
زيارة رئيس الكونغو الديمقراطية إلى القاهرة.. آفاق الرؤية والمضمون
رؤية استراتيجية للقيادة المصرية ظهرت في توقيت استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي لرئيس الكونغو الديمقراطية فليكس تشيسكيدي، بقصر الاتحادية في أول زيارة له إلى مصر، بالتزامن مع توليه رئاسة الاتحاد الأفريقي.
توقيت الزيارة اتسم بالأهمية تجاه العديد من القضايا الحيوية التي تهم مصر كملف “سد النهضة” وذلك على اعتبار الكونغو الديمقراطية إحدى دول حوض النيل ذات القناعة المشتركة مع الدولة المصرية بأهمية الشراكة الاستراتيجية لتحقيق مصالح دول حوض النيل دون الإضرار بمصالح الشعوب الأخرى، هذا إلى جانب الرؤية المشتركة تجاه العديد من الأوضاع الإقليمية.
تطور ملف سد النهضة في ظل قيادة تشيسكيدي للاتحاد الإفريقي
شهد ملف سد النهضة خلال العام الماضي مزيجاً من المفاوضات المطولة منذ رعاية الاتحاد الإفريقي لتلك المفاوضات وتباطؤ الجانب الإثيوبي في محاولة لاستكمال عملية بناء السد، فيما دخل الجانب المصري والسوداني المفاوضات بشكل أكثر انفتاحاً على الرؤية التوافقية حول الحفاظ على المصالح المشتركة للدول الثلاث دون الإضرار بحقوق شعبي دولتي المصب؛ إلا أن تولي الكونغو الديمقراطية الآن رئاسة الاتحاد الإفريقي سيحدث تطوراً في الملف وذلك نظراً لقرب الكونغو بشكل أعمق من القضية باعتبارها رقماً مهما في منظومة دول حوض النيل، وذات علاقات حثيثة بالملف وعلى اطلاع بكافة الرؤى ومجريات الأمور.
وترجع الأهمية الاستراتيجية لهذه الزيارة لتوافق الرؤية المصرية مع الكونغو الديمقراطية فيرى الدكتور خالد عكاشة مدير المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أن الكونغو تتشارك بشكل كامل مع الرؤية المصرية حول تحقيق خدمات ومصالح شعوب دول حوض النيل باعتبار نهر النيل مساحة للتشارك والتعاون، والتحفظ على كل ما يهدد الأمن المائي لدول الحوض بالكامل، وفي ظل موافقة الدول الثلاث على رعاية الاتحاد الإفريقي للمفاوضات، فإن وجود الكونغو الديمقراطية على رأس الاتحاد الإفريقي سيعطي ميزة إيجابية لملف سد النهضة، لأن لديها إلمام كامل بكافة التفاصيل وتقف على كل المهددات والمخاطر التي تتحفظ عليها مصر والسودان، وتستطيع أن تمارس قدرا من الحلحلة الإيجابية لهذا الملف والتقدم به للأمام أو تعلن مواقف واضحة تفتح السيناريوهات الأخرى أمام مصر والسودان للجوء إلى المجتمع الدولي أو المسارات أو السيناريوهات البديلة التي تحتاج إلى دعم الاتحاد الأفريقي للدخول إليها، وسيكون دور الكونغو هام جدًا ومرجح لموقف مصر والسودان، مما ينبئ بوجود أداء مختلف عن العام الماضي.
وظهرت في كلمة الرئيس تشيسيكيدى، الجدية في التعاطي مع ملف سد النهضة، واعتباره أولوية للاتحاد الإفريقي بالتزامن مع توليه رئاسة الاتحاد، حيث سبقت زيارته للقاهرة دعوته لكل من رئيسة إثيوبيا ووزيري الخارجية والري السودانيين في كينشاسا كل على حدة لتبادل الرؤى حول مياه النيل والتأكيد على الالتزام التام بعدم التصعيد.
ولعل كلمة تشيسكيدي حول التحدث مع طرفي الملف من الجانبين الإثيوبي والسوداني للخروج من هذه الأزمة من خلال الحوار والإنصات للرئيس السيسي، قد تعطي دلالة واضحة حول الموقف الكونغولي المؤيد والمطلع بشكل كامل على الرؤية المصرية القائمة على التعاون المشترك بين شعوب دول حوض النيل والمصالح المشتركة للدول الثلاث، بعيداً عن تغليب الرؤية الواحدة على مصالح الدول الثلاث.
ويُعد التفاؤل الذي أظهره تشيسكيدي للوصول إلى حل بشأن التعايش السلمي والاستغلال المشترك لمياه النيل، بمثابة رسالة طمأنة للدور الجيد الذي سيلعبه في إقناع أطراف الأزمة بالعودة للمفاوضات في ظل رغبة مصر والسودان في تحقيق اتفاق ملزم وجاد مع الجانب الإثيوبي، والتوصل لحل يتوافق ويدعم الرؤية المصرية التي ظهرت في كلمة الرئيس السيسي في تأكيده على أن نهر النيل مصدر للتعاون والتنمية، والتأكيد على ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، وهي الرؤية التي ينتهجها الجانب الكونغولي.
ولم يكن هذا اللقاء هو الأول الذي أوضح الرؤية المتطابقة بين القاهرة وكينشاسا بشأن العديد من القضايا الإقليمية والدولية، ومنها ملف مياه النيل والتي تؤكد على أن التفاوض للوصول لرؤية مشتركة بين دول حوض النيل كفيلة بتحقيق كافة مصالح الدول المشتركة في نهر النيل، حيث التقى الرئيسان في يناير 2020 في مباحثات ثنائية على هامش ” قمة إفريقيا بريطانيا” للاستثمار.
هذا إلى جانب تسليم وزير الخارجية سامح شكري في مارس 2020 رسالة الرئيس السيسي إلى الرئيس تشيسكيدي متضمنة التطورات الخاصة بملف سد النهضة واستعراض الموقف المصري في التوصل لاتفاق عادل ومتوازن يراعي مصالح الدول الثلاث، وهو ما يعطي دلالة واضحة على رغبة الجانب المصري في اطلاع كافة الأطراف على أبعاد الملف والموقف المصري الواضح باعتبار الكونغو قبل أن تصبح رئيساً للاتحاد الإفريقي بأنها إحدى الدول الفاعلة بين دول حوض النيل، والذي وصل إلى اتفاق برعاية أمريكية، ولكن تعنت الجانب الإثيوبي حال دون التنفيذ.
مصر والعمق الأفريقي
أظهرت الزيارة العمق الإفريقي المصري، في ظل قيام الرئيس تشيسكيدي بالإصرار على زيارة الدولة المصرية قبل استلامه مهام منصبه كرئيس للاتحاد الإفريقي، مما سيعكس رغبة حقيقية في استعادة الدور المؤثر للاتحاد الإفريقي من ناحية، والاستفادة من نجاح القيادة المصرية في قيادة الاتحاد الإفريقي خلال عام 2019، والتي شهدت عاماً إفريقياً مميزاً على أجندة الدول الكبرى. هذا إلى جانب الثقل الإقليمي الذي تتمتع به الدولة المصرية في المنطقة وهو ما حرص الرئيس تشيسيكيدي على الاستفادة منه لما تمثله مصر في المنطقة والقارة بأسرها من دور محوري لتحقيق وصون السلم والأمن، وكذا المواقف المصرية الهادفة إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي، والتي دوماً ما تنعكس على الدعم المصري الكبير لمختلف دول المنطقة.
وانطلاقاً من الرؤية المصرية التعاونية لإنجاح الدول الإفريقية والثوابت التاريخية للدولة المصرية التي تقوم على الوقوف على قلب رجل واحد لتحقيق مصالح شعوب القارة، حرص الرئيس السيسي على التأكيد على الرغبة المصرية في إنجاح الكونغو خلال رئاستها للاتحاد الإفريقي من خلال تقديم مصر كافة أشكال الدعم والمساعدة لها.
ويؤكد الدكتور أحمد أمل رئيس وحدة الدراسات الإفريقية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أهمية الزيارة، حيث ستتسلم الكونغو رئاسة الاتحاد الإفريقي من جنوب إفريقيا، وسيكون أمامها عدد كبير من القضايا الملحة، منها جائحة فيروس كورونا، وملف سد النهضة، بالإضافة إلى معالجة عدد من القضايا الأخرى مثل مواجهة الإرهاب والتطرف في شرق إفريقيا وفي الساحل. وتتركز أهمية الزيارة أيضًا في تعزيز العلاقات بين مصر والكونغو على كافة النواحي، فالكونغو دولة رئيسية من دول القارة الإفريقية، ومصر لديها علاقات طويلة معها. وأضاف الدكتور أمل، أن كلمة الرئيس السيسي خلال المؤتمر الصحفي المشترك مع نظيره الكونغولي، ركزت على تقديم مصر الدعم الاستباقي لرئاسة الكونغو للاتحاد الإفريقي بالشكل الدبلوماسي، بالإضافة إلى الدعم المصري المحوري لعملية التكامل الاقتصادي الافريقي والذي ساهمت فيه مصر أثناء الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي 2019، حيث أطلقت منطقة التجارة الحرة الإفريقية والتي ينتظر أن تدخل حيز التنفيذ خلال شهور تحت رئاسة الكونغو. ومن الرسائل المهمة أيضًا للزيارة توافق الجانبين بشأن قضية سد النهضة، فالكونغو باعتبارها دولة رئيسية ومهمة من دول حوض النيل والعلاقات الطويلة في المجال المائي، سيعزز من تفهم الاتحاد الإفريقي ومفاوضيه لكل هذه الاعتبارات في المستقبل.
وحول أهمية ودلالات تصريحات رئيس الكونغو التي أكد فيها على حرصه الاستفادة من التجربة المصرية لتعزيز العمل الإفريقي المشترك بمناسبة رئاسته للاتحاد الإفريقي، أشار الدكتور أمل إلى أن الجانب الكونغولي أكد على المكانة المحورية للدولة المصرية التي شهدت الدعم المصري من خلال المساهمة المصرية في تشييد “سد إنجا” وهو مشروع تنموي تسعى الكونغو على انجاحه الفترة المقبلة، واستقبال مصر وفود كونغولية رفيعة المستوى، وشهدت تقدم كبير في مستوى التدريب لرفع القدرات وتأهيل الكفاءات خاصة في مجال حفظ السلام.
علاقات ثنائية بين التاريخ والمستقبل ونقل التجربة المصرية
تعود العلاقات الثنائية بين البلدين إلى جذور تاريخية وروابط مشتركة والتي ترجع إلى فترات التحرر الوطني للدول الإفريقية خلال القرن الماضي، كما جاء في كلمة الرئيس السيسي، والتي ظهرت أيضاً في اهتمام الكُتاب حول إبراز العلاقات التاريخية بين البلدين والتي جاءت في معالجة كتاب “علاقات مصر بدول حوض النيل – حركة التحرر في الكونغو” والذي تتبع دعم ثورة 23 يوليو المصرية لحركة التحرر الوطني الكونغولي من الاستعمار البلجيكي حتى إعلان استقلاله.
وسبق وأن أيدت الكونغو الديمقراطية مصر للفوز بالعضوية غير الدائمة لمجلس الأمن الدولي للفترة من 2016-2017، فأخذت مصر على كاهلها خلال عضويتها بالمجلس وعضوية مجلس السلم والأمن الأفريقي، الدفاع عن كافة القضايا التي تحقق مصالح الدول الأفريقية بشكل عام والكونغو الديمقراطية على وجه الخصوص.
وانتقل الدعم المصري من الماضي إلى المستقبل من خلال تأكيد الرئيس السيسي على موقف مصر الراسخ حيال دعم كافة جهود تثبيت السلام والاستقرار ومساندة الجهود الكونغولية الوطنية الرامية إلى ترسيخ دعائم السلام والاستقرار الداخلي بدافع الأخوة المصرية، وبما يفتح آفاق التنمية وتعمق الرؤية المصرية في الحفاظ على استقرار البلاد يقوم من خلال الحفاظ على هياكل ومؤسسات الدول ومقدراتها للاستمرار في مسار التحول الديمقراطي المؤسسي.
وتُقدم مصر كافة خبراتها بداية من الدعم الإفريقي إلى الدعم الثنائي من خلال تصريحات الرئيس السيسي حول نقل الخبرات المصرية وتوفير الدعم الفني وبناء قدرات الكوادر الوطنية في الكونغو الديمقراطية الشقيقة في مختلف القطاعات، في إطار إيمان مصر بأهمية الاستثمار في الموارد البشرية بالقارة، وتعزيز التعاون في مجال الموارد المائية والري ولاستفادة من موارد نهر النيل.
وتساهم مصر في دعم الاقتصاد الكونغولي من خلال الاستثمار المصري بها، والذي ظهر في إشادة الرئيس تشيسكيدي بنشاط الشركات المصرية في الكونغو الديمقراطية في قطاعات التشييد والبناء والطاقة والبنية الأساسية.
ولم يكتف الرئيس تشيسكيدي بالعمل على التقارب مع الجانب المصري من أجل الاقتصاد، بل عمل على نقل التجربة المصرية ليس على الصعيد الإفريقي وحسب بل أيضاً على الصعيد المحلي نظراً للطفرة التنموية والمشروعات القومية الكبرى الجارية والمخطط إنشاؤها، مما دفعه إل التطلع إلى زيادة الاستثمارات المصرية في بلاده، والإعلان عن رغبته في إنشاء نسخة من العاصمة الإدارية في بلاده للحد من المشكلة السكانية.
ختاما
جاءت هذه الزيارة التي تتزامن مع تولي الرئيس تشيسكيدي رئاسة الاتحاد الإفريقي لتؤكد على قوة العلاقات بين البلدين والقائمة على المفهوم الاستراتيجي للدول الكبرى win–win، والتي ظهرت في استفادة الجانب الكونغولي من نقل التجربة المصرية وزيادة الاستثمارات المصرية في البلاد وعلى الصعيد الإفريقي الاستفادة من التجربة المصرية في إدارة الاتحاد الإفريقي 2019 وتنفيذ الأجندة الأفريقية 2063 والحصول على الدعم المصري لإنجاح فترة رئاسة الكونغو الديمقراطية لعام 2021، في ظل الرؤية المصرية لدعم الأشقاء.
وعلى الجانب المصري جاءت الزيارة عقب لقاءي رئيسة إثيوبيا ووزيري الخارجية والري السودانيين مما يجعلها بمثابة إشارة واضحة للاهتمام الكونغولي بملف النيل باعتبارها إحدى دول حوض النيل، والتأكيد على الرؤية المشتركة مع الجانب المصري للوصول لاتفاق تعاوني وملزم للأطراف الثلاثة، مما سيعزز من دور الاتحاد الإفريقي في حلحلة القضية والدعم الإفريقي للموقف المصري.
باحثة بالمرصد المصري