مقالات رأي

د. نيڤين مسعد تكتب: المبادرة المصرية لتعزيز العلاقات مع السودان

بدعوة كريمة من الدكتورة أماني الطويل -الخبيرة المرموقة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية-عُقِد الاجتماع التأسيسي للمبادرة المصرية لتعزيز العلاقات مع السودان. حضر الاجتماع من الجانب السوداني كل من السيد محمد الياس سفير السودان بالقاهرة (أو كما وُصِف بسفير الثورة) ، والسفير الدكتور على يوسف رئيس اللجنة التنفيذية للمبادرة السودانية لتعزيز العلاقات مع مصر . أما من الجانب المصري فقد كان هناك عدد من ممثلي الدبلوماسية ومجلس النواب ووزارة الشباب والأكاديمية والإعلام والمجتمع المدني .
وقبل التطرق لأهم محاور النقاش ، تجدر الإشارة إلى أنه قبل نحو ثلاثة أشهر كانت قد انطلقت مبادرة في الخرطوم لتعزيز العلاقات مع مصر ، وهى كما يتضح من اسمها محاولة لتفعيل ما يُطلَق عليه “المسار الثاني” في العلاقات الدولية ، وشارك في الاجتماع التأسيسي للمبادرة ٦٥ مشارك بخبرات متنوعة ومن أقاليم مختلفة ومن رجال ونساء كما مُثّل فيهم جيل الشباب .

وبالتالى فإنه بإطلاق مبادرة مماثلة في القاهرة يكون قد توفر لتعزيز العلاقات الثنائية غير الرسمية منبران في كلٍ من السودان ومصر على التوالي ، وهذا أمر يدعو للتفاؤل ، أولاً لأن البداية جاءت ولأول مرة من الخرطوم ما يعنى تبلور الاقتناع السوداني بأن التحديات التي تواجهها الدولتان تستوجب المبادرة بالتحرك ، وثانياً لأن الجهود المصرية السابقة لم يكن لها ما يناظرها على الجانب الآخر ما حرمها من مؤازرة الداخل السوداني . يضاف لما سبق أن حضور سفيري الدولتين فى الخرطوم والقاهرة الاجتماع التأسيسي لكلتا المبادرتين إنما يؤكد على الدعم الرسمي لهذا التحرك الثنائي وهو دعم أساسي ولا غنى عنه . 

اتفق الحاضرون علي أهمية استعادة لُحمة وادى النيل بعد أن أصيبت في مقتل خلال حكم إخوان السودان ، فعلى مدار ثلاثين عاماً تمكن نظام البشير من تشويه الإدراك الجمعي للأجيال السودانية الجديدة ، وفي الوقت الذي كان يتم فيه الترويج لأفكار من نوع الاستعمار المصري للسودان و النزعة الاستعلائية العنصرية المصرية ، لم تجد هذه الأفكار ما يدحضها بالتأكيد علي أن كلاً من مصر والسودان خضع للاستعمار البريطاني ، وأن الآلاف من الزيجات المختلطة كوّنت أُسراً ممتدة علي جانبي الحدود بين البلدين .و مما ساعد علي انتشار هذه الأفكار الخبيثة تعطيل النظام السوداني السابق لعمل العديد من آليات التشبيك الشعبي المهمة كمثل جامعة القاهرة فرع الخرطوم والمركز الثقافي المصري والنادي العربى وبرلمان وادى النيل . وفِي هذا السياق توّلدت لدى الشباب السوداني مشاعر تتسم في حدّها الأدنى بعدم الاهتمام بما يجرى في مصر ، أما في حدّها الأعلى فإنها اتسمت بالعدائية حيال مصر ، ووُضعَ الانتماءان العربى والأفريقي أحدهما في مواجهة الآخر وكأنه يمكن لأى هوية في العالم أن تكون ذات بعد واحد ، أو كأن جمال عبد الناصر لم يكن أفريقيا بامتياز بقدر ما كان عروبياً بامتياز . وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال الدور الخارجي في تأزيم العلاقات الشعبية والرسمية ، وهذا علي أى حال دور مستمر عبر التاريخ  . أما وقد سقط حكم الإخوان بفعل نضال قوى الحرية والتغيير ، وتعاظمت التحديات التى يواجهها البلدان معاً فقد آن الأوان لإعادة الأمور إلي نصابها وتجسيد تعبير  “المصير المشترك” على أرض الواقع . هذا التعبير أكّد عليه في مداخلته سفير السودان في القاهرة السيد محمد الياس ، بل هو دعا لاتخاذه شعاراً لكل الفعاليات اللاحقة للمبادرتين السودانية والمصرية، لكن كان السؤال المهم الذي ثار هو من أين نبدأ ؟

برز اتجاه يدعو للحوار بين الأحزاب السياسية في البلدين علي أساس أن الشعب السودان مُسيَس بطبعه ، فإن لم تكن البداية بالمسار الحزبى فليكن هذا المسار علي الأقل موازياً لغيره من المسارات . وبرز اتجاه ثانٍ يدعو إلى تأجيل السياسة وعدم البدء بها لأنها قد تؤدى إلي عرقلة المسارات الأخرى ، واتسعت دائرة التأييد لهذ الاتجاه بين الحضور . ومن الأفكار التي طُرِحت لتعزيز أواصر العلاقات بين الشعبين زيادة المنح الدراسية الجامعية في الاتجاهين أي لكلٍ من الطلاب المصريين والسودانيين ، وتكثيف زيارات الوفود الطلابية المتبادلة . اقتُرِح أيضاً إجراء توأمة بين المراكز البحثية فى البلدين ، وتدعيم عمل مكتب الشباب الأفريقي بوزارة الشباب المصرية وهو صاحب العديد من المبادرات المبتكرة ، مع تأهيل وتدريب كوادر إعلامية احترافية لتصحيح الأفكار المغلوطة ، وتنظيم أنشطة رياضية وفنية مشتركة ، وفِى حوار لاحق تمنى السفير الدكتور علي يوسف إعادة إحياء البرنامج الإذاعي المصري ركن السودان وتقوية بث إذاعة وادى النيل لتصل لكل مكان في السودان . من جهة أخري بدا اهتمام كبير بتقديم الدعم المادي لمعسكرات الإيواء ، وأشار السفير محمد الياس فى هذا السياق للأثر المعنوي الكبير الذي تركته زيارة وزيرة الصحة المصرية لمعسكر إيواء المتضررين من السيول في منطقة بحرى قبل شهور ، كما أثنى علي حميمية استقبال أهل أسوان للسودانيين العالقين علي الحدود بعد إغلاقها بسبب وباء كورونا.

هناك إذن أفكار كثيرة ، وهي أفكار تحتاج في متابعتها إلي إطار مؤسسي يَضمن استدامة العمل ولا يتوقف مع تغير الأشخاص ، ولقد تحققت هذه الخطوة فعلا بانتخاب الدكتورة أماني الطويل رئيسة للجنة التنفيذية للمبادرة في جانبها المصري كما تم توزيع الأنشطة المختلفة علي اللجان النوعية المتخصصة . وفِى المجمل فإن اللقاء كان ودوداً ودافئاً ومفعماً بالتفاؤل والأمل بالمستقبل ، أما علي المستوى الشخصي فقد فاجأني السفير الدكتور علي يوسف بحكاية طريفة ، هى أنه التقى بشقيقيه المقيمين في القاهرة لأول مرة عام ١٩٧٠ عندما سافر مع فريق كرة السلة بجامعة الخرطوم للعب فى مصر ولم يكن قد التقى بهما من قبل ، و نبهنى بذلك إلي أن ما نراه بأعيننا من انسياب العلاقات الشعبية عبر الحدود إنما هو ما يظهر لنا فقط علي السطح ، أما ما خفى من تفاصيل هذا الانسياب فإنه أكثر وأعمق مما نتصور بكثير.

نقلا عن صحيفة “الأهرام” في عددها الصادر اليوم السبت

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى