أوروبا

ميركل تخمد “الفتنة الترامبية” داخل حزبها

نجحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في آخر مهامها الحزبية، ممثلة في تسليم قيادة الحزب المسيحي الديموقراطي إلى الجناح المعتدل – وفقاً للأدبيات الألمانية – على حساب الجناح القومي.

وكانت دوائر الحزب ، الذي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية على أنقاض حزب الوسط الكاثوليكي بالإضافة إلى كوادر من حزب الشعب الألماني والحزب الشعبي القومي والحزب الديموقراطي الألماني، شهدت صعودا داخليا لتيار يمثل اليمين القومي، ذي أفكار شديدة الشبه بأفكار التيار القومي “الترامبي” الصاعد في الولايات المتحدة الأمريكية على ضوء انتخاب الأمريكيين لدونالد ترامب في انتخابات الرئاسة نوفمبر 2016.

هذه “الفتنة الترامبية” داخل الحزب الذي وحد اليمين الألماني منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قبل توحيده مجدداً عقب توحيد ألمانيا بعد نهاية الحرب الباردة، قد وصلت إلى الذروة حينما انتخبت انجريت كرامب كارينباور رئيسة للحزب في 7 ديسمبر 2018 قبل أن تصبح وزيرة للدفاع في 17 يوليو 2019، لتصبح أبرز المرشحين لخلافة ميركل التي يفترض أن تتقاعد عن منصبها في انتخابات 26 سبتمبر 2021 البرلمانية، بعد أربع ولايات متتالية على مدار 16 عاماً.

ولكن خطأ تعاون الحزب بقيادة كارينباور مع حزب البديل الألماني في انتخابات إحدى الولايات الألمانية قد أدى إلى حملة ضغط أوروبية على الحزب وميركل، ما جعل كارينباور تقدم استقالتها وتستمر في منصبها وزيرة للدفاع فحسب، بينما اشتعلت بورصة خلافة كارينباور في الحزب على ضوء أنها بورصة خلافة ميركل في المستشارية.

وتنظر أوروبا إلى حزب البديل الألماني باعتباره امتدادا للفكر النازي الألماني، رغم أن النازية كانت فرزاً يسارياً لفكرة القومية الاشتراكية أو اليسار القومي وحزب العمال القومي الاشتراكي – الحزب النازي – بينما حزب البديل الألماني ينتمي إلى اليمين القومي وليس اليسار القومي أو القومية الاشتراكية ولكن على ضوء تبني حزب البديل الألماني لأيدولوجيا الخروج الألماني من الاتحاد الأوروبي فأن أوروبا تعمل على بث دعاية سلبية حيال الحزب اليميني.

ومع استقالة كارينباور واستمرارها على رأس الحزب لحين انتخاب قيادة جديدة، استمر الجناح القومي داخل الحزب بأفكار ترامبية في محاولة السعي للرئاسة، عبر فريدرش ميرتس، بينما بحث الجناح المحافظ عن مرشح لائق إلى أن وجد ضالته في أرمين لاشيت رئيس وزراء ولاية نورد راين – وستفالين Nordrhein-Westfalen، باللغة العربية: شمال الراين ووستفالين وباللغة الإنجليزية نورث راين – ويستفليا.

وفى 16 يناير 2021 عقدت الانتخابات ودعمت ميركل بكل قوتها أرمين لاشيت إلى أن أعلن منتصف اليوم انتخابه لرئاسة الحزب وتحوله إلى مرشح الاتحاد المسيحي الديموقراطي لمنصب المستشارية وهو الاتحاد الذي يضم الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني والحزب المسيحي الديموقراطي البافاري.

إن تصفح تاريخ أرمين لاشيت يوضح بجلاء المتغيرات التي جرت في ألمانيا في سنوات ميركل، وهي السيدة التي عاصرت أربعة رؤساء لألمانيا، وشكلت الحكومة أربع ولايات، منهم ثلاثة وزارات ائتلافية مع الحزب الاشتراكي الألماني بالإضافة إلى ولاية كانت الوزارة ائتلافية مع الحزب الديموقراطي الحر الذي يمثل الوسط الليبرالي الألماني، وبالتالي فأنه من 16 عاماً في الحكم كان هنالك 12 عاماً او ثلاثة ولايات شارك الاشتراكيين فيها اليمين المحافظ في الحكم.

كما أن انتخابات ألمانيا عامي 2013 و2017 قد شهدت صعود اليسار الألماني في البرلمان عبر حزب اليسار وحزب الخضر المتحالف مع الاشتراكيين وبالتالي فأن “الهوى اليساري” في ألمانيا قد صدح بقوة منذ صيف عام 2013.

وعلى ضوء ما سبق فأن اليمين المحافظ الألماني بدعم من ميركل قد انتخب أرمين لاشيت الذي يمكن تصنيفه باعتباره يساريا محافظا أو اليسار المحافظ الألماني، اذ لا يمكن تصنيفه باعتباره من اليمين المحافظ وكذا اليمين القومي، ورغم أن بعض الكتابات تضعه في فريق الليبراليين أو الوسط الليبرالي، الا انه من أهم ساسة الجناح اليساري داخل الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني، وعلى ما يبدو أن ميركل حتى اللحظة الأخيرة قد التزمت بمخطط النظام الدولي لاستخدام اليسار الموالي للعولمة من أجل التصدي للمد القومي الصاعد عالمياً، وانه كما تم استخدام اليسار في اسبانيا والبرتغال وإيطاليا لإنتاج حكومات صمدت طيلة العام 2020 أمام المد القومي فأن يسار الحزب المسيحي سيتولى تلك المهمة بدلاً من أن تذهب قيادة ألمانيا إلى الحزب الاشتراكي.

أرمين لاشيت هو ابن مهاجر بلجيكي، ولد بمدينة آخن الألمانية المتاخمة للحدود مع بلجيكا وهولندا في 19 فبراير 1961 حيث يتم عامه الستين قبيل الانتخابات المقبلة، ينتمي ابويه إلى العرقية البلجيكية الناطقة باللغة الألمانية، متزوج من المانية ابنة مهاجر بلجيكي ايضاً، تنتمي إلى العرقية البلجيكية الناطقة باللغة الفرنسية ويعود جذور كلاهما إلى إقليم والونيا – تنطق فالونيا – البلجيكي ذو الثقافة الفرنسية عكس إقليم بروكسيل ذو الثقافة الألمانية وإقليم فلامندر ذو الثقافة الهولندية وثلاثتهم تحت التاج البلجيكي.

وعلى ضوء ما سبق، لا عجب ان يتحدث أرمين لاشيت اللغة الفرنسية بطلاقة، وهو مؤيد بكافة سياسات أنجيلا ميركل بإغراق الولايات الألمانية بالمهاجرين واللاجئين من إيران وتركيا وسوريا ودول الربيع العربي، من أجل استخدام تلك الايدي العاملة والعقول الهاربية من الشرق الأوسط في النهضة الألمانية على ضوء ارتفاع معدل إعمار الألمان وحاجة ألمانيا إلى الشباب والايدي العاملة.

ورغم اجتياح قرابة المليونين لاجئ من الشرق الأوسط لألمانيا بداية من عام 2015 وما تلا ذلك من أعمال إرهابية على يد اللاجئين الا ان لاشيت استمر في دعم سياسة ميركل، وتقرب من الجاليات الأجنبية باعتباره ابن مهاجر مثلهم خاصة الجالية التركية، حتى أصبح يطلق عليه في منطقة شمال الراين لقب “أرمين التركي”، وقد عمل في بادئ حياته صحفياً ومحامياً.

هكذا أخمدت ميركل الفتنة الترامبية داخل حزبها، كما قدمت كل ما لديها حتى لا يتحول حزب البديل إلى بديل الحزب المسيحي وذلك عبر قيادة موالية للعولمة والاتحاد الأوروبي على راس الحزب المحافظ، وايضاً قيادة ذات هوى يساري حتى تقطع الطريق امام الحزب الاشتراكي وحزب اليسار وحزب الخضر على تولى منصب المستشارية، على أمل ان تظل الزعامة الألمانية للاتحاد الأوروبي داخل الحزب المسيحي الديموقراطي حتى ولو على رأس وزارة ائتلافية يقودها أرمين لاشيت عقب انتخابات 26 سبتمبر 2021.

وسبق لميركل ان استبعدت وزيرة الدفاع السابقة أورسولا فون دير لاين من سباق خلافتها على ضوء ان دير لاين نخبوية أكثر مما يجب حيث تنتمي الى طبقة اثرياء ولاية ساكسونيا السفلى حتى ان والدها رجل الاعمال إرنست ألبرشت قد حكم الولاية ما بين عامي 1976 و1990 ولم يهزم الا امام عملاق الاشتراكية الألمانية جيرهارد شرويدر، ولقد وجدت ميركل ان تولي أورسولا فون دير لاين منصب رئيسة مفوضية الأوروبية بداية من 1 ديسمبر 2019 هو خروج مشرف للسيدة الثرية من سباق خلافة ميركل.

وعلى ضوء المشهد الضبابي في برلين، فان نتائج انتخابات سبتمبر 2021 لن تسفر عن إجابات للفائز بمنصب المستشار وشكل الحكومة والبرلمان ومدى قوة حزب البديل الألماني فحسب، ولكن ايضاً عن مستقبل اليمين القومي داخل الحزب المسيحي ومستقبل العمل السياسي لوزيرة الدفاع انجريت كرامب كارينباور والمرشح السابق لرئاسة الحزب فريدرش ميرتس، وهل تستمر “الميركلية” عبر أرمين لاشيت او يخسر الرجل المنافسة المقبلة وتجد ميركل نفسها في مهمة جديدة لإنقاذ الحزب سواء بالترشح لرئاسته مرة أخرى او استدعاء أورسولا فون دير لاين من بروكسيل حيث مقر المفوضية الأوروبية من اجل انقاذ اعرق الأحزاب الألمانية.

ورغم عدم وجود أدنى إشارة لمستقبل ميركل السياسي عقب الخروج من المستشارية في سبتمبر 2021، الا انه من المرجح أن أول سيدة تتولى منصب المستشارية في تاريخ المانيا سوف تسعى لتصبح اول سيدة تتولى رئاسة المانيا، حيث تنتهي ولاية الرئيس الاشتراكي المخضرم فرانك-فالتر شتاينماير عام 2022.

إيهاب عمر

باحث سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى