 2015 نقطة بداية وليس الغاية النهائية لأي تفاهمات. وقبل إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية بأسابيع، كتب بايدن مقالاً لشبكة “سي إن إن”، تناول فيه رؤيته لقضايا وجوانب التعامل المطلوب مع إيران. وكان من بين ما أدرجه، توسيع بنود الاتفاق النووي، وبحث البّرامج الصاروخية، إضافة إلى ملفات سياسية أخرى، بعضها إقليمي كنفوذ إيران في الشرق الأوسط، وبعضها داخلي مثل انتهاكات حقوق الإنسان والمعتقلين السياسيين في إيران. ويبدو أن بايدن تحرك مبكراً في هذا الاتجاه، وحاول تهيئة الظروف لهذا التحرك فأطلع عليه إسرائيل، إذ أظهرت أنباء أُزيح عنها الستار قبل توليه رسمياً المنصب الرئاسي بأيام قليلة، أن مسؤولي إدارة بايدن كانوا قد بدأوا بالفعل إجراء محادثات هادئة مع إيران بشأن العودة إلى الاتفاق النووي المبّرم عام 2015؛ ومما يشير إلى أهمية وجدية تلك الاتصالات والمباحثات، أن الجانب الأمريكي أطلع إسرائيل عليها.
– تبدو الأمور، في المجمل، وكأنها تسير باتجاه تفاهمات جديدة بين إيران وإدارة بايدن، ولكل من الطرفين دوافعه، فطهران تتطلع بشدة إلى رفع العقوبات لتخفيف الأعباء الاقتصادية التي تفاقمت بفعل أزمة فيروس كورونا، بينما يرى بايدن أن الانسحاب من الاتفاق النووي كان أحد أهم أسباب التوتر الإقليمي في الشرق الأوسط، وتعريض الجنود الأمريكيين للخطر. غير أن تلك الرغبة المتبادلة في إحياء الاتفاق النووي وتجديده، تصطدم بمجموعة من العقبات؛ تشمل جوانب إجرائية مثل تحديد الطرف الذي يبدأ الخطوة الأولى أو بتعبير أدق من سيقدم التنازل الأول، بمعنى هل تخفف الولايات المتحدة الأمريكية من العقوبات أولاً أم توقف طهران نشاطاتها النووية المناقضة للاتفاق؟. ثمة عوامل موضوعية أخرى، قد تبطئ وتيرة التقارب الأمريكي – الإيراني، من أهمها القيود الداخلية على القرار الإيراني، والتي تشمل موازين القوى والنفوذ المؤسسي الذي يميل إلى صالح المحافظين على حساب الإصلاحيين الأكثر ميلاً إلى الانفتاح على العالم والتفاهم مع مختلف القوى الغربية بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.
– تبرز في هذا السياق أيضا أهمية عدة عوامل منها عامل الوقت، حيث ستجرى انتخابات الرئاسة الإيرانية في يونيو 2021 ، وقد تأتي برئيس جديد، أشارت التوقعات إلى أنه قد يكون من الحرس الثوري المحسوب على معسكر المحافظين المتشددين، وهذا الوضع يعني أن هناك أشهراً قليلة فقط أمام واشنطن وطهران للتفاوض، ليس بالضرورة بهدف التوصل إلى اتفاق، وإنما لتحديد أهداف وأجندة التفاوض وإحداث تقدم ولو جزئي في مساراتها. مواقف الأطراف الأخرى المعنية بالملف النووي الإيراني تمثل أيضاً عامل مهم من العوامل التي يجب أن تضعها إدارة بايدن في اعتبارها، بما في ذلك مواقف بعض دول المنطقة وإسرائيل، إضافة إلى العواصم الأوروبية الرئيسية، ففي حين تتجه إدارة بايدن بقوة إلى التماس جوانب التفاهم مع إيران، ستجد نفسها مطالبة بتقديم ضمانات إلى دول الخليج العربية وإسرائيل، بألا تكون تلك التفاهمات على حساب أمن ومصالح تلك الدول. كما أنه سيكون عليها، في الوقت ذاته، أخذ وجهة نظر الأوروبيين في الاعتبار.
ب- السلام الإقليمي: اهتم ترامب بترجمة التوجه السلمي التعاوني بين دول المنطقة إلى واقع ملموس، واتفاقات مؤطرة له، تمهيداً لمزيد من عمليات الانسحاب الأمريكي من المنطقة، سياسياً وليس فقط عسكرياً، وذلك عقبّ “هيكلة” وتثبيت واقع إقليمي جديد، يتسم بدرجة عالية من الاستقرار والتماسك الذاتي، بما يقلل الحاجة إلى الحضور والرعاية الأمريكية المباشرة والمستمرة للأوضاع الإقليمية في الشرق الأوسط. ومن المتوقع، في هذا الصدد، أن يسير بايدن في الطريق نفسه، اتساقاً مع توجهاته الخارجية العامة بالتحلل من أية التزامات تدخلية مكلفة لواشنطن، في أقاليم وملفات لم تعد المصالح الأمريكية فيها تستوجب تحمل تلك التكلفة، وذلك دون الإخلال بموقفه المبدئي بالانفتاح على العالم، واستعادة التحالفات الأمريكية الدولية، وإعادة بناء ثقة الحلفاء في واشنطن. ويأتي في هذا السياق، قرار وزارة الدفاع الأمريكية بضم إسرائيل إلى القيادة المركزية الأمريكية، بعد اتجاه عدد من الدول العربية إلى إقامة علاقات مع تل أبيب، ويعني هذا تغيير آليات العمل والترتيبات العسكرية المرتبطة بالتهديدات المحتملة في نطاق عمل القيادة، الأمر الذي يتماشى مع التوجه الأمريكي العام بالتخفيف من الأعباء الأمنية والعسكرية المباشرة في الشرق الأوسط، وزيادة الاعتماد على حلفاء واشنطن في المنطقة. وعلى الرغم من وجود توجه قوي لدى بعض المحللين وخبّراء السياسة الخارجية الأمريكيين، بضرورة استمرار الانخراط الأمريكي المباشر في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن هذا التوجه ما يزال غير كافٍ لدفع دوائر صنع السياسة الخارجية الأمريكية إلى مراجعة سياسة الانسحاب من المنطقة والاتجاه شرقا.
– في ما يتعلق بملف السلام في منطقة الشرق الأوسط، ما تزال القضية الفلسطينية تمثل حجر الزاوية في بناء أساس قوي للسلام والاستقرار الإقليمي. وقد بات واضحاً من أجندة بايدن الانتخابية وتصريحات أركان إدارته، أنه سيتبنى توجهات سياسية قريبة من تلك التي تبناها الديمقراطيون في عهد الرئيس أوباما، وأنه سيسعى إلى إنهاء حالة القطيعة وخفض مستوى التوتر، واستئناف العلاقات مع السلطة الفلسطينية. كما سيسعى بايدن إلى تحقيق هذا العمل على تعزيز الحيوية الدبلوماسية، واستئناف ضخ المساعدات الأمريكية للسلطة الفلسطينية، وفتح مكاتب “منظمة التحرير الفلسطينية” التي أغلقتها إدارة ترامب في الولايات المتحدة، ومن المتوقع أن تربط إدارة بايدن هذه الإجراءات باستئناف المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، كما ستتبنى إدارة بايدن حل “الدولتين” كإطار عام لمعالجة القضية الفلسطينية، على أن تجري تلك المعالجة وفق هذا المدخل، بالحوار والتفاوض بين الأطراف.
منطقة الخليج وسياسة بايدن الخارجية
– في الجزء الأخير من هذه الورقة، يعرج الباحث على مستقبل العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة، حيث يرى أن دول المجلس خلال العقود الماضية، تعاملت مع ستة رؤساء أمريكيين، أربعة منهم جمهوريون هم رونالد ريجان، جورج بوش الأب، جورج بوش الابن، دونالد ترامب، واثنان ديمقراطيان هما بيل كلينتون وباراك أوباما. وفي المحصلة، لم تتعرض العلاقات بين الجانبين عبّر مختلف المحطات السابقة إلى انقطاع أو جمود. إستقرار هذه العلاقات لا يمكن إيعازه فقط إلى مرونة أو حنكة أي من الطرفين أو كليهما في إدارة العلاقات، خصوصاً في ظل تباين التطورات التي شهدتها العقود الأربعة الماضية، واختلاف المنطلقات والتوجهات العامة للرؤساء الأمريكيين بين ديمقراطيين وجمهوريين؛ بل أيضاً إلى المصالح الاستراتيجية المشتركة التي تمكنت من تحصين علاقات الجانبين خلال كافة التحديات الماضية، وذلك على الرغم مما أثبتته الخبّرة العملية من أن الرؤساء الجمهوريين كانوا الأكثر قرباً من المواقف والسياسات الخليجية، خاصة على الصعيد الأمني، من الرؤساء الديمقراطيين.
– لهذا يرى الباحث أن هذا التاريخ الحافل من العلاقات بين الجانبين، وطبيعة هذه العلاقات التي اتسمت بالديناميكية والتنوع والاستقرار، توفر لدول مجلس التعاون الخليجي، القدرة الكافية للتعامل بفعالية مع إدارة بايدن، التي تُعتبّر إلى حد بعيد وريثة لإدارة أوباما. ينبغي على هذه الدول استباق ما قد يترتب على توجهات تلك الإدارة وسياستها من تداعيات على أمنها، وهو أمر يمثل مصلحة عليا، بالنظر إلى خطورة التهديدات التي تحيق بها، سواء الراهنة المتمثلة في استفحال الخطر الإيراني بشكل مباشر أو غير مباشر، وانتشار التطرف والعنف وبؤر النزاعات المسلحة في المنطقة أو المتوقعة جراء تعاظم الخطر الإيراني حال التوصل إلى تفاهمات أمريكية/غربية مع طهران دون مراعاة المصالح والاحتياجات الخليجية/العربية الأمنية في الدرجة الأولى.
– وهنا يذكر الباحث التجربة السابقة لدول مجلس التعاون الخليجي مع إدارة أوباما، حين تم التفاوض والتوافق بين الولايات المتحدة وإيران حول الاتفاق النووي، بمعزل عن أي دور لدول المجلس، وهو ما كان خطأً فادحاً يجب
بذل جهود كبيرة وعاجلة مع إدارة جو بايدن، كي لا تقوم بتكراره مرة أخرى.وهنا يرى الباحث أنه من الضروري توخي الحذر في هذا الصدد، خاصة في ظل ميل بعض أركان إدارة بايدن إلى عدم الانغماس بشكل قوي في ملفات الشرق الأوسط. إذ أنه حتى مع الانخراط مجدداً في التفاوض النووي مع إيران، فسيكون هذا التفاوض على الأرجح في أضيق نطاق ممكن. أي لن تكون لدى الإدارة نية مسبقة أو توجه نحو توسيع نطاق المشاركة فيه، كجزء من إعمال مبدأ الانخراط بالحد الأدنى الضروري، وليس أكثر. هذه النقطة أشار إليها بشكل واضح وزير الخارجية الأمريكي الجديد أنتوني بلينكن، في حوار له بمعهد هدسون الأمريكي في شهر يوليو 2020، حيث ذكر أن إدارة بايدن، في حالة فوزه بالرئاسة، ستتجه إلى تخصيص موارد ووقت وميزانية أعلى لمناطق آسيا وأفريقيا وأوروبا. أما بالنسبة للشرق الأوسط ، فقد قال بشكل مباشر وصريح “أعتقد أننا سنعمل أقل وليس أكثر في الشرق الأوسط”.
– في نهاية ورقته، يرى الكاتب أن نقطة البدء البديهية من أجل التحرك لمواجهة هذا الوضع، تتمثل في إجراء اتصالات وتقديم طلبات عاجلة لمختلف الأطراف المعنية بالوضع الإقليمي في الشرق الأوسط، وليس الملف النووي الإيراني فقط. وتحديداً الإدارة الأمريكية والعواصم الأوروبية الرئيسية، بالإضافة إلى روسيا والصين الدولتين الحليفتين لإيران. على أن يكون المطلب الأول والمبدئي من تلك الدول، أن تكون دول الخليج العربية طرفاً في أية مفاوضات أو ترتيبات جديدة تجري بلورتها مع إيران. وألا تقتصر أجندة التفاوض أو النطاق المحتمل للاتفاق، على البّرنامج النووي حصراً، بل يجب إدراج كل الجوانب السياسية ومسارات ومضامين الدور الإقليمي كحزمة شاملة مترابطة.
– ويرى الباحث أن المصالحة الخليجية التي تمت قبل أسابيع قليلة، ستسهم في تقوية الموقف الخليجي وتوحيده، لكن هذا لا يغني عن ضرورة إحداث تنسيق وتفاهم أيضاً على النطاق العربي الأوسع من خلال وضع الجهود المفترضة للتواصل مع إدارة بايدن وكذلك مع الأطراف الغربية الأخرى المعنية باستقرار المنطقة، تحت مظلة عربية واحدة هي جامعة الدول العربية، ما سيمنح تلك التحركات والجهود زخماً وقوة دفع وصدقية لدى الأطراف الدولية، خصوصاً في ظل وجود علاقات جيدة وقوية تستند إلى مصالح اقتصادية استراتيجية وروابط متنوعة ووثيقة لبعض القوى الكبّرى سواء الغربية أو روسيا أو الصين، مع دول عربية محورية.