سياسة

بعد عشر سنوات.. كيف استطاع المصريون حماية دولة عمرها آلاف السنين

كان المصريون على مدار التاريخ قادرين على تغيير مجرى الأحداث والتاريخ.. وكان هذا ما تجسد على مر تاريخ الدولة المصرية العريق من ملحمة قادش وحتى 30 يونيو 2013، فالمصريون لم يكونوا يومًا شعبًا قابلًا للضيم أو مستسيغًا له وكانت هذه النقطة الفارقة التي جعلت الكثير من طموحات الاحتلال والاستعمار تتحطم على صخرة مقاومة المصريين منذ فجر التاريخ وحتى الحملة الفرنسية ووصولًا لانتفاضة ضد حكم ظالم وجائر استمر لمدة عام فقط بعد قرابة قرن من اللهاث وراء الحكم، أضاعوا فيه أنفسهم وكادوا أن يأتوا على أركان الدولة المصرية لولا أن انتفض الشعب.

وقد كانت مصر دولة موحدة قبل 5000 عام ق.م أو للدقة قبل 4326 عام ق.م عندما خرج الملك مينا من مدينة “طيبة” الأقصر حاليًا لينجح في توحيد مملكتي الشمال والجنوب. وأصبح مينا مؤسس أول أسرة حاكمة في تاريخ مصر القديمة.

C:\Users\owner\Downloads\NarmerPalette-CloseUpOfNarmer-ROM.png

مينا موحد القطرين

محطات تاريخية

الواقع أن مصر عرفت شكل الدولة المركزية منذ الأزل، وأي دولة مركزية تعرف بجيشها القوي، ذلك الجيش الذي ضرب المثل على طول الفترات التاريخية بأنه قادر على الانتصار بل وقلب الهزائم إلى انتصارات.

ففي النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي تمكن أحمس من هزيمة الهكسوس أو “الملوك الرعاة” ودحرهم وقام بمد نفوذ الدولة المصرية شرقًا لاقتناعه بأنها مفتاح الأمن القومي لإمبراطوريته وإمبراطورية من يأتي من بعده. وقد وجد أحمس أنه ليستطيع تحقيق ذلك لابد له من أن يجعل هذه المنطقة منطقة عازلة بين الحضارة والثقافة المصرية والرعاة، وقد كان له ما أراد بل أنها أصبحت سياسة اتبعت من بعده من قبل زوجته الملكة حتشبسوت التي وصلت إلى حكم مصر بخطة شديدة الدهاء.

C:\Users\owner\Downloads\Untitled-5 copy.jpg

أما تحتمس الثالث فرغم أنه تولى الحكم في وقت لم يكن يمتلك فيه الخبرة الكافية لإدارة إمبراطورية بحجم مصر إلا أنه ربما ورث الوعي الكافي عن أحمس ليدرك أن إعداد جيش قوي لهزيمة ملك قادش ومن يساعده من باقي الإمارات يجب أن يكون من أولى مهامه، وكانت مهمته صعبة للغاية خاصة أن الملك السوري كان يسعى لاحتلال مصر بعد موت الملكة القوية حتشبسوت ورأى أن ذلك الشاب ” تحتمس الثالث” هو العقبة الوحيدة في وجهه.

ولأن تحتمس كان عاقدًا العزم على هزيمة الممالك السورية فقد عمد إلى تجميع جنوده من كل الأقاليم المصرية وقام بحشدهم بعد أن أرسى نظامًا لوجستيًا قويًا لتوفير الإمدادات إلى الجيش وتلا ذلك أن تحرك بجيشه سريعًا لهزيمة ملك قادش. ووصل إلى غزة في عشرة أيام، ثم وللوصول إلى مدينة مجدو خالف التوقعات وقام باتخاذ الطريق الوعرة القصيرة لمباغتة عدوه وكان محقًا في مسعاه لأن ملك قادش وضع الأكمنة على الطرق الأخرى التي كان متوقعًا أن يسلكها المصريون لأنها كانت أقل وعورة.

ورغم أن المصريين استطاعوا هزيمة قوات التحالف في وقت ليس بالطويل إلا أنهم انهمكوا في جمع الغنائم مما سمح لقوات الممالك بالتحصن في المدينة وجعل على تحتمس أن يحاصرها فيما بعد، إلا أنه اتبع سياسة عرفت فيما بعد بالجسر الذهبي حيث سمح لمن يريد الخروج من المدينة بالخروج وكان الهدف من هذا التكتيك العسكري هو عدم إحكام الخناق على العدو لمرحلة تجعله مستبسلًا للدفاع عن المدينة بانعدام وجود البديل وبعد أشهر خضعت المدينة للفرعون المصري وأعلنت استسلامها للقوات الباسلة.

وتعد معركة قادش التي وقعت على أرض فلسطينية إحدى المعارك التاريخية التي حسمت تاريخ الشرق الأوسط لسنوات عديدة ممتدة على طول التاريخ وعرضه حين واجه ملك مصر تحتمس الثالث ملك قادش وتجمعات “الدويلات السورية” والذين كانوا يسعون للقضاء على هيمنة الدولة المصرية وطمس ثقافتها.

C:\Users\owner\Downloads\download (1).jpg
C:\Users\owner\Downloads\55f20f73ede1730d1207822922385136.jpg

وتاريخيًا بدا أن شهر رمضان مقترن بالعديد من الانتصارات للمصريين، الذي كما استطاعوا صد هجوم الملوك الرعاة والممالك السورية عن مصر استطاعوا أيضًا صد همجية التتار في 25 رمضان من عام 658 هجريًا في معركة عين جالوت الشهيرة التي استطاع فيها سيف الدين قطز هزيمة جيوش التتار.

وقد وقعت المعركة في منطقة عين جالوت بين مدينتي بيسان والناصرة حيث استطاع التتار الاستيلاء على العراق وإسقاط الخلافة العباسية ثم الزحف إلى دمشق والاستيلاء عليها وأخيرًا دخول غزة دون مقاومة تذكر.

وفي وقت قصير استطاعوا الوصول إلى الحدود المصرية بعد أن أرسل هولاكو خطابًا هدد فيه حاكم مصر المملوكية سيف الدين قطز إذا رفض الاستسلام، ويشير المؤرخون إلى أن سر النصر في عين جالوت هو أن قطز لم ينتظر التتار حتى لحظة وصولهم إلى الحدود المصرية وإنما خرج لملاقاتهم في بلاد الشام.

C:\Users\owner\Downloads\174.jpg

وكان للفرنسيين موعد مع الهزائم أفردت له صفحات في التاريخ المصري، وبدأت بمعركة المنصورة التي هزم فيها لويس التاسع حيث تحركت الحملة الصليبية من فرنسا في عام 1248 ميلاديًا لتحرير بيت المقدس من أيدي السلاطين المصريين، وكان لويس التاسع يرى أن احتلال الفرنسيين لمدينة دمياط يعطيهم فرصة بمساومتها مقابل التخلي عن السيطرة على بيت المقدس. 

وبالفعل رست الحملة الصليبية على شواطئ دمياط صبيحة يوم 4يونيو من عام 1249 ميلاديًا حيث خسر المصريون الجولة الأولى واستولى الصليبيون على دمياط ثم تجددت الاشتباكات في المنصورة حين هزم الفرنسيون هزيمة نكراء وأسر لويس التاسع في يوم السادس من إبريل من عام 1249 ميلاديًا حتى افتدى نفسه وغادر إلى الشام ليستقر فيها أربع سنوات.

وفي 20 أكتوبر 1798 ثارت القاهرة ثورتها الأولى ضد المحتل الفرنسي، حيث اندلعت ثورة القاهرة الأولى بقيادة مشايخ الأزهر وطلابه بعد أن فرض الفرنسيون ضرائب باهظة على المصريين وتحديدًا التجار. حيث عمت التظاهرات جميع أنحاء القاهرة فيما عدا مصر القديمة وبولاق لأنهما كانت قريبتان من معسكرات الفرنسيين وشارك في الثورة حوالي 50 ألف مواطن مصري.

وكان رد جنود الحملة على ثورة المصريين شديد العنف حيث وجهوا المدافع للجامع الأزهر وقتلوا المئات بل أنهم دخلوا إلى صحن الجامع الأزهر بخيولهم وأحذيتهم وبعد أن نجح الفرنسيون في إخماد الحملة قاموا بإعدام ستة من شيوخ الأزهر حيث اقتيدوا إلى القلعة ودقت أعناقهم في حين وصلت حصيلة الشهداء من المصريين إلى 2500 شهيد. أما ثورة القاهرة الثانية فقد اشتعلت في 20 مارس من عام 1800 وبدأت شرارتها من حي بولاق وتصدى لقيادتها على العكس من الثورة الأولى التجار والحرفيون وغيرهم من أصحاب المهن ولكن الثورة تم إخمادها سريعًا كما فعلت الحملة الفرنسية مع ثورة القاهرة الأولى.

C:\Users\owner\Downloads\664.jpg

وبالوصول إلى مرج دابق فإنه لو كانت مصر انتصرت على الأتراك في مرج دابق خصوصًا ولو أن الأدلة التاريخية تشير إلى أن الدائرة أوشكت أن تطبق على الأتراك في ذلك الوقت حيث كان انتصارهم أقرب إلى الصدفة منه إلى الحسم التاريخي لكان وجه التاريخ والمنطقة بأكملها قد تغير.

ولكن على أي حال وعلى الرغم من ذلك تصرفت مصر بوعي استراتيجي تام وزحفت في معركتها إلى خط دفاعها الأول جغرافيًا وتاريخيًا كما يؤكد جمال حمدان في وقائع تاريخية، المحاولات المصرية كانت حثيثة ولكنها لم تكن كافية وللمرة الأولى تاريخيًا انتقلت زعامة العالم العربي إلى خارجه فحرمت مصر من دورها الطبيعي ولكنها لم تتخل عنه تمامًا فالفتوحات والمعارك المصرية كادت أن تجعل منها دولة فوق الدولة فعلي بك الكبير استطاع أن يفتح اليمن والحجاز لحسابه وأنشأ علاقات خارجية بعيدة المدى خاصة مع فيينا وروسيا العدوتين اللدودتين للباب العالي.

محاولة الإنقاذ الأهم 

رغم أنها المرة الأولى التي يأتي فيها التهديد لأركان الدولة المصرية من الداخل، إلا أن الشعب تعامل بوعي وكأنه خبر هذه التجربة منذ مدة طويلة فكان أقصر حكم لأكثر مجموعة سعت على مدار تاريخها خلف السلطة لا حبًا في مصر ولا في المصريين ولكن إنفاذَا لمشروعهم المختل.

C:\Users\owner\Downloads\Tamarod.jpg

وكان النظام الإخواني قد تعمد إقصاء الكفاءات، وعدم الاستعانة بالخبرات الاقتصادية والسياسية والشخصيات التي لها خبرات طويلة مشهود لها دوليًا ومحليًا في إدارة الأزمات التي واجهت الدولة في إطار ما عرف بـ”أخونة الدولة”.

وبعد 10 أشهر فقط من رئاسة مرسى، تأسست “حركة تمرد”، تعبيرًا عن حالة الرفض الشعبي لحكم الإخوان، مطالبة بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وحددت يوم 30 يونيو موعدا لانتهاء المهلة للاستجابة لهذا المطلب ودعت الموقعين للتظاهر بعد انتهاء المهلة إذا لم تتم الاستجابة لمطالبهم، وتجاهل الرئيس الأسبق المطالب الشعبية ووصفها بالمطالب العبثية.

وفى 23 يونيو.. أصدر الفريق أول عبد الفتاح السيسى، وزير الدفاع، آنذاك، بيانا أعلن فيه أن القوات المسلحة تجنبت خلال الفترة السابقة الدخول في المعترك السياسي إلا أن مسؤوليتها الوطنية والأخلاقية تجاه الشعب تحتم التدخل لمنع انزلاق مصر في نفق مظلم من الصراع والاقتتال الجاري والفتنة الطائفية وانهيار مؤسسات الدولة، ودعا إلى إيجاد صيغة للتفاهم وتوافق المصالح خلال أسبوع من هذا التاريخ.

وفى أول يوليو، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة بيانًا ذكرت فيه أنه من المحتمل أن يتلقى الشعب ردًا على حركته وعلى ندائه، داعية كل طرف أن يتحمل قدرًا من المسؤولية، وأمهلت 48 ساعة للجميع لتلبية مطالب الشعب. وفى 3 يوليو، ألقى “السيسي” بيانًا أعلن فيه خارطة طريق سياسية للبلاد، اتفق عليها المجتمعون، تتضمن تسليم السلطة لرئيس المحكمة الدستورية العليا، وسرعة إصدار قانون انتخابات مجلس النواب، وإنهاء حكم الجماعة الإجرامية لمصر.

وانطلقت مسيرة الشعب نحو البناء على كافة الأصعدة تحت قيادة وطنية واعية، وفى حماية جيش وشرطة بذلوا أرواحهم من أجل الحفاظ على مقدرات مصر بمحاصرة الإرهاب ووقف انتشاره وملاحقته أينما كان. واستطاعت ثورة 30 يونيو أن تقضي على كل المحاولات المستميتة لطمس الهوية الوطنية حيث استطاعت جماهير الشعب خلال هذه الثورة الحفاظ على هوية الوطن.

وكعادتها دائمًا، ضربت القوات المسلحة المصرية مثالا للعالم في الحفاظ على الأرواح والمنشآت وحمايتهم، وهذا ما تجلى في ثورة 30 يونيو، حيث نجحت القوات المسلحة في حماية الشعب المصري من بطش الجامعة الإرهابية في يونيو 2013، حيث لم ولن يحدث أن تتخلى القوات المسلحة عن الشعب يوم. ولبت القوات المسلحة نداء الشعب لحماية البلاد من الجماعة الإرهابية، بعد سيطرتهم على العديد من المواقع السياسية والحكومية.  كما كان موقف الأزهر هو الانحياز للشعب المصري والحفاظ على وحدة المصريين وحُرمة الدم  

وكانت جماعة الإخوان المسلمين قد وصلت للحكم رافعة شعار “نحمل الخير لمصر”، غير أن الواقع كشف أن الجماعة لم تكن تحمل سوى مخططها الملتوي المعروف بـ”خطة التمكين” أو “الأخونة” التي جاهرت بها علانية من خلال مؤسسة الرئاسة ومكتب الإرشاد وحزب الحرية والعدالة الذراع السياسي المسيطر على الحكم آنذاك. 

وقبل توليه الرئاسة في يونيو من عام 2012، تجول الدكتور محمد مرسى، مرشح جماعة الإخوان، في جولاته الانتخابية، مؤكدًا أن مصر ستشهد طفرة في أول 100 يوم من حكمه، وأوضح مرسى حينها أن خطته تتضمن حل المشكلات في خمسة محاور رئيسية هي الأمن والمرور والخبز والنظافة والوقود.  

وفي يوم الخميس، 14 يونيو 2012، قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون مباشرة الحقوق السياسية المعروف بـ”العزل السياسي”، وبعض مواد قانون انتخاب مجلسي الشعب والشورى، مما يترتب عليه- وفق الحكم- استمرار جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية بين المرشحين الدكتور محمد مرسى والفريق أحمد شفيق المقررة 15 و16 يونيو، إضافة إلى حل مجلس الشعب بالكامل، نظرًا لبطلان ثلث مقاعد المجلس الفردية.

وقد دفع المصريون فاتورة دم باهظة الثمن إبان حكم جماعة الإخوان وحلفائها، جراء أعمال العنف والاشتباكات الدامية التي شهدتها البلاد، ووسط هذه الأعمال سجلت الصحف تفاصيلها أولًا بأول، حتى كانت مسمارًا في نعش الجماعة التي أزيحت عن الحكم بثورة شعبية في الثلاثين من يونيو 2013.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

نيرمين سعيد

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى